مواجهات الثروة في شرق الفرات
أدّت المواجهات التي حصلت بين "قوات سوريا الديمقراطية" ( قسد)، وبعض العشائر العربية في ريف محافظة دير الزور الشرقي، في بدايات شهر سبتمبر/ أيلول الحالي، إلى وقوع أعداد كبيرة من القتلى والجرحى بين الطرفين، وخلط أوراق سياسية. وعكست شراسة المواجهات مدى الاحتقان الذي لم يخرُج إلى العلن بهذه القوة قبل هذه الجولة التي تعدّ الأولى منذ بدأت "قسد" تتقدّم من هذه المنطقة، وتنتشر بصورة واسعة، لتضع اليد على آبار النفط والغاز. وبغض النظر عن الكمية المستخرجة من هذه الحقول في الفترة الماضية، فإن عوائدها تصبّ عند "قسد" التي تموّل منها نشاطها العسكري في المقام الأول، الأمر الذي أعفى واشنطن من أي أعباءٍ مادية، وقد كانت إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، صريحة، في ما يخصّ تنصّل واشنطن من أي التزام مالي تجاه "قسد".
تتعاطى بعض المنابر الإعلامية مع المواجهات على أنها حرب عربية كردية. وفي حقيقة الأمر، ليست "قسد" جيشا كرديا، بل هي خليط من أكراد وعرب وغيرهما، يقودها حزب العمّال الكردستاني، غير أن القرارات الاستراتيجية من اختصاص الطرف المشغّل لها، وهو الأميركي، الذي قام بتأسيسها خلال الحملة الدولية للحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وما يتفرّع عنها، وليس في سياق مشروع سياسي لحلّ المشكلة الكردية في سورية، أو مواجهة النظام السوري الذي تراجع وجوده في المنطقة إلى مربّعات رمزية صغيرة، محاصرة في وسط دير الزور والحسكة والقامشلي.
ويجدر التوضيح أن شرارة المواجهات تعود إلى صراع مصالح في منطقةٍ تحتوي على نفط سورية وغازها، وتشكّل عقدة استراتيجية بين سورية والعراق وتركيا ومحطّ صراع أميركي إيراني. وبالتالي، ليس سبب المعارك خلافا كرديا عربيا، ولكنه تطوّر إلى معارك بين عشيرة العكيدات "وقسد"، وتبيّن أن لأكثر من جهة مصلحة في تأجيجه، وتوظيفه ضمن أهدافها وتوجّهاتها. وهذا يعود إلى فشل الصيغة الأميركية لإدارة شمال شرق سورية، على أساس توكيل "قسد" بالجزء الأساسي من المهمة، التي بنت نجاحَها على خدمة المشروع الأميركي، وليس على أساس الأخذ في الاعتبار تطلعّات عرب المنطقة وأكرادها، ومكوّناتها الأخرى.
وفي هذا المقام، تجب الإشارة إلى أن واشنطن لم تقم بخطوات من أجل بناء تفاهماتٍ تأخذ طابع الديمومة بين العرب والأكراد من أهل المنطقة التي باتت تحت مظلّتها، بل لم تتدخّل لمنع تفاقم الخلافات بين "قسد" وأحد مكوناتها، مجلس دير الزور المحلّي، بسبب التنازع على الصلاحيات والمصالح، أي السلطة والثروة النفطية والغازية، ويبدو أنها كانت تريد من عدم الحسم في أي قضيةٍ من هذا القبيل، التحكّم بالطرفين، وتعزيز تبعيّة كل منهما لها، حتى لو وصل النزاع إلى الانفجار والمواجهة بالسلاح، مثلما حصل في الأيام الأخيرة. وبغضّ النظر عن الربح والخسارة في هذه الجولة، فإنها تنهي أي إمكانيةٍ لصيغة تفاهمٍ بين "قسد" وعشائر دير الزور في المستقبل، ومن المرجّح أن تتدخّل واشنطن لرسم الحدود، حسب قوة كل طرف، للحيلولة دون استفادة إيران، التي تتقدّم بقوة في شرق الفرات، وتعمل منذ عدة أعوام على بناء قواعد عسكرية كبيرة.
الوضع في شمال شرق سورية هشٌّ سياسيا، وغير منفصل عما تعيشه بقية مناطق الجغرافيا السورية من خراب وفوضى، نتيجة غياب الدولة السورية، وتنازع النفوذ والمصالح بين الأطراف المحلية والدولية، ما يرجّح استمرار الحروب البينية، وبالوكالة، والتلاعب بمصير سورية والسوريين، من التدخّلات الأجنبية. وطالما أنه ليس هناك حلّ يقرّره السوريون، سوف يتواصل استنزاف سورية، من خلال تدمير اقتصادها، وإشعال الحروب بين مكوّناتها، حتى يصل هذا البلد إلى حالٍ من الوهن، يفقد فيه صفة الكيان والدولة.