فرق غنائية فلسطينية: حكاية بدأت منذ خمسين عاماً
حرّض انطلاق الثورة الفلسطينية في عام 1968، على نهضة فنية شكلت رافداً للمقاومة، ليتماهى الحراك الفني مع كل مرحلة نضالية، يؤثر ويتأثر بها. وفي المقدمة من هذا الحراك، كان الغناء والموسيقى؛ إذ شكلّا سيرة وطنية وإنسانية، وحاذَيَا كتفاً بكتف حركة المقاومة. ومن بين من سلَكَ هذا الدرب، فنانون كثيرون، منهم من تقدموا فرادى، ومنهم من انتظموا في مجموعات أو فرق، لتثري هذه الأخيرة الأغنية الفلسطينية بروح غلب عليها التحدي والنضال. هنا، رصد لأبرز تلك الفرق الغنائية الفلسطينية.
فرقة بلدنا
من نادٍ للأطفال في جمعية السيدات العاملات في مدينة الرصيفة في الأردن، تأسست فرقة بلدنا. أسسها وضاح زقطان عام 1977، وضمت قرابة 30 طفلاً وثلاثة عازفين. كانت أعمالها في البداية موجهة بصورة رئيسية إلى الأطفال، وبعد رحيل مؤسسها إلى بيروت عام 1982 للالتحاق بالحراك المقاوم هناك، تسلم الملحن والمغني كمال خليل الفرقة، ليُعدل الوجهة إلى الأغنية الوطنية والسياسية، إلا أن الوجهة الجديدة أوصلته إلى المعتقل.
رغم الاعتقال، لم تتوقف الفرقة عن نشاطها، فإن كان اتصال كمال خليل بالعالم الخارجي قد انقطع، إلا أن شاعر الفرقة، إبراهيم نصر الله، وجد حيلة ذكية لإدخال قصائده إلى خليل في سجنه. وذلك حين علم نصر الله أن الصحف اليومية مسموح بقراءتها، فكان يُهرب القصيدة عبر المكان المخصص لمقاله اليومي في صحيفة الشعب، ويتلقفها خليل. وبعد تلحينها، يحفظه لأسرته مع كل زيارة، لتغنى القصيدة في الحفلة المقبلة للفرقة.
حاصرت الأحكام العرفية نشاط "بلدنا" في تلك الفترة، وتكررت التهديدات والمضايقات الأمنية، لكن ذلك لم يحل دون إطلاق الأغاني التي ذاعت في عموم الأردن، وفلسطين، والمنافي، وفي المخيمات. ما دعا الأجهزة الأمنية إلى اعتقال المؤسس كمال خليل عدة مرات.
في تلك الفترة، أذاعت الفرقة أغنيات مثل "في ناس زي الشجر" و"هلي زغرودة" و"راية شعبي" و"علمونا" و"جدلي يا أم الجدايل" و"مجدك لكل الناس" و"نشيد الانتفاضة" و"عكا". وبتحريض من الانتفاضة الأولى، أمست كل حفلة من حفلات "بلدنا" مشروع تظاهرة داعمة لفلسطين، وأصدرت "بلدنا" خلال تلك المرحلة ألبومين، هما "نشيد الانتفاضة" (1989)، و"على جذع الزيتونة" (1990)، بينما استمرت المضايقات الأمنية، فمنعت السلطات الأردنية الفرقة من السفر حتى عام 1995.
وبسبب رحيل كثير من أعضاء "بلدنا" إلى الولايات المتحدة، توقف نشاطها في الفترة بين 1996 وحتى 2002، ثم عادت مع عودة الانتفاضة الثانية، وإن كانت استعادة الزخم تأخرت حتى حرب 2006، لتتوزع حفلات الفرقة بين العراق ولبنان والولايات المتحدة الأميركية وألمانيا والبرازيل.
ومع كل الصعوبات التي شهدتها الفرقة وتوقف نشاطاتها مرات عديدة، إلا أن ذلك لم يؤثر على حضورها، لتقف اليوم على أعتاب نصف القرن، تغنت خلاله بالأرض، والبندقية، والمقاومة، وشجرة الزيتون، وزهرة الحنون؛ إذ اعتبرت أن كل تفاصيل الحياة الفلسطينية هي موضوع صالح للغناء، على اعتبار أن المعركة مع العدو الصهيوني كانت دوماً على كامل هذه المساحة، وأن مواجهته ينبغي أن تكون على كامل هذه المساحة أيضاً، كما يقول كمال خليل مؤسس الفرقة.
فرقة العاشقين
في مخيم اليرموك للاجئين في دمشق، شكل الأب الهباش من أولاده الستة، خليل وخالد ومحمد وفاطمة وآمنة وعائشة، فرقة لإحياء حفلات ومناسبات المخيم (1977)، وذاع اسم الهباش حين كُلف الشاعر الفلسطيني المعروف أحمد دحبور بوضع المشاهد الغنائية لمسرحية من إنتاج دائرة الثقافة والإعلام بمنظمة التحرير، فرشح الفرقة لأداء افتتاحية العمل المسرحي، عندها تعرف الملحن حسين نازك على الفرقة مطلقا عليهاً اسم "أغاني العاشقين" بعدما التحق بها.
منذ البداية، ارتبطت الفرقة بالهم الفلسطيني، فقدمت أغاني مسلسل "بأم عيني" الذي استعرض معاناة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، من خلال قصص واقعية. كذلك، شاركت الفرقة في مسلسل "عز الدين القسام" عن حكاية المناضل السوري وقصة استشهاده في فلسطين. كان العملان من إنتاج دائرة الإعلام والثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية.
ارتبطت فرقة العاشقين إثر ذلك بمنظمة التحرير، وأمست أعمال الفرقة سجلاً وطنياً للمخيم، وللتهجير، وللثورة، وللعمل الفدائي. خلال هذه الفترة الثرية، أذاعت الفرقة ثلاثة ألبومات، ألبوم "بأم عيني" (1977) من ألحان حسين نازك وكلمات شعراء فلسطينيين مثل محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، إلى جانب شعراء الفرقة محمد حسيب القاضي وأحمد دحبور وصلاح الدين الحسيني.
ضم الإصدار أغاني المسلسل التلفزيوني، من أشهرها "والله لازرعك بالدار"، و"يا دامع العين والكفين"، و"مويل الهوى"، و"يا ظلام السجن خيم"، تلاه ألبوم "مغناة سرحان والماسورة" (1979) ثم ألبوم "عز الدين القسام" (1981)، وضم أغاني من أشهر ما تغنت به الفرقة، مثل "جفرا"، و"يا فدائي اسمع"، و"السجن ما يعيبني" و"القيد لي خلخال"، تبعه ألبومات: "دلعونا وظريف الطول" (1983) و"طير الغربة" (1985) و"مغناة الأرض" (1987) و"أطفال الحجارة" (1988) و"مغناة الانتفاضة" (1989) وغيرها.
خلال هذه المسيرة، اشتهر من الفرقة محمد الهباش الذي لقب وقت ظهوره بالطفل المعجزة، لأدائه المتمكن وصوته القوي المعبر، وحسين المنذر، صاحب الصوت الجبلي الذي أمسى المغني الرئيسي للفرقة، إلى جانب أبرز شعراء الثورة الفلسطينية، مثل أحمد دحبور وصلاح الدين الحسيني وتوفيق زياد ويوسف الحسون.
الزخم الفني الذي حملته هذه المرحلة لـ"العاشقين"، لم يمنع أن تتأثر بما لحق بحركة فتح من انشقاق (1983)؛ إذ انفصلت الفرقة عن منظمة التحرير، لتتراجع أنشطتها، لكن وبينما كان الهباش وعائلته قد استقروا في تونس (1987) انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987) فأعاد الفرقة تحت اسم "جذور العاشقين"، لتطلق عدداً من أشهر أغانيها: "سبل عيونه"، و"فلسطين مزيونة"، و"زغردي يم الجدايل". عاودت الفرقة التوقف عام 1993 بسبب نقص الإمكانات المادية. ومع انطلاق الانتفاضة الثانية (2000) استعادت الفرقة نشاطها، فقدمت ألبومين، هما: "ملحمة جنين" و"أبطال السرايا"، تغنت فيهما ببطولات المقاومة وتضحياتها.
الشهر قبل الماضي، رحل المغني الرئيسي للفرقة حسين المنذر، ليخلف أكثر من 300 عمل غنائي عن فلسطين، خاتما أعماله بأغنية "رصاص العز" التي أدّاها قبل أشهر، مشيداً بجماعة عرين الأسود، وهي مجموعة مسلحة تأسست في الضفة الغربية سنة 2022، وتنتمي إلى عدة تنظيمات مثل: كتائب شهداء الأقصى وكتائب القسام وكتائب سرايا القدس، لتكون آخر كلماته المغناة: "يا ربعنا هلو، يا ربعنا جودوا، اللي يرضي بالذل إيش قيمة وجوده، واللي ما يرضى القهر، بيفرض وجوده".
فرقة صابرين
ظهرت فرقة صابرين في أوائل الثمانينيات، كتجربة حاولت أن تجد لها مساراً متمايزاً. فبينما مال عدد من الناشطين إلى الساحة الغنائية إلى الموسيقى الغربية، وآثر آخرون التمسك بالموسيقى الشرقية، اتخذت "صابرين" موضعاً وسطاً، مزجت فيه بين الشرقي والغربي، لتنتج توليفة جديدة، حداثية، لكنها أيضا فلسطينية.
تأسست الفرقة وقتها على يد عدد من الموسيقيين الشباب، في مقدمتهم الملحن والموزع سعيد مراد والمغنية كاميليا جبران. وفي عام 1987، توسعت "صابرين"، فصارت مؤسسة للتطوير الفني (1987) تُعنى بفن الموسيقى تحديداً وبدمجه مع مختلف الفنون الأخرى، رافعين شعار "الموسيقى والتغيير".
استلهمت الفرقة أغانيها من التراث الفلسطيني ومن القوالب الفلكلورية. كذلك، هضمت تجارب رائدة، تمثلت فيما قدمه أسماء مثل الرحابنة ومارسيل خليفة والشيخ إمام. استفادت "صابرين" كذلك من الموسيقى الغربية على تنوعاتها، أما الكلمات فقد اعتمدت على أبرز الشعراء الفلسطينيين، مثل حسين البرغوثي ومحمود درويش وسميح القاسم وفدوى طوقان.
وعلى مدار عمرها الممتد منذ الثمانينيات، توالى على عضويتها كثير من الموسيقيين والفنانيين، على رأسهم بالطبع الملحن والمؤسس سعيد مراد، والمغنية الرئيسية للفرقة كاميليا جبران، وعازف الغيتار عيسى فريج، والمغني وعازف الكمان عودة ترجام، والمغني وعازف العود والإيقاع وسام مراد، وكثيرين غيرهم.
منذ لحظة التأسيس، اهتمت "صابرين" اهتماماً بالغاً بالجوانب التقنية وجودة الصوت، ميزها أيضا نزوع قوي إلى التجريب والبحث المستمر عن هوية موسيقية حديثة للأغنية الفلسطينية، وبرز هذا منذ الألبوم الأول "دخان البراكين" (1984)، إذ تنوعت أغانيه بين الفلولكلور الفلسطيني، إلى جانب أعمال تنتمي إلى شعراء حداثيين، مثل درويش والقاسم، بينما عكست الموسيقى هذا النزوع للجديد، وواكب صدور الألبوم الثاني الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987)، وتجاورت في أغانيها الحالة الطربية للموسيقى الشرقية والموسيقى التعبيرية الأوبرالية، بينما عكست الكلمات ما شهدته الأراضي الفلسطينية وقتها من فدائية وتضحيات، واستوحت الفرقة اسم الألبوم من أجواء موت خيمت على وطنها جراء سقوط عدد كبير من الشهداء.
وخلافاً لـ"موت النبي"، جنح الألبوم الثالث "جاي الحمام" (1994) إلى التفاؤل تماهياً مع أجواء اتفاقية أوسلو، وفي الـ2000، صدر الألبوم الرابع "على فين"، وهو الألبوم الأخير لكاميليا جبران مع الفرقة، ليصدر الخامس "معزوج" بصوت الممثل والمغني الفلسطيني محمد بكري. وفي السنة الماضية أغلقت "صابرين" مؤسستها الفنية بسبب مضايقات الاحتلال وقلة الموارد المالية بعد نشاط فني امتد لما يزيد عن أربعين عاماً.