هل تحقّق الأفلام الأهداف المرجوة منها؟
في ضوء ما يحدث من عدوان إسرائيلي دموي شرس على قطاع غزة، إلى حدّ التطهير العرقي المُمنهج، والإبادة الجماعية المُدبّرة، يتساءل المرء عمّا يمكن أن تُقدّمه السينما العالمية والعربية في هذا الصدد، وإذا كانت هناك إمكانية، أصلاً، لتقديم أو مُقاربة ما يحدث، ناهيك عن تجسيد الأهوال المنقولة يومياً على الهواء بتقنيات سينمائية، وأساليب فنية صادقة ومُؤثّرة، تقترب من الواقع، ولو قليلاً.
المؤكّد أنّه، استناداً إلى تاريخ السينما، لا توجد أفلام يُمكنها أنْ تُصوِّر، بشكل كامل ومُنصف وعميق، كَمّ الآلام ومعاناة الأفراد والمجتمعات، جرّاء الحروب والمذابح والتطهير العرقي والإبادة، وإبراز مدى وحشية التاريخ المعاصر للبشر (همجيّته، بربريّته)، وتوظيف إجرامه بأسلحته الأكثر فتكاً.
لا يعني هذا أنّ السينما ليست مُهمّة في هذا الإطار، أو أنها لم تضطلع بدور ما. الأفلام المُنجزة في هذا السياق، رغم قلّتها النسبية، وتباين مستوياتها واختلاف زوايا طرحها، أتاحت للمشاهدين، بطريقة أو بأخرى، فرصة التعرّف إلى بعض ما جرى، أقلّه في سياق التاريخ المعاصر. بالتالي، إتاحة الفرصة لتأمّله، والتفكير في تأثيره المُمتدّ، والمستمر إلى هذه اللحظة، على الأفراد والشعوب والحضارات.
طبعاً، بوسع السينما الاضطلاع بأدوار أكبر وأعمق وأكثر تشعّباً. إلاّ أنّها محكومة بعوامل وقيود وصعاب لا حصر لها، ترتبط أساساً بمدى تقبّل الجمهور وتأثّره وإقباله، من عدمها، ومدى جدوى تمويل أفلامٍ كهذه، وإنتاجها وصنعها. حتّى إن أخذت في الاعتبار أغراض التوجيه والدعاية، وتزييف الوعي.
لا توجد أفلام يُمكنها أنْ تُصوِّر، بشكل كامل ومُنصف وعميق، كَمّ الآلام ومعاناة الأفراد والمجتمعات
بعيداً عن تناول الجدوى المادية، والعقبات التمويلية، والأغراض والتوجّهات السياسية، والأمانة التاريخية أو عدمها، حاولت السينما الروائية، في أميركا وأوروبا أساساً، استكشاف بعض الفصول المأساوية المُظلمة في التاريخ الغربي، القديم والمعاصر.
أغلب هذه الأفلام، خاصة في بدايات السينما، تمحورت حول الرجل الأبيض في مُقابل الهنود الحمر، أو السكّان الأصليين، على اختلاف قاراتهم وحضاراتهم وثقافاتهم ولغاتهم. لاحقاً، ألقت ضوءاً كثيراً على ما جرى من عنصرية واضطهاد وتنكيل ضد أصحاب البشرة السوداء، وأهوال المستعمرات الأوروبية، خاصة في أفريقيا، مروراً بتناول مستفيض، بعض الشيء، للحربين العالميتين الأولى والثانية، وما سبقهما وتلاهما من حروب صغيرة، هنا أو هناك. وإن كان التركيز الأكبر للسينما المعاصرة تراجع بقوة إزاء التمحور الشديد، والمقصود طبعاً، حول المحرقة، ومأساة اليهود، وما جرى لهم على أيدي النازيين.
في رصد سريع جداً، يمكن ذكر أفلام روائية ووثائقية مهمّة للغاية، إنصافاً أو تذكيراً بما تناولته السينما، رغم التحدّيات والمعوقات؛ وكيف أنّها (الأفلام) وغيرها، رغم صعوبة وقسوة مُشاهدة الكثير منها، تذكيرٌ مُهمّ بالتكلفة البشرية الناجمة عن العنف والتطرّف والقتل والحروب والدمار، واطّلاعٌ على محطات وفترات وتواريخ حالكة جداً في التاريخ المعاصر.
أشهر تلك الأفلام المُعاصرة، "الرقص مع الذئاب" (1990) لكيفن كوستنر. رغم أنّه لا يُركّز، مباشرة، على الإبادة والجرائم العرقية، إلا أنه يُصوّر التهجير، وسوء معاملة الأميركيين الأصليين، قبيلة لاكوتا سيوكس تحديداً، لحظة التوسّع غرباً في الولايات المتحدة. كما يعرض صراع الثقافات، والعواقب المدمّرة على الشعوب الأصلية.
هناك أيضاً "لائحة شيندلر" (1993)، لستيفن سبيلبيرغ، الذي يُصوّر القصّة الحقيقية لأوسكار شيندلر، رجل الأعمال الألماني الذي أنقذ حياة أكثر من ألف يهودي من المحرقة النازية. يعتبر من الأفلام الروائية المهمّة، أو الأيقونية، في ما يتعلق بهذه النقطة الشائنة في التاريخ البشري.
في سياق الحرب العالمية الثانية، هناك الروسي "تعال وانظر" (1985) لإليم كليموف، الذي يتناول الاحتلال النازي لبيلاروسيا، ويُصوّر أهوال الحرب وتأثيرها على المدنيين، بعينيّ صبي بيلاروسي، يشهد فظائع النازيين في تلك الحرب.
أما حرب فيتنام وأهوالها وآثارها، فتناولتها السينما الأميركية مراراً: أبرزها "القيامة الآن" (1979) لفرنسيس فورد كوبولا، و"رصاصة بغلاف معدني" (1987) لستانلي كوبريك. مذابح الأرمن جرى تناولها في أكثر من فيلمٍ، أحدثها "الوعد" (2016)، لتييري جورج، وقبله "القطع" (2014) لفاتح أكين، اللذان استعرضا لمحات من تاريخ الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915، التي قُتل فيها نحو مليون ونصف مليون أرمني على أيدي جنود الإمبراطورية العثمانية. أما ذكر ما جرى للسكّان الأصليين لأستراليا، فتوقّفت عنده السينما أكثر من مرة، وأبرز أفلامها "بلد تشارلز" (2014) للأسترالي رولف دي هير، وأخيراً جديده "بقاء الود" (2023).
أما دراما "آخر المُوهيكان" (1992)، لمايكل مان، فتدور أحداثها التاريخية في الحرب الفرنسية ـ الهندية، أو حرب الأعوام الـ7 (1754 ـ 1763: بدأت أولى فصول الحرب عام 1754، لكن حرب الأعوام الـ7 جرت فعلياً بين عامي 1756 و1763)، المندلعة بين المُستعمرات الخاضعة للاحتلال الفرنسي، والواقعة تحت الاحتلال البريطاني. يُسلّط الضوء على الصراع بين القوى الأوروبية، وتأثيره على المُجتمعات الأصلية، الواقعة في مرمى النيران، التي دارت الحرب على أراضيها. في "زهور الحرب" (2011)، لزانغ ييمو، تُعيد هذه الدراما إلى الأذهان الواقعة التاريخية الرهيبة، المعروفة باسم مذبحة ـ اغتصاب "نانكينغ"، (عاصمة الصين سابقاً)، حيث اغتصب الجيش الإمبراطوري الياباني وقتل نحو 300 ألف مدني صيني في الحرب الصينية ـ اليابانية الثانية (1937 ـ 1945). يُصوّر الفيلم وحشية جرائم الحرب، وتأثيرها على الضحايا والمدنيين، خاصة النساء.
من أهم ما عرض أخيراً في سياق التطهير العرقي وإبادة الأمم، "قتلة زهرة القمر" (2023) لمارتن سكورسيزي، بتناوله الدرامي الأمين مأساة شعب أوساج المُسالم، وما جرى لهم على يدي الأميركي الأبيض، مع الاستعانة الواسعة، هذه المرّة، بأفراد من شعب الأوساج لإنجاز العمل، وضمان أكبر مصداقية تاريخية مُمكنة. يُذكر أنْ مِل غيبسون استعان، في "أبوكاليبتو" (2006)، بمكسيكيين أصليين كثيرين، عند رصده سقوط حضارة المايا، والمذابح التي تعرّض لها السكّان الأصليون على يدي الرجل الأبيض.
هل حقّقت هذه الأفلام، في تاريخ السينما، الجدوى المرجوة منها فعلا؟
وثائقياً، يُذكّر "العام صفر: الموت الصامت لكامبوديا" (1984)، لجون بيلغر، بالإبادة الجماعية في كمبوديا في سبعينيات القرن الـ20، التي أباد فيها نظام الخمير الحمر نحو مليوني شخص، في فترة حكم الطاغية بول بوت. أما الفيلم الرهيب "المحرقة" لكلود لانزمان (1985، 9 ساعات ونصف ساعة)، فيتضمّن مُقابلات مع ضحايا ناجين، وبعض الجناة القتلة. بينما يستند الوثائقي الدرامي "فندق رواندا" (2004) لتيري جورج إلى أحداث حقيقية، تُصوّر الإبادة الجماعية في رواندا، مع التركيز على جهود بول روسيساباجينا، مُدير الفندق، الذي أنقذ حياة أكثر من ألف لاجئ "توتسي"، في الإبادة الجماعية المُروّعة في رواندا، عام 1994، التي قُتل فيها نحو 800 ألف "توتسي".
أما "قانون القتل" (2012) لجوشوا أوبنهايمر، فيتجاوز الأعراف الوثائقية، بسماحه لقادة فرق الموت الإندونيسية السابقة بإعادة تمثيل جرائم التطهير العرقي التي ارتكبوها، وإعادة سرد فظائع وأهوال مُرعبة أمام الكاميرا مُباشرة. المخرج نفسه روى، في "نظرة الصمت" (2014)، قصة طبيب عيون يواجه بعض مُرتكبي عمليات القتل الجماعي الإندونيسي (1965 ـ 1966)، خاصة ضد شقيقه، مُركّزاً على الاعتراف بمظالم الماضي وبشاعاته.
بعيداً عن ذكر المزيد، ورصد إنتاجات سينمائية وتحليلها ونقدها، كَمّاً وكيفاً، وتبيان مدى قوة الوثائقي وغزارته وفعاليته، في مُقابل الروائي، وذيوع الروائي وانتشاره وشهرته، مُقارنة بالوثائقي، يتجدّد السؤال: هل حقّقت هذه الأفلام، في تاريخ السينما، الجدوى المرجوة منها فعلا؟ الإجابة باختصار مُختزل، أنه على مُستوى إعلام الجمهور وتثقيفه وتنويره، أو خلق بعض أو الكثير من الوعي، أو توجّه المُشاهد في مسارات بعينها، أو حتى تضليله وتزييف وعيه، طبعاً كان لها دور كبير، لا يُستهان به أبداً، سلباً وإيجاباً. أما على مستوى تعزيز الحوار والتفاهم، وخلق روح التسامح والغفران بين البشر، أو منع تكرار هذه الفظائع مرة أخرى، أو الإسهام في مُحاسبة ومُعاقبة من اقترفوها أو شاركوا فيها، أو حتى إدانتهم، فالإجابة قطعاً: لا.
أما في ما يتعلق بالإنتاج السينمائي العربي، الروائي أو الوثائقي، المُرتبط بتصوير ما مرّ على المنطقة، من احتلال وحروب وأهوال ونكبات، فالأمر مُفجع جداً، لأنّ ما أُنجز حتى اللحظة يكاد لا يُذكر تقريباً، مُقارنة بالأهوال الكثيرة في تاريخنا الحديث، المُستحقة رصداً وتعريفاً وإنصافاً. وذلك بدءاً من الحروب ضد الاستعمار وجرائمه، في مصر والجزائر وليبيا وغيرها، مروراً باحتلال العراق وتدميره، وقتل نحو مليون شخص.
حالياً، مع تجدّد نكبة فلسطين، ومحاولة إخراج نحو سبعة ملايين فلسطيني من التاريخ المُعاصر؛ وفي ضوء ما يجري في المنطقة منذ عقود، وحالة التردّي والضعف والقمع، والمناخ العام الخانق الذي عاشته المنطقة ولا تزال تعيشه، وعدم انتشار السينما، وصعوبات التمويل والإنتاج والتوزيع والرقابة، وغيرها، يُمكن توقّع وفهم والتماس أعذار للحالة الراهنة للتردّي السينمائي، التي يبدو أنها ستظلّ هكذا أعواماً طويلة.
حتّى لو تحقّقت مُعجزة، أدّت إلى تدفّق التمويل والإنتاج والتوزيع العربي لأفلامٍ كهذه، وكانت على درجة عالية من النزاهة والرصد المُنصف، والتحليل الدقيق، والأمانة التاريخية في تصوير ما جرى من حروب واستعمار ومذابح وإبادة في المنطقة العربية، فهل ستحقّق هذه الأفلام الأهداف المرجوة منها، خارج حدود المنطقة، لا سيما أنّ صورة العربي عامة، والمُسلم خاصة، في السينما الأميركية والأوروبية، قبل أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 وبعدها، تزداد سوءاً، وطبعاً ستنحدر أكثر بعد العدوان القائم الآن؟