الصين والعرب والحزام والطريق
بدعوة كريمة من الحكومة الصينية حضرت الدورة الرابعة " للمنتدى الصيني العربي للإصلاح والتنمية". وقد طُلب مني أن ألقي كلمة في الجلسة الافتتاحية للدورة التي انعقدت في أحد الفنادق الفاخرة والواقعة في ضاحية المدينة الجامعية بمدينة شنغهاي.
وقد نظم تلك الندوة كل من وزارة الخارجية الصينية وجامعة شنغهاي للسياسة الدولية ومركز البحوث فيها الذي يحمل نفس اسم الجامعة.
وقد سعى الجانب الصيني إلى أن يكثف النقاش في المؤتمر حول مبادرة "الحزام والطريق" وما تنطوي عليه من فوائد جمّة على الاقتصادين العربي والصيني، وعلى مفهوم أطلقه الرئيس الصيني " شي جين بينغ" في خطابه الذي ألقاه في افتتاح القمة العربية الصينية الأولى، والتي عقدت بالعاصمة السعودية الرياض في شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام 2022، والاصطلاح هو بناء وتطوير "المجتمع العربي الصيني".
ولقد تحدثت إلى عدد من الخبراء والدبلوماسيين الصينيين لأفهم ماذا قصد الرئيس الصيني بالقول "المجتمع العربي الصيني".
واستمعت منهم إلى تفسيرات متشابهة تفيد بأن هناك ثمانية قطاعات لا بد من تطوير التعاون فيها بين العرب والصين. وهذه هي الطاقة بأنواعها الأحفورية والمتجددة، البنى التحتية وإنشاؤها، التجارة والتوسع فيها، والاستثمارات المشتركة في منطقتي العرب والصين، وتكنولوجيا الاتصالات بما فيها الذكاء الاصطناعي، والخدمات اللوجستية وسلاسل التزويد الدولية، والتبادل الثقافي والتعليمي، والخدمات الصحية والبحوث الطبية.
هذه الأرقام يجب ألا تؤدي إلى ضغوط صينية من أجل الاختيار بين الصين والغرب، أو بين الصين والهند. فالعرب لهم مصالح عميقة مع هذه الدول
وقد يقصر الكلام في أي من هذه القطاعات أو يطول، لكن المتحدثين من الجانب الصيني توسعوا في وصف الفرص الممكنة من هذا التعاون. وأما الجانب العربي فقد تمثل بحضور من مصر والعراق واليمن والأردن وفلسطين وسورية ولبنان وليبيا وتونس والمملكة المغربية والجزائر وجزر القمر، وكل من سلطنة عُمان ودولة قطر.
الجانب العربي تحدث عن توقعاته من الصين. وكان أهم هذه المطالب هو اتخاذ الصين موقفاً أوضح من القضايا العربية وبخاصة تجاه القضية الفلسطينية والتركيز على ضرورة الاعتراف بدولة فلسطين وعضويتها الكاملة في الأمم المتحدة، وضرورة إيصال الأمور إلى انشاء دولة فلسطينية على كامل الأرض المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
أما النقطة الثانية التي حظيت باهتمام واضح من الجانب العربي فهي تفهم الصين أن المصالح العربية معقدة ومتشابكة.
ومع الاعتراف بأن الصين هي الشريك التجاري الأكبر للدول العربية حيث بلغت قيمة التجارة المتبادلة بين العرب والصين 431 مليار دولار عام 2022، ما يعكس زيادة متسارعة عن السنوات التي سبقت ذلك، وأن حوالي 40% من الصادرات النفطية السعودية تذهب إلى الصين، إلا أن هذه الأرقام يجب ألا تؤدي إلى ضغوط صينية من أجل الاختيار بين الصين والغرب (مجموعة السبع)، أو بين الصين والهند. فالعرب لهم مصالح عميقة مع هذه الدول.
وفي جلسة خاصة مع مسؤول كبير في وزارة الخارجية الصينية، والذي عمل سفيراً في بعض الدول العربية، دار البحث بيني وبينه عن موقف الصين من مُبادرة الرئيس الأميركي جو بايدن، والقائمة على مقترح من الشيخ محمد بن زايد رئيس دولة الامارات، والتي ادعى نتنياهو أن الفضل يعود إليه فيها، وهو كعادته يعتقد أنه صاحب المبادرات الخلاقة كما أورد ذلك في خطابة في اجتماعات الأمم المتحدة بمدينة نيويورك.
والمبادرة هي طريق الهند التي تقترح بناء شريان بحري وبري يربط الهند بمنطقة الخليج العربية، ومنها إلى الأردن، ثم مستقبلاً إلى أوروبا عبر اليونان.
الجانب الصيني لم يعلن موقفه من هذه المبادرة حتى الآن. وقالوا إنهم لا يعارضون هذا المشروع إذا أمكن جعله جزءاً من مشروع الحزام والطريق، أو متناغماً معه.
أما إذا قصد به المضاربة أو تعطيل المبادرة الصينية، فإن الصين ماضية في مشروعها. ولما ذكرت هذا المسؤول بأن الدول العربية ذات العلاقة قد أخذت موقفاً ايجابياً من طريق الهند، رد المسؤول الصيني بأن هذا الأمر يمكن أن يبحث في الدورة الثالثة لقمة الحزام والطريق والتي صارت على الأبواب، مذكراً إياي أن مبادرة الصين قد مضى عليها عشر سنوات وشهدت تقدماً ملحوظاً ويصعب على أحد أن ينساها أو يتجاوزها.
ويرى الجانب الصيني أن قمة العشرين التي عقدت مؤخراً في الهند قد أضافت تحدياً جديداً بالنسبة لهم، وأن التقارب الأميركي الياباني الكوري الجنوبي الأسترالي في المحيط الهادئ يرسل إليهم برقيات ساخنة أن ذلك المحيط لن يبقى هادئاً لفترة طويلة.
الواضح أن سعي الصين للربط مع العالم العربي والدخول معه في اتفاقات تطبق ولا تبقى مجرد حبر على ورق يصب في خدمة مصالحهم الاستراتيجية العليا
إذاً، فالواضح أن سعي الصين للربط مع العالم العربي والدخول معه في اتفاقات تطبق ولا تبقى مجرد حبر على ورق يصب في خدمة مصالحهم الاستراتيجية العليا.
ولذلك أشاروا في أحاديثهم كثيراً إلى أن 21 دولة عربية بما فيها فلسطين قد وقعت على مذكرة التفاهم لمشروع الحزام والطريق، بينما بقيت دولة واحدة لم تفعل ذلك حتى الآن وهي الأردن. وقد امتنع الجانب الصيني عن التوسع هذا الموضوع معي.
لكنني وضحت أنّ للأردن ظروفاً هو الأقدر على حسابها وتقدير العواقب المترتبة عليها. والأمر الثاني هو أن مبادرة الحزام والطريق لم يرد فيها دور واضح للأردن، علماً أنّ موقع الأردن هام جغرافياً لذلك المشروع إذا أريد له التوسع في "المشرق العربي".
أما مبادرة طريق الهند فقد خصت الأردن بالذكر. ولذلك فإن المطلوب من الجانب الصيني أن يحدد تماماً دور الأردن في ذلك المشروع الطموح قبل أن يسألوه أن يتخذ قراراً قد يغضب بعض شركاء الأردن مثل الولايات المتحدة دون أن تكون فوائد المشروع الصيني قد اتضحت.
إنّ التاريخ والجغرافيا من المنظور العربي يخدمان المشروع الصيني. فالتاريخ قد علمنا أنّ عمر العلاقات العربية الصينية قديم جداً، وأن العرب والفرس هم العمود الفقري لطريق الحرير القديم، حيث كان الطرفان يجلبان الخشب والحرير والحبر والورق والشاي وملح البارود من الصين لتباع عربياً وفي أوروبا.
وقد كان العرب بالذات هم من حمل المعارف والمنتجات الفكرية من الصين إلى الغرب، كما فعلوا عندما نقلوا التوابل والشاي من الهند إلى أوروبا. ولا يجوز أن نقبل من مبادرة الحزام والطريق أن تكون أقل أثراً في القرن الحادي والعشرين عما كانت عليه قبل عشرات القرون.
السؤال المطروح على العرب وتتوقع الصين عليه جواباً هو: " هل سيكون مشروع طريق الهند متكاملاً مع مبادرة الحزام والطريق، أم هل سيكون منافساً ضاراً لها؟
أما جغرافياً، فالعرب يربطون المحيط الهندي عبر باب المندب إلى البحر الأحمر، ومنه إلى قناة السويس فالبحر المتوسط، ومنه عبر مضيق جبل طارق إلى المحيط الأطلسي، فهل من المعقول أن تتجاهل مبادرة الحزام والطريق كل هذه الممرات الضيقة المفضية إلى كتل مائية كبيرة، وهي إن فعلت ذلك لن يبقى للمشروع الصيني أي قيمة تذكر.
من ينسى التاريخ والجغرافيا فسوف يعودان إليه لكي ينتقما منه على ذلك الإهمال. والوطن العربي يصبح أكثر أهمية إذا أضفنا إليه مضائق هرمز وتيران، وازدياد حركة العمران في منطقة البحر الأحمر.
ولذلك، فإنّ السؤال المطروح على العرب وتتوقع الصين عليه جواباً هو: " هل سيكون مشروع طريق الهند متكاملاً مع مبادرة الحزام والطريق، أم هل سيكون منافساً ضاراً لها؟
والدورة القادمة لقمة الحزام والطريق يجب أن تعطي إشارات واضحة للصين، وأكد الجانب الصيني على ضرورة أن يروا نتائج القمة العربية الصينية قد بدأت تأخذ طريقها إلى التنفيذ.
وصحيح أننا لا نريد من الصين وهي القطب الثاني في هذا العالم أن تضغط علينا استعجالاً للتعاون معها على حساب علاقاتنا مع الغرب، ولكن من الإنصاف أن نطمئن الجانب الصيني أننا جادون في التعامل معهم.
لقد كانت الرحلة من عمّان عاصمة الأردن إلى عاصمة الاقتصاد شنغهاي في شرق الصين شاقة وطويلة نظراً لقصر المدة، إلا أنها كانت بالنسبة لي مليئة بالتحليل الجاد، والحديث الاقتصادي السياسي الثقافي الغني.
وقد قدم الباحثون العرب الذين حضروا، وكذلك رئيس وزراء العراق الأسبق، السيد عادل عبد المهدي، مداخلات متميزة.
والصين التي زرتها أكثر من عشر مرات منذ عام 1980، قد منحتني الفرصة لأن أشعر أنني كنت أركب آلة الزمان. الوقت هو المتغير لكن المكان ثابت رغم أن ما يبنى على ذلك المكان يغير ملامحه تغييراً شاملاً فتشعر أنك مسافر عبر النجوم حيث يتغير الزمان والمكان. إن معجزة الصين تأخذ بالألباب. ولا نستطيع بأي حال أن نتجاهل هذا البلد، العابر إلى المقدمة، في العقود المقبلة.