فلسطين في السينما: شظايا من أشرطة متناثرة هنا وهناك
مع عملية "طوفان الأقصى"، عادت الأسئلة المتعلقة بتوجهات ونظريات السينما الفلسطينية إلى واجهة المشهد الثقافي العربي والعالمي. هذه السينما الفقيرة، تحمل اشتغالات وتساؤلات وتوجهات من عملوا بها وحملوا قضيتها، لها سينماتوغرافية فريدة مصبوغة بمفردات النضال ومغمسة بأسئلة الثورة.
الإنتاج السينمائي المؤسساتي في فلسطين معدوم، ولا وجود لسينماتك مُمأسسة ترفد الباحثين بمعلومات ومراجع، مع وجود شظايا سينمائية تتناثر هنا وهناك، وكتابات مبتورة تطرقت إلى واقع سينمائي مُحتلّ، نستطيع قراءة واقع السينما الفلسطينية عبر وضعها في سياقها التاريخي، والموجات المتواترة التي أثرت على الإنتاج كماً ونوعاً، وأخيراً سياقات السينما العربية من حولها، وتحديداً في مصر وسورية.
اجتهد سينمائيون ونقاد في ترميم تاريخ هذه السينما وتوصيفه وتصنيفه، وكأنهم علماء آثار، يتعاملون مع الفيلم على أنه قطعة أثرية أو جسر واع، يمتد إلى الواقع ليفضح زيف انطباعاتنا عنه. وعبره، يصبح سؤال السينما الفلسطينية أكثر إلحاحاً وآنية. لكل باحث ومخرج نظريات فيلمية، تنتهي لتكون حواراً متشابكاً بين الأسئلة والأجوبة، ومنه نتعرف إلى تصنيف أسئلته الضمنية التي تَشْغَله. هذه الأعمال مجتمعة تضبط خطوات الثورة وترسخ حقائق تاريخنا.
في كتابه "فلسطين في السينما العربية" (المؤسسة العامة للسينما في سورية، 2008)، يبدأ بشار إبراهيم (1962 - 2017) بقراءة حال السينما الفلسطينية، بوضعها في محيطها الجغرافي الحيوي، والشروط التاريخية الموضوعية آنذاك. يحدد لكل مرحلة إيجابيات وسلبيات وتطورات مفتاحية، أثرت على مساهمة هذه السينما بثورة بلادها. يحدد أيضاً أهدافاً حساسة ولا يشتَرط تحقيقها جميعاً في عملٍ فيلمي واحد. بعض هذه الشروط تفككت عبر الزمن، كمعالجة النضال العربي في مواجهة المشروع الصهيوني، وبعضها الآخر واجبٌ ومركزي كحق العودة، والتحرّر من آنية الحدث.
انتماء فلسطين لمحيطها الجغرافي القريب، وطرق التنقل والتجارة التي كانت متاحة قبل نكبة عام 1948، مرّرت إليها السينما كبدعة. فمنذ أن بدأت العروض السينمائية الأولى في مصر عام 1896، وفي سورية عام 1908، على يد أجانب، بدأت كذلك في فلسطين. حدث العرض الأول في فلسطين عام 1900 في فندق "يوربا" في القدس، وقدمه رجلٌ إيطالي الجنسية يدعى كولارا سلفاتور. عُرِضَ فيلم "يوميات محاكمة درايفوس" الذي أخرجه جورج ميلييه عام 1899، ووظفته المنظمة الصهيونية لتعزيز ادعاءاتها بعدم إمكانية اندماج اليهود في مجتمعاتهم. كان العرض مثالاً ساطعاً عن تسخير السينما في قالب آيديولوجي.
البدايات اللاواعية
تتضارب الشهادات عن بدايات السينما في فلسطين. تحضر أسماء قليلة كميشيل صقلي من مواليد مدينة حيفا عام 1915، وهو مؤسس السينما في الأردن في فترة لاحقة، وأحمد صدقي الدجاني أيضاً اسمٌ حاضر بقوة. في عام 1935، صوّر إبراهيم حسن سرحان فيلماً تسجيلياً قصيراً (20 دقيقة) عن زيارة الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود لفلسطين، وتنقله بين القدس ويافا. هذا الادعاء تقابله شهادة لأحمد حلمي الكيلاني يؤكد فيها بأن الفيلم حققه جمال الأصفر وسرحان ساعده فقط. في السينما الروائية، يتكرر الإرباك ذاته، فالفيلم الروائي الفلسطيني الأول الصادر عام 1946، "حلم ليلة"، حققه صلاح الدين بدرخان، وتبين لاحقاً أن بدرخان مصري.
الأخوان بدر وإبراهيم لاما، هما الأكثر جدلاً في هذا التاريخ. بعد عودتهما من تشيلي إلى الإسكندرية، عملا في السينما. إبراهيم يكتب ويخرج ويصوَّر، والبطولة المطلقة لبدر. وكان فليمهما "قبلة الصحراء" الصادر عام 1927 أول فيلم عربي ينتج بأموال وخبرات عربية. تكمن المشكلة في جنسية الأخوين لاما، فهما فلسطينيان وأعمالهما تركّزت في مصر فقط، ولها طابع تاريخي إسلامي، ومع عدم وجود تشريح واضح لعوامل تحديد جنسية الفيلم، حسب مكان تصويره أو البيئة التي يتناولها أو جنسية المنتج أو المخرج يبقى السؤال حولهما من دون إجابة.
السينما السورية لاحقة على المصرية. في دمشق عام 1928، تأسست شركة "حرمون فيلم" على يد مجموعة مغامرين سينمائيين، وأنتجوا فيلم "المتهم البريء" لمخرجه أيوب بدري، بقيت الأعمال بنسق غير منظوم حتى تأسيس المؤسسة العامة للسينما 1963، معظم الأعمال مصريَّة وسوريَّة، وخصوصاً الفلسطينيَّة مفقودة والتأريخ فقير وبسيط. نستقرئ منه في أحسن الأحوال مزاجَ متفرج يلقي نظرة أولى على اختراع العصر، وتخبطات بدايات هذا الفن في بلاد تستورد أدوات صناعته.
سينما ما بعد النكبة
ثمة جملة من المفاهيم ترسخت بعد نكبة فلسطين عام 1948، وأخذت تتمظهر بأشكال طفوليَّة حالمة في السينما، من علاماتها البارزة، الكفاح الفلسطيني المسلح وقائد المشروع القومي جمال عبد الناصر، ثم احتلال سيناء، والمجازر التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين، والهجرة. يُسمّي بشار إبراهيم نتاج هذه المفاهيم في السينما بالتعويض، أي سينما تعوض بالخيال ما خسرناه في الواقع، وتذهب بالمتفرج إلى الحل مباشرةً، حيث يحضر فيها الفدائي القوي والرشيق والذكي، ويقابله الجندي الصهيوني الأبله واللئيم (نموذج شايلوك الشكسبيري في ذروته). هذه الحالة التعويضية التي أرضت الجماهير، قابلتها رؤية نقدية عقلانية باردة، وما زال هذا الصراع النقدي-الجماهيري يفّعَل فعله بإكمال العمل السينمائي.عبر أكثر من نصف صفحات الكِتاب، يوثق إبراهيم أسماء كثيرة عملت في السينما، يبدأ بالأفراد ثم ينتقل إلى المخرجين ومن بعدها الدول. يأتي أولاً الممثلون والمخرجون الفلسطينيون، كالممثل الفلسطيني يوسف حنا (1941 - 1993) وشراكته مع المخرج والمونتير العراقي قيس الزبيدي في عمله "بعيداً عن الوطن" الصادر عام 1969، الذي اعتُبر لاحقاً النقلة النوعية في سياق الفيلم التسجيلي العربي. بحث حنا عن نكهات جديدة وفهمٍ أعمق للسينما، فأصبح نجم السينما في سورية.
أديب قدورة مواليد عام 1942 قضاء عكا. قدم بطولة مطلقة في عمل أول له، ذلك بعد أن اكتشفه نبيل المالح خلال بحثه عن بطل لفيلمه "الفهد" عن رواية حيدر حيدر. بطولة قدورة قدمت البطل الشعبي السوري على أفضل ما يكون. تجربة مشابهة قدمها الممثل بسام لطفي في فيلم "السكين"، الصادر عام 1971، لخالد حمادة، واستطاع أن يجسد دوره أيقونة عن الفتى الفلسطيني المعذب.
في مصر، قبل الأربعينيات، لم يكن هنالك أي عمل يذكر يهتم بقضية وطنية، أتت الأفلام الأولى عن القضية الفلسطينية تقليدية وساذجة، كفيلم "فتاة من فلسطين" (1948) لمحمود ذو الفقار. استمرت الحال حتى العدوان الثلاثي على مصر. هذا المفصل أفرز لاحقاً أفلام تعتبر عِماد السينما الجديدة في مصر، ومن أهمها على سبيل المثال لا الحصر "الناصر صلاح الدين" الصادر عام 1963 ليوسف شاهين، وهو أول تجربة تتفحص علاقة القضية الفلسطينية مع الماضي الذي سيتحول درساً للحاضر.
مرت السينما المصرية في مرحلة تخبطات في الفترة ما بين حكم الناصرية القومي والحكم الساداتي الليبرالي. صُهرت القضايا كلها ومعها الفلسطينية في قالب بروباغندا واحد، نتجت عنه أداة إعلامية مهمتها تفتيت ما تبقى من نظام الناصرية وآثاره. في مطلع الثمانينيات، أتى جيل جديد من المخرجين. عاطف الطيب كان الألمع بينهم جميعاً، وتوج مسيرته بفيلم "ناجي العلي" الصادر عام 1992. السينما التسجيلية المصرية ركزت قبل حرب تشرين التحريرية على عرض القضية الفلسطينية، خصوصاً العدوان الصهيوني على غزة، بعد أن أُلحقت إدارياً بمصر حتى 1969. بعد الحرب، ركزت الأفلام على البطولات الشعبية المصرية، وأصبحت في معظمها تقارير إخبارية لا أكثر.
في سورية، قدمت المؤسسة العامة للسينما فيلم "إكليل الشوك" عام 1968، للمخرج نبيل المالح، وصدرت ثلاثية "تحت الشمس" عام 1970 لمحمد شاهين ومروان مؤذن ونبيل المالح، عن ولادة الثورة الفلسطينية. جميع هذه الأعمال كانت من بنات أفكار منظومة الوعي السائد حينها. هكذا، قدم المخرج اللبناني برهان علوية فيلم "كفر قاسم" 1975 وكان علامة بارزة ووثيقة سينمائية.
في الثمانينيات وما بعدها، قدم مجموعة من المخرجين، كمحمد ملص وأسامة محمد، عدة أعمال تتقاطع مع بعضها بثيمات عديدة، مثل عودة قوافل المتطوعين منكسرين ومُتخمين بالجراح، تقابلها صورة المحارب مكسوراً، وتحول أجيال الآباء والأجداد بسبب الهزيمة إلى عقبات أمام جيل الأبناء.
أما التسجيلية التي بدأت موجتها بفيلم "البناء والدفاع" لمروان حداد 1969، عن تصدي الجيش السوري للعدوان الصهيوني، تطورت بشكل مثير للاهتمام. وكان الاسم الأول هو العراقي قيس الزبيدي، إذ حضر على عدد كبير منها كمونتير، وأخرج مجموعة خاصة به كانت ذات رؤية تجريبية متقدمة عن غيرها، وله كتابات متخصصة في هذا النوع.
لم يحدث إنتاج سينمائي حقيقي في البلدان العربية، يضع القضية الفلسطينية محوراً من محاوره الأساسية. بعض الدول اهتمت بقضاياها المحلية، وأخرى تقصدت أنظمتها المطبعة غض البصر عن فلسطين. في الأردن، توقف الحديث عن الموضوع الفلسطيني سينمائياً بعد خروج المقاومة الفلسطينية من الضفة الشرقية. بعض الإنتاجات المغاربية والتونسية اتهمت بالتطبيع بسبب الصورة التي كرستها بوضع شخصية يهودية مسالمة أمام شخصية إسلامية متطرفة، وما زالت إلى اليوم تتمظهر هذه الوضعيات في أفلام لا تضع شخصياتها ضمن بيئتهم لتتفحصهم بإنصاف.