التحرش الجنسي في الجامعات.. صمت في الأروقة الأكاديمية عن الجريمة المتصاعدة
بغداد اليوم - متابعة
شذى (30 سنة، أسم مستعار) تخرجت ضمن الأوائل على دفعتها قبل سنوات، وتوظفت معيدة في ذات كليتها بواحدة من جامعات بغداد، قبل أن يتم قبولها لدراسة الماجستير، فاعتقدت بأن طريقها سالك نحو تحقيق حلمها الأكبر بالحصول على شهادة الدكتوراه، لولا أستاذها الذي اعترض طريقها مطالبا اياها بـ”علاقة سرية” ليتحول حلمها إلى كابوس!.
تشهد الجامعات العراقية مئات من حالات التحرش الجنسي التي تدفع بعشرات الفتيات الى التخلي عن حلم اكمال دراستهن أو يخضعن للضغوط ويقعن في شباك علاقات تحول حياتهن الى جحيم، بحسب ناشطين مدنيين يقومون بتوثيق بعض قصص التحرش وسط قيود مجتمعية تمنع مواجهة ما بات يشبه الظاهرة.
تقول شذى وهي تقاوم نوبة بكاء، ان الاستاذ الذي كان يشغل منصب رئيس القسم والمشرف على رسالتها في ذات الوقت، كان لطيفاً وودوداً ومتعاوناً معها ومع زميلاتها وزملائها ولم ترصد شيئاً غير طبيعي في سلوكه خلال سنة دراستها الأولى خاصة انه يكبرها بثلاثين عاما.
لكن الاستاذ ظهر بوجه آخر في السنة التالية لدراستها عندما تعرفت على موظف شابٍ في الكلية، فنشأت بينهما علاقة حبٍ واتفقا على الزواج. كان بين حبيبها واستاذها خلاف شخصي قديم، وبدا أن الأخير يحاول الانتقام منه عبرها “كان يتصل بي ليلاً ويرسل لي عبارات مليئة بالغزل” ذكرت ذلك وهي تمرر اصبع يدها على راحة يدها الأخرى على أنه هاتفٌ جوال.
وعندما واجهته طالبة منه الكف عن ذلك، أبدى غضبه من تفضيل حبيبها عليه، وقال انه لن يسمح بزواجهما مطلقاً، وذكرها بأنه يستطيع تدمير مسيرتها العلمية.
ونفذ فعليا وعيده، فأهمل قراءة ما يتم تصحيحه في الرسالة متعمداً ليهدر وقتها، وكان يطلب منها مصادر استحال عليها العثور عليها وفقاً لروايتها، وعندما كانت تناقشه في ذلك يجيبها بهدوء كأنه يصف لها دواءً لعلاج حالتها المرضية المستعصية “علاقة سرية أو زواج سري وستنتهي معاناتك”.
حين عبرت له عن رفضها التام، هددها بعبارة كررها بصوت عال في وجهها “سوف تندمين”، ونفذ تهديده بعدها بأسبوع من خلال إيصال معلومات إلى ذويها بوصفه رئيس قسم في كليتها ويخشى على مصلحتها، أفادت بأنها على علاقة بموظفٍ سيء السمعة وزير نساء، فما كان من والدها ذي النزعة القبلية إلا أن أجبرها على التخلي عن دراستها وملازمة المنزل مع تعرضها لتعنيف جسدي.
حاولت شذى، الخروج من سجن المنزل، من خلال تواصلها مع ناشطات يعملن في منظمات معنية بحقوق المرأة للتدخل وإقناع والدها بمواصلة دراستها، دون جدوى، كما تشير إلى أن والدا حبيبها تقدما لخطبتها، لكن والدها رفض وبشدة مستنداً إلى المعلومات التي أوصلها اليه رئيس القسم.
“لم يتوقف الأستاذ الدكتور رمز الاخلاق والنزاهة عند ذلك”، تقول شذى بعد ان تمالكت نفسها عقب نوبة بكاء: “وصلت به الدناءة أن يطلب من صديقة لي أن تخبرني بأن بوسعه إقناع والدي باعادتي للدراسة بل ومساعدتي في الدكتوراه بعدها، بمجرد موافقتي على ما يريد”. تستدرك “سلطته الادارية وضعف القانون والوصمة الاجتماعية، تجبرنا على الصمت حتى الموت بحسرتنا”.
القانون لا يردع
معظم قصص التحرش في الجامعات العراقية الحكومية أو الأهلية على حد سواء، تظل تفاصيلها حبيسة صدور الضحايا، وهن إما تدريسيات أو موظفاتٌ أو طالبات، خشية الفضيحة الاجتماعية وتحولهن من معتدى عليهن وعلى حقوقهن إلى مذنبات فتفرض عليهن عقوبات من ذويهن، بمنعهن من الاستمرار في الوظيفة أو الدراسة، بحسب ناشطين وهيئات تدريسية.
وربما يصل الأمر الى أبعد من ذلك بقتلهن بداعي غسل العار، كما أن العجز عن الإثبات بأدلة تطلبها الإجراءات التحقيقية والمحاكم، يقف حائلاً أمام مضيهن في شكاواهن.
لذلك لا توجد احصائيات متعلقة بالتحرش، ويعتقد مصدر في وزارة الداخلية أن السبب في ذلك يكمن في السرية التي تعامل بها مثل هكذا قضايا، وأن معظمها تنتهي بالصلح أو عدم متابعة الشكوى بسبب غياب الأدلة.
وأيضاً لأن رئاسات الجامعات لديها وسائلها في معالجة أية شكوى تردها دون الحاجة إلى تدخل وزارة الداخلية، فبوسعها فرض العقوبات الإدارية، وأيضاً يتم التعامل مع تلك الشكاوى بسرية للحفاظ على سمعة المشتكية أو الكلية والجامعة ككل، وفقاً لما قال.
وطلب المصدر بتوخي الدقة في التعامل مع ملف التحرش في الجامعات، بقوله: “قضايا التحرش يصعب إثباتها دون أدلة، فليس كل كلمة يقولها أستاذٌ في الجامعة تعني تحرشاً جنسياً، كما أن طلب الجنس مقابل درجة امتحانية مثلاً، أمر معقد وهو ليس تحرشاً فقط، بل يشكل ابتزازاً واستغلالاً وظيفياً” ويستدرك: “في النهاية لتكون هنالك قضية لابد من توافر أدلة”.
راجعت معدة التقرير، مواقع وصفحات بعض اكبر الجامعات العراقية، فلم تجد بين أخبارها ما يشير الى وجود حالات تحرش يجري التحقيق فيها او اتخاذ اجراءات بحق متحرشين، رغم تداول عشرات قصص التحرش التي تخرج أحيانا من محيط الجامعة الى خارجها. كما لم تجد اي ملفات محاكمة في هذا المجال، ما يكشف حجم التعقيدات التي تواجه مثل هذه القضايا والعجز الكامن لمواجهتها، وهو ما يفسر تحولها الى ظاهرة.
لكن ليست جميع قصص التحرش تبقى طي الكتمان، ففي حادثة نادرة، قامت طالبة في كلية الطب البيطري بجامعة بغداد، باستغلال مناسبة في الكلية حضرها عدد كبير من الطلاب وأساتذة الكلية في شهر نيسان 2023، لتشكو تعرض الطالبات للتحرش اللفظي من قبل عناصر الأمن في الجامعة عند المداخل والبوابات.
وعندما طلب منها العميد أن تراجعه في غرفته للتحدث في الأمر، رفضت ذلك بصوت عال، وقالت لا داعي لكتمان الأمر، فأنا أعرف المتحرش وهو يقف الآن قبالتي، ثم أشارت بيدها الى أحد عناصر الأمن الذي خرج لحظتها من القاعة. وذكرت مصادر من الكلية، بأن الشخص المقصود عاد لمزاولة عمله في اليوم التالي، بدلاً من معاقبته، فيما فرضت العمادة عقوبة على الطلاب بمنع إدخال الهواتف المحمولة الى الكلية.
المادة 402 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 تعاقب “بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر وبغرامة لا تزيد عن ثلاثين ديناراً أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من طلب أموراً مخالفة للآداب من آخر ذكراً أم انثى أو تعرض لأنثى في محل عام بأقوال او افعال أو اشارات على وجه يخدش حياءها، وتكون العقوبة الحبس لمدة لا تزيد عن ستة أشهر والغرامة التي لا تزيد عن مئة دينار إذا عاد الجاني إلى ارتكاب جريمة أخرى من نفس نوع الجريمة التي حكم من أجلها خلال سنة من تأريخ الحكم السابق”.
وبحسب القاضي أياد محسن، فان هذه المادة أصبحت بحاجة للتعديل لأسباب أوردها في مقال نشره بموقع مجلس القصاء الأعلى، أولها متعلقة بالعقوبة التي نصت عليها، إذ يراها “خفيفة ولا تتناسب مع جسامة الفعل الجرمي ولا تشكل رادعا عقابيا مناسبا، ولا سيما أن أغلب الدول عدلت نصوصها القانونية المتعلقة بجريمة التحرش بما يحد من تفشي الجريمة في المجتمع”.
والثاني، لأن المادة تناولت شقين:”الأول تمثل بطلب الأمور المخلة بالحياء من ذكر أو انثى وهذا الشق يشكل جريمة تختلف عن جريمة التحرش، كمن يطلب من آخر رفع جزء من ثيابه، أما الشق الثاني فهو المتعلق بجريمة التحرش وقد اشترط لمعاقبة المتعرض للأنثى أن يكون تعرضه قد حصل في مكان عام في حين أن بعض الجرائم ربما ترتكب في أمكنة خاصة كمحلات البيع الخاصة أو المنازل كذلك فان هذا الشق تجاهل جرائم التحرش التي يتعرض لها الأطفال والصبية من الذكور”.
ويضيف سبباً آخر لضرورة تعديل هذه المادة، هو لمواكبة التطور الذي رافق وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة الأمر جعل الكثير من الأفراد يقعون ضحايا للتحرش.
ويصنف قانون العمل العراقي رقم 37 لسنة 2015 التحرش الجنسي في العمل على أنه أحد أشكال التمييز الجنسي غير القانوني، ويعرف التحرش الجنسي بأنه: “أي سلوك جسدي أو شفهي ذي طبيعة جنسية، أو أي سلوك آخر يستند إلى الجنس، ويمسّ كرامة النساء والرجال، ويكون غير مرغوب وغير معقول، ومهيناً لمن يتلقاه؛ ويؤدي إلى رفض أي شخص أو عدم خضوعه لهذا السلوك -صراحةً أو ضمناً-؛ لاتخاذ قرار يؤثر على وظيفته”.
ويفرض هذا القانون عقوبة على المتحرش بالسجن لمدة لا تزيد عن ستة أشهر أو بغرامة مقدارها مليون دينار عراقي أو بإحدى هاتين العقوبتين.
ظاهرة متنامية
تصف المحامية والمدافعة عن حقوق المرأة زينب محمد، ظاهرة التحرش في العراق بأنه”وباءٌ خطيرٌ، فالمرأة تتعرض للتحرش في مقر عملها، وللمساومات لدى مراجعتها الدوائر الحكومية، والمضايقات وهي تقود سيارتها، حتى أصبح كل ذلك أمراً طبيعيا، إضافة إلى أن حصولها على المناصب والوظائف يستلزم في كثير من الأحيان اشباع غرائز المتنفذين”.
وتتهم المجتمع بأنه هو المشجع على تنامي واستمرار ظاهرة التحرش بالمرأة، وتؤكد: “وردتني خلال السنوات الأخيرة عشرات الاستشارات من استاذات وطالبات جامعيات وطبيبات ومعلمات وموظفات يطلبن فيها ايجاد حلول لمشاكل تعرضهن للتحرش دون اللجوء الى القضاء، لأنهن يعرفن مسبقاً بأن معرفة عائلاتهن بما يحدث لهن سيؤدي إلى حرمانهن من متابعة الوظيفة أو العمل وسيتعرضن للعنف وتشوه السمعة….”.
وذكرت المحامية بان صعوبات عديدة تواجه الراغبة بتقديم شكوى ضد المتحرش بها، بدءاً من مركز الشرطة والإجراءات فيها، إضافة إلى التحقيق وإرسال القضية إلى المحكمة المختصة، وتنوه: “المتحرشون ولا سيما في الجامعات، أساتذة أو رؤساء أقسام، هم أصحاب نفوذ سياسي أو مدعومون من جهات نافذة، وهم يختارون فريساتهم بعناية، فلا يقدمون على التحرش بمن لديها سند أو نفوذ”.
وهي ترى بأن الكثير من الأساتذة الجامعيين بعد 2003 وهي السنة التي سقط فيها النظام العراقي السابق “حصلوا على شهادات عليا من جامعات غير رصينة، أو يتم شراؤها من دول الجوار ويتسنمون على أساسها مناصبهم الأكاديمية” على حد تعبيرها.
المحامية زينب، أوصلتنا بواحدة من موكلاتها، تدعى هيام، وتعمل موظفة إدارية بموجب عقد في كلية أهلية ببغداد، قالت بأن مستثمراً في الكلية كان يتحرش بها لفظياً، لكنها كانت تقابل ذلك بدبلوماسية وتترك المكان او تدعي الانشغال او الرد على الهاتف “لكي لا أخسر وظيفتي خصوصاً أنني حصلت عليها بصعوبة”.
ومع تكرار تحرشاته، ولجوء طالبة إليها كان هو نفسه قد تحرش بها، واجهته ليكف عن ذلك “قلتُ له أن يتوقف عن تصرفاته التي تشبه تصرفات المراهقين، وأننا في كلية محترمة ولسنا في سوق أو زقاق …”.
احتجاجها هذا أدى إلى جدال بينهما تعمق إلى خلاف معلن وأدى إلى مجلس تحقيقيٍ كانت نتيجته اعفاؤها من الوظيفة بفسخ عقدها، تقول عن ذلك “كنت أتوقع حدوث ذلك لأن المؤسسة أهلية ولا تخضع لرقابة حكومية، والمستثمر يعني صاحب المال، بمعنى صاحب القرار وأنا لم أكن سوى موظفة بعقد”.
هيام، أرادت رد الاعتبار لنفسها بتقديم شكوى ضد الكلية والمستثمر المتحرش، لكنها واجهت مسألة الإثبات، فروايتها عن تحرشه بها لم تكن كافية، واللواتي تعرف بأنه تحرش بهن من موظفات وطالبات بضمنهن التي لجأت اليها، امتنعن عن الإدلاء بشهاداتهن “خوفاً من الفضائح والأهالي أو فقدان الوظائف” تقول بكثير من الحسرة.
أستاذة في كلية إنسانية بواحدة من جامعات بغداد (لا نشير إلى الأسماء الصريحة للمتحدثات وأماكن عملهن بطلب منهن) أكدت بأن التحرش بات بالفعل ظاهرة في الجامعات، وأن الطالبات “أكثر الواقعات ضحايا بسبب قلة خبراتهن، ومحاولتهن التستر على الأمر قدر إمكانهن خوفاً من ردود أفعال أرباب أسرهن”.
وذكرت بأنها رصدت خلال عقدين من عملها التدريسي العشرات من حالات التحرش في الجامعة، كان آخرها لطالبة في المرحلة الأولى، وبينت: “كانت مرعوبة عندما استنجدت بي، وأخبرتني أن عامل الخدمة في الكلية التي تدرس فيها يتحرش بها، ويراقبها أينما ذهبت داخل الجامعة، وذات مرة رصدها وهي جالسة في حديقة الكلية بجانب زميل لها في ذات قسمها، فالتقط لها صوراً ومقطع فديو، وأخذ يرسلها إليها ويهددها بإيصالها إلى أهلها”.
وتشير الأستاذة إلى أن عامل النظافة هذا، لو لم يكن يعلم بأن هنالك أساتذة يتحرشون بالطالبات فضلاً عن الحرس الجامعي دون أن يتعرضوا لما يستحقونه من عقاب لما أقدم هو على ذلك. وأكدت بانها تواصلت معه وهددته بالشكوى لدى رئاسة الجامعة، فامتثل وترك الطالبة وشأنها.
وتساءلت الأستاذة: “كم طالبة تعرضت للتحرش دون أن تجد من تشكو له، وربما أدى ذلك إلى انحرافها أو توقفها عن متابعة تعليمها أو تعرضها لضرر نفسي”.
عواقب نفسية واجتماعية
المختص بعلم النفس، د. زياد النجم، يقول بأن تأثير الصدمة بعد حادثة التحرش لا ينتهي، وقد تعيش المتحرش بها حالة من الصدمة المتجددة، عندما”تسترجع الذكريات المتعلقة بتلك الحادثة، أو عند توافر المثيرات النفسية التي تجعلها تمر بنفس المشاعر التي عاشتها في تلك التجربة، إذ يعد التحرش الجنسي من أبرز الصدمات النفسية العنيفة التي تعاني منها الكثير من السيدات حول العالم”.
ويعدد مراحل التحرش، بدءا بمرحلة الصدمة، أي “بحدوث فعل التحرش سواء كان لفظيا أو جسديا أو بأي أسلوب آخر. وتحدث الصدمة نتيجة عدم توقع ذلك الفعل، واختبار عدد من المشاعر بشكل سريع ومفاجئ ومتعاقب، ويغلب عليها الشعور بالخوف والرعب والتوتر والعجز، فضلًا عن الشعور بالظلم”.
ويشير إلى أن بعض الفتيات اللائي يستطعن مواجهة فعل التحرش أو التعامل مع المعتدي، قد لا يمررن بالمراحل التالية، وأن دراسات أثبتت بأن السيدات والفتيات اللاتي يستطعن الدفاع عن أنفسهن ضد المتحرش، يشعرن بوطأة أقل من غيرهن ممن لا تقدرن على المواجهة.
المرحلة الثانية وفقاً لـ د. زياد، هي “اضطراب ما بعد الصدمة” وتشعر المتحرش بها خلالها بالظلم والقهر ولوم الذات، بسبب عدم القدرة على الدفاع عن النفس أو عدم اتخاذ أي إجراء ضد المعتدي، وقد تشعر بعدم الثقة في النفس، وتصاب ببعض الأعراض النفسية والبدنية، والتي تتمثل بـ” التوتر، اضطرابات النوم، اضطرابات الشهية، الحزن، العزلة الاجتماعية، الاكتئاب، رد الفعل العنيف”.
أما المرحلة الثالثة فتتمثل بالذكريات، ويوضح: “عندما تسترجع المتحرش بها التجربة، قد تمر بنفس المشاعر التي مرت بها وقت وقوع الحادثة، وتشعر بنفس الخوف والقلق والذعر، ويختلف تقديرها لذاتها، وينتابها شعور بالكره والغضب واللوم، وقد ترسم بعضهن سيناريو آخر لتلك الواقعة في مخيلتها تستطيع فيه انتزاع حقها من الجاني.
الباحثة النفسية المتخصصة جاوان حسين، تقول بأن ظاهرة التحرش الجنسي أصبحت “جزءاً من حياتنا نحن النساء العراقيات من البصرة حتى إقليم كردستان”، وترجع أسبابها الى “التربية والنشأة والظروف الاجتماعية، والاضطرابات النفسية لدى المتحرش والبحث عن اللذة من خلال الشعور بالضعف والانكسار”.
وتضيف إلى كل ذلك سبباً رئيسياً هو:”الانفتاح الفجائي في الجامعات والمؤسسات الحكومية والشركات والمنظمات خلال العقدين الأخيرين، بدون أن تكون هنالك قواعد سلوكيات واضحة تحدد العلاقة بين العاملين والحدود التي يفترض وجودها والعقوبات التي تفرض في حال تجاوزها”.
وتوجه الباحثة نقدها نحو المجتمع العراقي وتحمله المسؤولية إزاء ظاهرة التحرش “الآباء يضعون معظم تركيزهم على البنات بسبب الوصمة الاجتماعية والأفكار الدينية والقبلية المسيطرتين على التنشئة والتربية، ويتركون الذكور دون تربية صحيحة، على اعتبار أن الرجل في المجتمع العراقي لا تتضرر سمعته كما يحدث للمرأة”.
وبناءً على ذلك ووفقاً لتجربتها كباحثة نفسية وناشطة مدنية تعمل في منظمة دولية، تؤكد جاوان، بأن: “المتحرش هو أيضاً ضحية، كونه يعيش محروما او على الأقل لا يعيش برفاهية أو كرامة كما يعيش أقرانه في الدول المتحضرة، لكي يفرغ طاقته أو في الأقل يتشكل لديه وعيٌ وإدراك أنه ليس من حقه أن يتحرش جنسياً، ولهذا قبل أن نوجه أصبع الاتهام ونفرض العقوبات على المتحرش، يجب ان نسأل أنفسنا، لماذا هو أقدم على ذلك؟ ”
وتتفق مع الآراء التي تقول بأن خوف المتحرش بها من المجتمع الذي سيعاملها كجانية إذا طلبت عونه في قضية تحرش، هو الذي يدفعها إلى السكوت “هنالك من تتجاوز الأمر مقنعة نفسها بأنه وضع قائم في العراق فتستسلم له أو هي أصلاً لا تملك الوعي الكافي لاعتبار التحرش بها تجاوز قانوني على حقوقها الأساسية”.
أما عن الآثار النفسية التي يخلفها التحرش في الضحية، فتقول، بأنها تختلف حسب نوع التحرش”فاللفظي تختلف آثاره عن الجسدي”. وهي تعيب على وسائل الإعلام والجهات المتخصصة، اهتمامها بالتحرش الجسدي، وترك التحرش اللفظي بإيحاءات جنسية مباشرة وغير مباشرة “هو أكثر ما تتعرض له النساء والفتيات في العراق، وتأثيره بالغ فيهن، وقد يعمل على فقدانهن ثقتهن بأنفسهن”.
على النطاق الجسدي، تعدد الباحثة، حالات شائعة تصاب بها ضحية التحرش: “كفقدان الشهية والأرق والأمراض الهضمية والسمنة ومشاكل في النوم واصابتها بالالتهابات وفي حال الاعتداء الجنسي قد تصاب بالعدوى الفايروسية الجنسية، وقد يصبن بأمراض القلب وغيرها، هذا فضلاً عن التداعيات النفسية كالكوابيس ونوبات البكاء وفقدان الثقة بالمحيط والاكتئاب الحاد”.
وتلفت جاوان، إلى أن من المهم جداً أن تخضع المتعرضات للتحرش إلى العلاج النفسي، غير أن ذلك يصطدم وفقا لما تقول بقلة مراكز العلاج النفسي في العراق. وذلك مرده عدم الاهتمام العام بهذا الحقل نتيجة لفقدان الوعي بأهميته، تؤكد الباحثة ذلك بأسف.
الأستاذ الجامعي المتخصص بعلم الاجتماع د. وليد قاسم، يرى بأن الشائع في الجامعات العراقية هو التحرش بالطالبات، وبنسب قليلة يكون هنالك تحرش بالموظفات والتدريسيات، وأن السبب الرئيسي في بروز هذه الظاهرة هو: “حصول البعض ممن لا يستحقون على شهادات تؤهلهم لتولي مناصب أكاديمية، نتيجة استغلالهم للظروف التي مر بها العراق خلال العقدين الأخيرين والقوانين والفرص التي فسحت لهم المجال ليحصلوا على تعيينات بواسطة علاقات أو وساطات من ساسة أو جهات نافذة”.
ويقول بان موضوع التحرش هو من المواضيع المسكوت عنها لأن: “مجتمعنا لا يرغب في فضح وتعرية نفسه، فيحاول التكتم على حوادث التحرش وهذا ما يصعب كثيراً من مهمة وضع حد للظاهرة أو في الأقل تقليلها”.
ويعتقد بأن سكوت الضحية، سواءً كانت طالبة أو أستاذة أو موظفة، خطأ يصفه بالكبير لأن ذلك “سيؤدي بالمتحرش الى تكرار فعلته مرة ثانية وثالثة حتى يصبح الأمر كأنه حق من حقوقه”. لكنه في ذات الوقت يقر بأن الضحية لا تستطيع في كثير من الأحيان إيجاد من ينصفها أو يحميها من التحرش وذلك لأن:”الرقابة في الجامعات العراقية ضعيفة جداً، ولا يكون هنالك تدخل إلا إذا تطور الأمر إلى شكوى أو أصبح قضية رأي عام، مع العلم أن الكثير من الإدارات في الكليات المختلفة تعرف عن بعض التدريسيين والمنتسبين أنهم متحرشون، ويتم السكوت عنهم في غالب الأحيان”.
ويؤكد د. وليد، ضرورة توعية الطالبات الجامعيات فيما يخص التحرش وما يتوجب عليهن فعله إذا تعرضن اليه أو تجنب التعرض اليه، ولاسيما الجديدات على الجو الجامعي لكونهن “قليلات خبرة “وأن تكون تلك التوعية عبر اعلام الجامعة أو الكلية، أو الأهالي وأن “يبقي أولياء الأمور الأبواب مفتوحة للحوار مع بناتهن الجامعيات وأن لا يتعاملون معهن كمذنبات ويحملنهن مسؤولية تعرضهن للتحرش، بل ينبغي وقوفهم إلى جانبهن بالنصح والتوجيه المستمرين وحتى التدخل لوقف ما يتعرضن إليه بتقديم الشكاوى إذا اقتضى الأمر” .
وينفي أن يكون الموضوع متعلقاً فقط بالمتحرش، فحسب وجهة نظره، قد يكون الطرف الثاني أي المتحرش به هو من هيأ الأجواء لذلك، ويبين:”بعضهن يستغلن ضعف تدريسي ما أمام النساء، فيحاولن التقرب منه للحصول على درجات إضافية خصوصاً إذا كانت المادة صعبة، فيسارع هو بالتحرش اللفظي أو حتى الاعتداء الجنسي إذا كانت لديه فرصة لذلك”.
كما يشير إلى أن بعضاً من التدريسيات او الموظفات، قد يثرن موضوع التحرش في حال كانت هنالك مشاكل شخصية بينهن وبين تدريسيين أو موظفين آخرين:”وعادة ما يقترن هذا بشكاوى رسمية سواءً داخل الحرم الجامعي أو حتى داخله بغية الانتقام”.
شاهندا(38 سنة-أسم مستعار) كانت موظفة في جامعة بغداد، اقترنت سنة 2015 بتدريسي يحمل شهادة الدكتوراه في ذات الجامعة، وبعد أن أنجبت مولوداً أقنعها بالبقاء في المنزل لتربيته، فامتثلت لذلك. وذات يوم كان طفلها مريضا فقررت الذهاب إلى منزل أهلها الذي يبعد نحو 20 دقيقة بالسيارة، من أجل الحصول على مساعدة عائلتها في الاعتناء به.
تقول:”جمعت ثياب ابني من الحمام، وكنت أهم بالدخول إلى غرفة النوم، عندما سمعت صوت زوجي وهو يخبر أحدهم عبر هاتفه الجوال أنه سيقوم بالأمر بمجرد أيصالي الى بيت أهلي؟”، لم تسأله عما سيقوم به، لكن الأمر ظل يشغل بالها.
عندما عادت للمنزل برفقته ظهيرة اليوم التالي وجدت كراساً متروكاً على الطاولة في المطبخ لطالبة في المرحلة الثالثة كان أسمها مخطوطاً على الورقة الأولى فيه. كانت متأكدة بأن الكراس لم يكن هناك في اليوم السابق، وأخذت الشكوك تساورها.
احتاجت إلى شهر من أجل الحصول على رمز هاتفه الجوال، بعد متابعة ورقابة مستمرين، وأصيبت بصدمة كبرى عندما فتحت هاتفه في غفلة منه، وعثرت على محادثاته مع طالباته في تطبيق الواتساب، لم تخبره بشيء، وظلت تتفحص هاتفه كلما دخل الحمام أو غط في النوم.
تقول، خلال شهرين من المتابعة “اكتشفت انه أرتبط بسبع طالبات بزواج المتعة، لمدد قصيرة. هو مريض نفسياً، لقد أبقى على محادثاته معهن جميعاً، إضافة الى اللواتي يحاول اغوائهن”.
تتقلص ملامحها وتتابع بغضب:”احداهن تطلب منه دفع مصروف اسبوعي لها، وأخرى تطلب مبلغاً من أجل عودتها الى منزلها في محافظة مجاورة، وردوده كانت متشابه أنه سيدفع مقابل الجنس…”.
تصمت شاهندا لحظات ثم تقول بصوت عالٍ:”بعض الطالبات سألنه عن أسماء الطيور الموجودة في منزلنا، واخريات أبدين اعجابهن بأثاثنا وسألنه عن أسعارها”، تلطم خدها بكفها معبرة عن صدمتها:”كان يجلبهن إلى بيتي أثناء غيابي”.
ثم واصلت متذكرة:”هو ومجموعة من زملائه أساتذة في الجامعة لديهم كروب في الواتساب، ولديهم حوارات مقززة عن أجسام الطالبات وأيهن مناسبة لقضاء بضعة أيام معها في السرير بزواج المتعة”.
تقول بأنها واجهته واتهمته بخياناته المتعددة، وأنه أجابها بهدوء بأنه لم يحد عن الشرع: “أي واحدة تطلب مساعدتي مادياً أعرض عليها زواج المتعة، ولم أغصب أية واحدة منهن على ذلك، كما أنني بزواجي منهن منعتهن من الانحراف وبيع اجسادهن مقابل المال!”.
لم تستطع تقبل واقع أن تكون زوجة له، فلجأت إلى بيت أهلها وطلبت الطلاق، وهي مستمرة في إجراءات دعوى التفريق التي أقامتها ضده، لكنها تشعر بالأسف لأن ذلك لن يحمي الطالبات الجامعيات منه.
متحرشون متنفذون
أمر التحرش الجنسي لا يقتصر على جامعات العاصمة بغداد، إذ تواصلت معدة التقرير مع موظفات وأستاذات في عدد من الجامعات بمحافظات أخرى، وحصلت على شهادات أظهرت قصصاً مشابهة، ففي كلية إنسانية بجامعة الموصل، ذكرت موظفة هناك أن معاون العميد للشؤون الإدارية، معروف على نطاق الكلية بل والجامعة بأنه متحرش “لكنه مسنود من جهة سياسية تمنع محاسبته، حتى أن أبنا له قدم أوراق مزورة ليقبل في دراسة الماجستير بالكلية، وعند اكتشاف أمره، اكتشفت رئاسة الجامعة بإجراء تحقيق دون فرض أية عقوبة” تقول الموظفة.
وتتابع:”هو يستهدف المتزوجات فقط، موظفات أو حتى طالبات دراسات عليا، ويخيرهن بين منافع قبولهن عشيقات له أو التأخر عن الترقيات ومشاكل في التقديم للدراسات أو عرقلتها، ويخبرهن أن لديه شقة في أربيل، بعيدة عن أعين الناس في الموصل”.
تفكر قبل الإجابة عن سؤال معدة التقرير إن كان قد تحرش بها، ثم تجيب:”نعم لقد فعل ذلك، وأردت الذهاب لمقابلة رئيس الجامعة د. قصي الأحمدي، خلال لقاءاته الأسبوعية بالموظفين، وإبلاغه بما وقع معي، لكن زميلاتي منعنني لأن شكاوى قدمت من قبل ولم يحدث شيء، كما أنني خشيتُ من ردة فعل زوجي واحتمال منعه لي من الاستمرار بالدوام”.
وفي البصرة، تقول أستاذة جامعية، بشيء من السخرية: “أي موظف أو أستاذ يفشل في حياته الزوجية ينصب لي الكمائن ويعرض علي علاقة أو زواجاً مؤقاً، فقط لأنني أرملة وأبدو لهم ضعيفة”.
آخر تجربة لها كانت مع شخصية ذات منصب اداري رفيع في جامعتها ومنتم لحزب سياسي يملك ميليشيا معروفة، رفض تمرير كتاب ترقيتها إلا بزواج المتعة، ووفقا لروايتها، فقد وعدها في حالة موافقتها على”القفز بين المناصب مثل لاعبة جمباز!”.
تهز رأسها وهي تقول ذلك، وتستدرك: “حتى لو سجلت صوته وأرسلته إلى وزير التعليم شخصياً، لن يحدث شيء، لأن الحزب الذي يسند هذا المتحرش هو ذاته الذي أوصل الوزير الى منصبه!”.
سجى، طالبة في جامعة الكوفة، ترى بأن الكتمان هو أفضل شيء في حالات التحرش وتقول: “نحن الطالبات ضعيفات، وكثير منا وصلت الى الجامعة بطلعان الروح، بسبب الظروف المعيشية ورفض الأهالي اكمال الدراسة، ومن سيصدقني أنا مثلا ويكذب أستاذاً جامعياً يبدو أمام الناس محترماً ومتديناً، باختصار نحن لا سند لنا، وإذا تقدمنا بشكوى نصبح في أقل تقدير وجبة نميمة للجميع، والكل في الكلية والجامعة سينظر إلينا كسيئات خلق”.
وتعتقد سجى، بأن التحرش أصبح أمراً عادياً يبدأ “من دخولنا للجامعة حيث حراس الأمن، ومن ثم الطلاب وننتقل الى تحرشات الأستاذة التي إذا جوبهت بالرفض يبدأ التحجج على الطالبة مثلاً بالغيابات أو الزي الرسمي وغير ذلك”.
تقول مريم، وهي تدريسية لديها 23 سنة خدمة جامعية، ان الجامعات الحكومية كما الاهلية تشهد منذ اكثر من عقد “كوارث تعليمية واخلاقية” في ظل غياب الادارات الحازمة والتخاذل في تطبيق القوانين مع بروز الابتزاز والتهديد من قبل أشخاص هم في الغالب أصحاب نفوذ دخلوا أروقة الجامعات بقوة سلطة الأحزاب.
وتضيف “حين لا تستطيع محاسبة هولاء فلن تستطيع محاسبة الآخرين أيضا.. لقد عاثوا فيها خرابا فعمت كل اشكال الانتهاكات من نجاح دون استحقاق، الى بيع الاسئلة الامتحانية وكتابة البحوث، وانتهاء بالانتهاكات الاخلاقية والتحرش بأنواعه”.
وتتساءل، بينما تشبك يديها على رأسها “اذا كان هذا هو وضع التعليم العالي ومن يفترض بانهم يمثلون نخبة المجتمع، فكيف سيكون الحال في بقية المواقع؟.. كل القيم تنهار ومازال هؤلاء يغطون انفسهم في أحاديثهم وجلساتهم العامة برداء الدين”.
المصدر: نيريج