الإنسانيّة إذ تمشي على قدميها والسياسة على رأسها!
لماذا نشهد هذا التباين الواضح بين الشعوب والحكومات في العالم، عندما يتعلّق الأمر بقضايا سياسية وإنسانية واضحة مثل الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون، خصوصا في غزّة؟ فهل متطلبات الحكم منفصلة إلى هذا الحدّ عن إرادة الشعوب؟ وإنْ كان يصلح هذا تفسيرًا للواقع في دول مثل الصين وروسيا ومصر والسعودية ... فكيف يمكن فهمُه عندما يحصل في دولٍ مثل بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا؟ وكيف لنا أن نميّز بين إرادة الناخبين الحقيقيّة التي تظهر شعوريًا من خلال الاصطفاف غالبًا مع القضايا المُحقّة على الصعيد الدولي، ومُخرجاتها التي تتجلّى عادة بانتخاب السياسيين الذين يعارضون هذه الإرادة في سلوكهم السياسي ومواقفهم الدولية؟
في حالة من التعاطف الكبير والمستمرّ، شهدنا شوارع لندن مكتظّة بمئات آلاف المتظاهرين المطالبين بوقف الحرب على غزّة، بينما صوّت النوّاب في البرلمان بغالبية 293 صوتًا ضدّ مقترح وقف الحرب، فيما أيّدته أقلية لم تصل إلى نصف عدد الرافضين، هي 125 صوتًا، فيما امتنع 180 عن التصويت. من الطبيعي ألا يتظاهر كل البشر في الشوارع، حتى في الدول الأكثر ديمقراطية، كما أنّ من الطبيعي ألا يشارك كل المواطنين في الانتخابات، فهذه ظواهر مألوفة في السياسة. لكنّ الضمير الحيّ للناس يظهر في تفاعلهم مع الأحداث الإنسانيّة الكبرى، وهذا يُعبّر عنه من خلال قلّة قد تصل إلى نصف مليون إنسان كما حصل في لندن، وقد لا تبلغ مائة شخص كما حصل في وارسو. ما يحدّد هذا الضمير ليس فقط ديمقراطية الدولة من عدمها، بل سلسلة طويلة من الأسباب التي يعود بعضُها إلى فاعلية المجتمع المدني في بلدٍ ما مقارنة بغيره، وبعضها الآخر إلى تاريخية العلاقة أو خصوصيّتها بالحدث المعني، وغيرها يعود إلى الأولويات التي ترتبها الشعوب لنفسها.... وتتعدّد الأسباب.
يفتح هذا التساؤل نافذة واسعة لمزيد من إشارات التعجّب والاستفهام، عندما نأخذ التعبيرات الشعبية والسياسية الرسميّة العربية والإسلامية، لحدثٍ طاغٍ عالميًا من لحمٍ ودمٍ ودموعٍ وآلامٍ لا تُعدّ ولا تُحصى، مثل الحرب على غزّة وأهلها. هل انعدم الوزن النوعي لكلّ الدول العربيّة والإسلاميّة مجتمعة لهذه الدرجة حتى عجزت عن اتخاذ إجراءات حقيقية بوجه إسرائيل وأميركا وأوروبا لوقف الإبادة في غزّة؟
يمكن بكل تأكيد فهم التأثير الكبير لمجموعات الضغط المؤيّدة لإسرائيل في الولايات المتحدة وفي فرنسا وألمانيا، ويمكن أيضًا فهم ديناميات الصراع بين الأحزاب في هذه الدول، وسعي كلٍ منها إلى الاحتفاظ بالسلطة أو للنجاح في الانتخابات المقبلة للفوز بها. ولكن، ما هو السرّ في نقص الفاعليّة الفاجع لدى حكومات الدول العربية والإسلامية، رغم عدم وجود تأثير يذكر لمجموعات الضغط هذه في بلدانهم؟
حالُنا يصعُب على الحجر، وضمائرنا تمزّقها رياحُ القهر والقمع والإذلال
والسؤال المناقض لما سبق كلّه، والذي يمكن طرحه عن وجود فرق حقيقي بين البلدان الديمقراطية وتلك غير المصنّفة كذلك، إن كانت النتيجة واحدة في الأزمات العاصفة مثل الحرب الحالية على غزّة؟ وهل يمكن قياس تعاطف شعبٍ ما فقط من خلال أدوات التعبير الجماهيرية، مثل الاحتجاجات والتظاهرات والوقفات في الشوارع، أم هناك مقاييس أخرى غير ملحوظة، لكنّها تؤثّر بلا شك في المشهد؟
تقدحُ زنادَ الفكر خاطرةٌ لطالما كانت تجول في الأذهان، وتتمثّل في البحثِ عن أسباب الحرب الشرسة التي شنّتها الأنظمة العربية والإقليمية بمشاركة دوليةٍ متفاوتةٍ على ربيع الشعوب العربية، وتبدو الإجابة المباشرة أقرب إلى اللسان منها إلى الأذهان، فالاستحقاق الراهن في غزّة هو المفتاح، فهل كان حال غزّة الآن ما هو عليه لو انتصرت الثورة المصريّة وأنتجت حكمًا يمثّل المصريين حقيقة؟ وهل كانت إسرائيل ستعربدُ بكلّ صلفٍ ووقاحة فيما لو كانت سورية على درب الحريّة، وهل كان العراقُ العظيم سيصمت، إلا من جعجعة مليشيات إيران السخيفة على حدود الأردن، لو كانت ناصية أمره بيد شعبه الأشمّ؟
أسئلةٌ تجرّ أسئلة، وإجاباتٌ تتوارى بين سطور الممكن والمستحيل، وشعورٌ بالمرارة لا يمكن كبته ولا نفثه، فهو إن بقي حبيس الأنفس حرقها، وهو إن خرج من الصدور فجّرها. حالُنا يصعبُ على الحجر، وضمائرنا تمزّقها رياحُ القهر والقمع والإذلال. وهل ثمّة خذلانٌ أكبر بعد هذا الرقص والطرب على مرمى قوسٍ من حريق غزّة المستعر؟ وهل كُتب علينا أن نجترّ التاريخ بانكساراته وحرائقه من مذبحة أهل بغداد ومكتبتها إلى مذبحة غزّة والضفّة على يد المغول والتتار في كل العصور؟ يبدو أنّ الحال سيبقى على ما هو عليه ما دامت الإنسانيّة تمشي على رجليها في بعض الأماكن، بينما تسير السياسة على رأسها، وهذه الأخيرة هي ما يصنع هذا المزيج الفريد العجيب الغريب من شواء اللحم والدم المقدّسين مع الدمار والألم العميمين، على مذبح التاريخ الذي ما فتئ يعيد ذاته ممسوخًا في كل مرّة عن مسخٍ متكررٍ، وباقٍ ويتمدّد.