تفاوتات مؤلمة في المشهد الاقتصادي العالمي
غادر الرئيس الأميركي، جو بايدن، فيتنام يوم الاثنين، بعد زيارة قالت وسائل إعلام إنها دعمت العلاقات الاقتصادية بين واشنطن وهانوي، في إطار الجهود المبذولة لتقليل اعتماد أميركا على استيراد المنتجات الصينية.
قام الخصمان السابقان بتطوير العلاقات الدبلوماسية رسمياً إلى "شراكة استراتيجية شاملة"، فيما اعتبره خبراء تعزيزاً للثقة بين الدولتين، حيث تسعى أميركا إلى الحصول على حليف في آسيا لمواجهة التوترات السياسية مع الصين، وأيضاً لتعزيز طموحاتها في مجال التقنيات الرئيسية، مثل صناعة الرقائق.
وتوغلت الشركات الأميركية أيضاً، بداية من آبل وحتى إنتل، في فيتنام بشكل واضح خلال الفترة الأخيرة، لتنويع سلاسل التوريد الخاصة بها، وهو ما أدى إلى الوصول إلى قدرة الإنتاج القصوى للعديد من المصانع الفيتنامية.
وأعلن البيت الأبيض مؤخراً عن "صفقة تاريخية" بين بوينغ للطيران والخطوط الجوية الفيتنامية، بقيمة 7.8 مليارات دولار. وقالت بوينغ إن الشركة الفيتنامية ستشتري 50 طائرة من طراز 737 ماكس.
توغلت الشركات الأميركية أيضاً، بداية من آبل وحتى إنتل، في فيتنام بشكل واضح خلال الفترة الأخيرة
وكانت زيارة بايدن، التي أعقبت حضوره قمة مجموعة العشرين في الهند، هي الأولى التي يقوم بها رئيس أميركي إلى فيتنام منذ زيارة دونالد ترامب عام 2019، وكان هدفها المعلن "تعزيز نمو الاقتصاد الفيتنامي المرتكز على التكنولوجيا"، وفقاً للبيت الأبيض.
وفي السنوات الأخيرة، ارتفعت التجارة البينية بين البلدين، في ظل الشراكة القائمة، والمتفق عليها منذ عام 2013، ما جعل الارتقاء بالعلاقات الأخير "مجرد تحصيل حاصل"، حيث استوردت الولايات المتحدة ما تقرب قيمته من 127.5 مليار دولار من السلع من فيتنام في عام 2022، مقارنة بـ 101.9 مليار دولار في عام 2021، و79.6 مليار دولار في عام 2020، وفقاً لبيانات الحكومة الأميركية.
والعام الماضي، أصبحت فيتنام ثامن أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، بعد أن كانت في المركز العاشر قبل عامين.
وقالت جانيت يلين وزيرة الخزانة الأميركية، في كلمة ألقتها العام الماضي في مركز أبحاث المجلس الأطلسي، إن الولايات المتحدة تحتاج لاستبدال اعتمادها على البلدان التي لديها معها توترات جيوسياسية، والتي لا يمكنها الاعتماد على إمدادات مستمرة وموثوقة منها.
وخلال الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، التي بدأت حدتها في الظهور العلني في عام 2018، شرعت الشركات من جميع الأحجام في نقل التصنيع إلى الأسواق الناشئة، مثل فيتنام والهند، بسبب الرسوم الجمركية.
وبعد تفشي الوباء، اضطرت الشركات، على نحو متزايد، إلى النظر في استراتيجيات تُعرف باسم "الصين زائد واحد"، وهو ما يعني تنويع مراكز الإنتاج كوسيلة لتقليل الاعتماد على قاعدة تصنيع واحدة.
وقد يكلف هذا الهروب الجماعي من الصين الكثير، ففي تقرير صدر عام 2022، قدر "رابوبنك" أن ما يصل إلى 28 مليون وظيفة صينية تعتمد بشكل مباشر على الصادرات إلى الغرب، ويمكن أن تغادر البلاد نتيجة "تحويل العلاقات التجارية نحو الحلفاء". وكتب محللون أنه من المتوقع أن تنتقل حوالي 300 ألف من هذه الوظائف، التي ترتكز على التصنيع منخفض التقنية، إلى فيتنام بدلاً من الصين.
بعد تفشي الوباء، اضطرت الشركات، على نحو متزايد، إلى النظر في استراتيجيات تُعرف باسم "الصين زائد واحد"، وهو ما يعني تنويع مراكز الإنتاج
وأشارت أليسيا غارسيا هيريرو، كبيرة الاقتصاديين في بنك "ناتيكسيس" الاستثماري، إلى ما أسمته "السخونة الزائدة"، قائلة إن الطلب على التصنيع في فيتنام قد تجاوز العرض في بعض الحالات.
وأوضحت أن فيتنام تتمتع بميزة كبيرة، كونها كانت الأولى في المنطقة في بناء قدرات سلاسل التوريد للكثير من القطاعات منذ سنوات.
وفيما يخص الصناعات الاستراتيجية، التي تنافس بها فيتنام الصين، إلى حد بعيد، أعلن بايدن بعد وصوله إلى هانوي يوم الأحد الماضي، عن شراكة جديدة في مجال أشباه الموصلات.
وقال البيت الأبيض في بيان إن الولايات المتحدة تدرك قدرة فيتنام على لعب دور حاسم في بناء سلاسل توريد مرنة لأشباه الموصلات، تمكننا من توسيع تعاملاتنا التجارية مع شركاء موثوق بهم.
وعلى صلة بالأمر، تعهدت شركة تصنيع الرقائق إنتل باستثمار مبلغ 1.5 مليار دولار في بناء مقر ضخم، مترامي الأطراف، يقع خارج مدينة هوشي منه مباشرة، وتقول إنه سيكون أكبر منشأة فردية للتجميع والاختبار في العالم. ويتوقع الفيتناميون أن يتبع ذلك المزيد من الاستثمارات في هذا المجال، في ظل تعزيز واشنطن لعلاقاتها مع هانوي.
من ناحية أخرى، حققت فيتنام معدل نمو 8% العام الماضي، متجاوزة بصورة واضحة معدلات النمو في أكبر وأقوى اقتصادات العالم، مثل الولايات المتحدة والصين ومنطقة اليورو.
حققت فيتنام معدل نمو 8% العام الماضي، متجاوزة المعدلات في أكبر وأقوى اقتصادات العالم، مثل الولايات المتحدة والصين ومنطقة اليورو
لكن فيتنام ليست الوحيدة التي تتحرك في هذا العالم، إذ إنه بخلاف السباق المحموم بين أميركا والصين والاتحاد الأوروبي، شهدنا مؤخراً اتفاق شراكة شاملة، وتوقيعاً على أكثر من خمسين اتفاقاً، بين السعودية والهند، واتفاقاً مشابهاً بين الإمارات وتركيا، وذلك بعد جولة ناجحة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في السعودية والإمارات وقطر، أهدى فيها سيارات كهربائية تركية الصنع لزعماء البلدان الثلاثة، واتفق بعدها على الحصول على استثمارات بعشرات المليارات من الدولارات في بلاده.
وخرجت سورية والعراق، اللتان أخافونا من مصيرهما، وليبيا وإيران، المحاصرتان لسنوات، من كهوفها، ودخلت جميعها في شراكات تجارية واقتصادية مع دول متعددة، بصورة تبشر بتطورات إيجابية على الناحية الاقتصادية.
وفي مصر، وخلال العامين الأخيرين على وجه التحديد، اللذين شهدا انطلاقات الدول بعد "حبسة" الوباء، تركزت جهود كل العقول في البحث عن مصادر جديدة للاقتراض، بعد أن استنزفنا المصادر القديمة، وتمت بعثرة ما اقترضناه على بناء قصور فارهة، ومشروعات قومية، لم تغن عن السؤال أو تطعم الأفواه.
من الناحية السياسية، تشترك فيتنام في العديد من الخصائص مع أغلب الدول التي ذكرتها، كونها دولة استبدادية، يحكمها حزب (أو شخص) واحد، ولا تتسامح مع أي نوع من المعارضة.
لكن من الواضح أن القيادة في بعض الدول تدرك أهمية توجيه العمل نحو مصلحة الشعوب، ولو لبعض الوقت، بينما يضيع آخرون كل الوقت في إقناع شعوبهم بأن "قوى الشر" لا تتوقف عن التآمر عليهم!