اخبار العراق الان

كركوك... برميل النفط والبارود

كركوك... برميل النفط والبارود
كركوك... برميل النفط والبارود

2023-09-12 00:00:00 - المصدر: العربي الجديد


عندما جلس المندوب البريطاني السامي لشؤون الشرق الأوسط، مارك سايكس، قبالة نظيره الفرنسي جورج بيكو، بين إبريل/ نيسان ومايو/ أيار من عام 1916، كانت القوات البريطانية قد وصلت قبل ذلك التاريخ بعامين إلى ميناء البصرة جنوب العراق، في طريقها إلى الزحف نحو بغداد، حيث لم تكن ثمّة مقاومة عثمانية كبيرة، ما عدا المعركة التي اندلعت في كوت العمارة، والتي تسببت بتأخّر الوصول البريطاني إلى بغداد، ناهيك عن واحدة من أكبر النكسات العسكرية التي تعرّض لها جيش الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس على يد الجيش العثماني.
أمسك كل من سايكس وبيكو، بإشراف نظيرهم الروسي ومشاركته، بخريطة التركة العثمانية الكبيرة والثقيلة، وبدأ التقاسم وتوزيع تلك التركة التي يبدو أنها ستبقى ثقيلة، حتى وإن بدت غير ذلك. يومها كانت شمس الدولة العثمانية على وشك الغروب، وكان لا بد من أن تأخذ الدول التي حاربت دولة الباب العالي وأنهكتها، حصّتها منها.
وضع الرجلان خريطة الشرق الأوسط، وبطريقة عشوائية وبخطوط متوازية، تم تقسيم التركة العثمانية في العالم العربي، قال سايكس إنه يريد أن "يرسم خطّاً يبدأ بحرف الألف (يقصد مدينة عكا، التي تسمّى بالإنكليزية Acre) وينتهي بالحرف كاف نسبة إلى كركوك"، كما يروي الكاتب البريطاني جيمس بار في كتابه "خطّ في الرمال". لكن بريطانيا ما لبثت أن نكثت بعهدها ووعدها للحليف الفرنسي، كعادة كل القوى الاستعمارية، فبعد أن تبيّن أن ولاية الموصل، التي تضم أربيل والسليمانية ودهوك وكركوك، تحوي مخزوناتٍ كبيرة من النفط، قرّر رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، لويد جورج، الالتفاف على اتفاقية سايكس بيكو، وبدلاً من أن تقف الجيوش البريطانية في بغداد وشمالها، تحرّكت صوب ولاية الموصل ومدنها الأخرى، وطبعاً كركوك كانت على رأس القائمة.

ما زالت دولة المكوّنات التي أريد لها أن تتشكّل عقب الغزو لا تهتدي إلى أي حلولٍ لكثير من أزمات البلاد

وكان النفط، لعنة كركوك كما كان لعنة العراق، منذ اكتشافه وتحوّل البلاد إلى محط أنظار الدول الكبرى، فمن تركةٍ عثمانيةٍ مثقلةٍ بصراعات الماضي، إلى واقع تتجدّد فيه المطامع والمطامح، كانت الأنظار تتجه إلى كركوك، المدينة بين بغداد وشمالي العراق، مدينة النار الأولية التي يقال إنّها مشتعلة فيها منذ قرابة أربعة آلاف عام.
يتجدّد الصراع على المدينة النفطية التي يقال إنها تطفو على خزين نفطي يقدر بـ140 مليار برميل، إذ يسعى إقليم كردستان العراق إلى ضمّ المدينة، بينما ترى فيها بغداد مدينةً لا تخضع لسلطة الإقليم... يدافع أكراد العراق بأنّ المدينة كردية الهوية، وأنها تعرّضت لحملة تعريب قسري قام بها النظام العراقي السابق خلال سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته. ويدافع تركمان العراق، الذين يعتبرون أنفسهم سكان المدينة وأكثريتها، بأن الأكراد فعلوا بعد 2003 ما فعله النظام السابق، وقاموا بحملة تكريد كبيرة، بينما يدافع العرب في المدينة عن وجودهم الأصيل فيها، قبل أن يأتي "البعث" إلى الحكم، وقبل أن تضع بريطانيا يدها على مدينة النفط.
وبغض النظر عن رواية كل طرفٍ وعن تكوين المدينة الديمغرافي، الذي بالتأكيد خضع لتغييرات قسرية كثيرة، إلا أن طريقة تحاكم السلطة الاتحادية في بغداد وسلطة الإقليم بشأن عائدية المدينة تثبت، مرّة أخرى، أن طبيعة النظام السياسي الذي شُكّل في العراق عقب الغزو الأميركي عام 2003 تآمرية لا تعترف بمبدأ الوطن الواحد، ولعل ذلك من أكثر ما يميّز حقبة العشرين عاماً المنصرمة من تاريخ العراق الحديث.
ما زالت دولة المكوّنات التي أريد لها أن تتشكّل عقب الغزو لا تهتدي إلى أي حلولٍ لكثير من أزمات البلاد، ومن بينها أزمة كركوك، المدينة التي يرى فيها الأكراد خلاصهم من الشراكة مع نظام بغداد السياسي، وخطوتهم الأهم نحو الاستقلال المنشود، على الرغم من أن مراجعة المواقف السياسية لطرفي الحكم في إقليم كردستان تشي بخلافاتٍ كبيرةٍ وعميقةٍ بين الاتحاد الكردستاني في السليمانية والوطني في أربيل، ناهيك طبعا عن رفض إقليمي، تركي وإيراني، لأي خطوةٍ من شأنها أن تسهم في سيطرة الأكراد على المدينة.

ما زالت سلطة بغداد تتعامل بانتقامية كبيرة إزاء الطموح الكردي

في المقابل، ما زالت سلطة بغداد تتعامل بانتقامية كبيرة إزاء الطموح الكردي، على الرغم من علمها المسبق أن كركوك ستبقى، على الأقلّ، في المستقبل المنظور، بعيدة عن سلطة الإقليم، غير أن ذلك لم يمنع السلطة الاتحادية من استخدام الابتزاز في التعامل مع شركاء الوطن، أو هكذا يُفترض أن يكون، فكثيرا ما تؤخّر رواتب موظفي الإقليم، وتدفع نحو تصعيد إعلامي خطير تجاه الشركاء.
ما جرى في كركوك قبل أيام ينذر بقادمٍ أسوأ، الشريك المهيمن على السلطة، الإطار التنسيقي، كان قد وعد "شركاء الوطن" من الأكراد والسُنة بتلبية مطالبهم، مقابل دعمهم حكومة إطارية برئاسة محمد شيّاع السوداني، وتم التوقيع على محاضر تلك التعهّدات. ولكن، وكما في كل مرّة، أخلَّ الطرف الممسك بالسلطة والمال والسلاح (الدولة) بتعهداته، فعندما حاول "الوطني الكردستاني" العودة إلى مقرّاته في كركوك "طبقا للاتفاق"، فوجئ بأن "السلطة" أعدّت كمينا محكما يتمثل بتظاهرات غاضبة رافضة عودة "الوطني الكردستاني" إلى مقرّاته، بينما ينتظر العرب السُنة الفرج النازل من المنطقة الخضراء أو السماء، لسحب المليشيات من مناطقهم، كما تعهد "الإطار".
ستبقى كركوك مشكلة غير قابلة للحلّ، كما بقية مشكلات شركاء سلطة بغداد الذين منحوهم الشرعية ولم يخرجوا سوى بقليلٍ من فتات مائدتها، وسيبقى الحكم في العراق حكم الغالب لا الأغلبية، حكم القوّة لا قوّة الحكم، الأمر الذي سيدفع الشركاء، في لحظةٍ ما، إلى البحث عن مخرجٍ قد تكون كركوك بوّابته، وهي النائمة على حقول من النفط وبراميل من البارود. 

كركوك... برميل النفط والبارود