نفايات خطرة في سورية... تخلص غير آمن من مخلفات عمل المشافي
يوثق التحقيق عدم التزام مؤسسات الرعاية الصحية السورية في مناطق النظام ببروتوكول التخلص الآمن من النفايات الطبية، والتي تجد طريقها إلى الحاويات دون فرزها وتعقيمها لقتل الفيروسات والبكتيريا ما يهدد المتعاملين معها.
- يخشى عامل النظافة الخمسيني السوري خالد البشر من التقاط عدوى بسبب الأدوات الطبية المستعملة التي يفاجأ بها أثناء تفريغ الأكياس المتكدسة بالحاويات في دمشق، إذ كثيرا ما يفاجأ بحقن ومقصات وقطن ملوث بالدماء، قائلا: "أحاول جمع كل ما يمكن إعادة تدويره من النفايات لبيعه وتدبير قوت يوم العائلة، وسرعان ما تتمزق قفازات العمل ولا تدوم أكثر من شهر، والبلدية لا تمنحنا غير زوج بالسنة".
وتتشابه مخاوف بشر مع ما يواجهه الطفل السوري مقداد خيال، ذو الخمسة عشر عاما، والذي يعتاش ورفاقه الستة من التنقيب عن علب الكرتون والبلاستيك في النفايات، إذ يجتمع الأطفال فجرا، ويتناوبون على مراقبة عمال المحافظة خوفا من مداهمتهم ومصادرة "رزقهم"، ويتركز عملهم في منطقة المزة غرب دمشق، والتي تضم 6 مشاف حكومية، وهي الرازي و601 العسكري والأسد الجامعي والمواساة الجامعي ومشفى الأطفال الجامعي، بالإضافة إلى المشفى الأسدي ومشفى يافا الجراحي الخاص، إلى جانب بنك الدم المركزي ومركز أبي ذر الغفاري الصحي ومجمع الهلال الأحمر العربي السوري، و12 مختبرا طبيا، ووفق ما يقوله مقداد: "تقع يداي على أنواع عديدة من مخلفات المشافي ولحسن الحظ لم أتعرض لإصابة حتى الآن، لكن العديد من رفاقي أصيبوا بمخلفات طبية ملوثة أكثر من مرة مثل الحقن".
ويكشف عمال النظافة والنباشون الصغار الذين قابلهم "العربي الجديد" عن فوضى عملية التخلص من النفايات الطبية في سورية، ويتتبع التحقيق التجاوزات بدءا من مرحلة الجمع والفرز وصولا إلى التخلص منها بأساليب خطرة على صحة الإنسان والبيئة.
عدم الالتزام بفصل النفايات الطبية
تكشف الطبيبة سماهر حمد، اسم مستعار لأخصائية طب باطني في مستشفى الشهيد ممدوح أباظة الحكومي في القنيطرة (فضلت عدم ذكر اسمها للحفاظ على وظيفتها)، عن عدم التزام المنشأة بتدابير فصل النفايات الطبية بحسب نوعها، إذ يتخلص الكادر الطبي من الأدوات الحادة والحقن في كيس مخصص عند مداخل الغرف بالكيس الآمن، بينما تلقى مخلفات المرضى الأخرى في سلة المهملات مع النفايات العادية ثم تؤول جميعها إلى مكب القمامة القريب من المشفى عوضا عن فرزها لتتولى إدارة النفايات الصلبة تطبيق بروتوكول التخلص منها، مؤكدة أنها عاينت خلال فترة عملها في المشفى لمدة ثمانية أشهر 12 إصابة بمخلفات طبية بين الخفيفة والمتوسطة والتي وصلت إلى الطوارئ.
تتكرر الإصابات بوخزات الحقن الملوثة بين عمال النظافة والنباشين
ويؤكد الطبيب محمد خالد والذي تحفظ عن ذكر اسمه الحقيقي لذات السبب، وعمل في عدة مشاف حكومية، عدم اتباعها بروتوكول التخلص الآمن من النفايات الطبية قائلا: "عملت طبيبا مقيما في مستشفى المواساة الجامعي وبعد التعيين انتقلت إلى الأسد الجامعي وسابقا عملت في اللاذقية، وحسب مشاهداتي اليومية لا تلتزم جميعها بالبروتوكول، لكن في بعضها يتم تحميل النفايات الصلبة والحادة وإنزالها إلى المحارق داخل المستشفى بعد جمعها في علبة من الكرتون حرصا على عمال النظافة العاملين بالمستشفى بالدرجة الأولى"، متابعا "في مستشفى المواساة اعتدت مشهد رمي الأدوات الحادة بعد الانتهاء من استخدامها في سلة القمامة العادية".
ويخالف الإجراء السابق، القانون رقم 49 لعام 2004 المتعلق بشؤون النظافة العامة والمحافظة على المظهر الجمالي، والذي ينص في المادة 22 على أن "المولدين للنفايات الطبية مسؤولون عن أي ضرر للبيئة والصحة العامة ناجم عن نفاياتهم ما دامت بإشرافهم"، ويلزم في المادة 23 مالكي المنشآت الطبية ومديريها ومستثمريها والجهات الصحية المنتجة للنفايات الطبية بالآتي: "فصل النفايات الطبية عن النفايات البلدية عند نقطة المنشأ، ووضع النفايات الطبية غير الخطرة في أكياس محكمة، أما النفايات الطبية الخطرة فتوضع في حاويات بلاستيكية صفراء. ويجب أن تعلم أكياس النفايات الخامجة (طبية خطرة) بعبارة "خامجة جدا" وأن تكون الأكياس مانعة للتسرب، أما حاويات النفايات الحادة فيجب أن تعلم بعبارة (جارحة) وأن تكون مقاومة للانثقاب والوخز والتسرب، وتوصيف النفايات وفقا لطبيعتها ودرجة خطورتها عبر وضع بطاقة تعريفية عليها".
تخلص غير آمن من المواد الخطرة
حصل "العربي الجديد" على 6 وثائق صادرة عن وزارة الإدارة المحلية والبيئة ومحافظة دمشق بين عامي 2017 و2018 تثبت أن فوضى إدارة النفايات الطبية في المشافي العامة والخاصة والمراكز الصحية الشاملة، قائمة منذ سنوات وما زالت مستمرة كما تؤكد الإفادات، وأبرز تلك المخالفات التي اشتركت بها 8 مؤسسات صحية حكومية تمثلت بعدم وجود سجل للنفايات الطبية وكميتها، وعدم فصلها عن النفايات المطبخية، بالإضافة إلى عدم وجود محطة معالجة للنفايات السائلة، وعدم التنسيق مع مديرية الصحة لإتلاف الأدوية منتهية الصلاحية.
وتحذر طبيبة الأسنان في مستشفى المجتهد بدمشق، أمل توما، من خطورة عدم معالجة النفايات الطبية السائلة قبل طرحها في شبكة الصرف الصحي العام، إذ تحتوي بالإضافة إلى المخلفات البشرية اليومية للمرضى والعاملين على ميكروبات وفيروسات وحتى ديدان من أقسام الأمراض السارية، إلى جانب مخلفات صيدلانية قد تحتوي أدوية سامة لعلاج الأورام ومضادات حيوية وكميات هائلة من المعادن ذات السمية العالية كالزئبق والفضة والرصاص، وهو ما يخالف البند 7 من قانون النظافة والجمالية العامة، والذي يقضي بأن "تتحمل جميع المنشأت الطبية التي يحتمل أن تحمل نفاياتها السائلة مواد ملوثة معالجة هذه النفايات قبل طرحها إلى شبكة الصرف الصحي العامة". مؤكدة أن مخلفات مريض الأسنان من لعاب وقيح وخراج ناجم عن عدوى بكتيرية ودماء يجري التخلص منها جميعها في حوض الغسيل، ما يدلل على "إهمال وتقصير كبير مزدوج من قبل إدارة المستشفى وعمال النظافة الذين لا يراعون شروط السلامة والعقامة، إذ ترمى الأدوات الحادة مع مخلفات المريض الملوثة بالدماء في كيس قمامة عادي أيضا".
ويرد رئيس دائرة تصنيف المنشآت الصحية وتسيير المشافي الخاصة في وزارة الصحة الدكتور بشار كناني على المخالفات الموثقة، قائلا إن: "المستشفيات القديمة التي أُنشئت قبل عام 2011 لم تؤسس حفرة امتصاصية من شأنها معالجة النفايات السائلة قبل صرفها في شبكة الصرف الصحي العامة، لكن بعد هذا التاريخ تم إلزام المنشآت الطبية بها. وشكلت الوزراة لجنة بالقرار رقم 4855/ 2017 للكشف عن التجاوزات الناجمة عن خلط النفايات الطبية مع المطبخية في المشافي العامة والخاصة وعدم الالتزام بالبروتوكول المتبع، لكن جرى حلها عام 2018 لأسباب لم تُعلن، ويحيل المسؤولية إلى عمال النظافة في المستشفيات لعدم التزامهم بفصل النفايات الطبية ما يؤدي إلى عرقلة مسار المعالجة ويقلل من كفاءتها، وأحيانا كثيرة تذهب هذه النفايات إلى حاويات القمامة العادية وتعرض عمال النظافة للخطر".
مشاكل الحرق اليدوي
أوقفت إدارة النفايات الصلبة التابعة لوزارة الإدارة المحلية والبيئة عام 2008 استخدام المحارق التي تعمل على الديزل والغاز الطبيعي، بسبب حجم الأضرار الصحية والبيئية الهائلة الناجمة عنها، إلى جانب التكاليف الباهظة للوقود ونفقات التشغيل المرتفعة، واستبدلتها بالتعقيم البخاري، وفقا لمساعد مدير الإدارة في محافظة دمشق، برهان حافظ.
لا تلتزم المؤسسات الصحية السورية بفصل النفايات الطبية عن المطبخية
وباتت تقنية التعقيم البخاري هي الأساس كما يقول حسين جنيدي، رئيس قسم هندسة النظم البيئية في المعهد العالي لبحوث البيئة في جامعة اللاذقية، موضحا أنه "لا توجد إمكانية مالية لدفع نفقات الوقود الذي تعمل عليه الحراقات، وتكاليف التشغيل والصيانة عالية، خاصة أنها تتطلب درجة حرارة عالية تتراوح بين 1200و1600 درجة مئوية، وإن كانت الدرجة دون المستوى المذكور فستخرج انبعاثات غازية ومركبات مسرطنة مثل الديوكسين (ملوثات كيماوية خطرة عالية السميّة)، مشيرا إلى أن آلية عملها "غير معقدة"، وتقوم على تعريض النفايات الطبية بعد جمعها لبخار بدرجة حرارة 140 لمدة 45 دقيقة من أجل قتل المواد الضارة والسامة والبكتيريا، وتليها مرحلة الدفن في مطامر بجانب مكبات القمامة على أن تكون غير مكشوفة تجنبا لوقوعها بأيدي النباشين.
لكن هذه الآلية تواجه عدة صعوبات تتعلق بتوفير المواد الداخلة في تشغيل الوحدات، إذ جرى تركيب جهاز التعقيم "الأتوكلايف" في قرية البصة بمحافظة اللاذقية بداية عام 2016، وفيها تتم معالجة جميع النفايات الطبية الواردة من محافظتي اللاذقية وطرطوس، لتطمر لاحقا في مطمر قاسية الصحي وفق مدير إدارة النفايات الصلبة بمحافظة اللاذقية، عمار القصيري، مشيرا إلى أن المشروع اصطدم بتأمين الأكياس الحرارية "والتي كان يتم توفيرها عن طريق الصليب الأحمر بالتعاون مع منظمة الهلال الأحمر السوري وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بسبب العقوبات الاقتصادية على سورية، خاصة أن الأكياس أميركية المنشأ وبدونها يتوقف الجهاز عن العمل"، وعلى حد قوله تم تجريب أكياس محلية لكنها لم تعط نتائج فعالة.
وأمام هذه العراقيل، يقرّ حافظ أن "إدارة النفايات الصلبة ما زالت تلجأ إلى الحرق اليدوي، بعد طمر النفايات الطبية في حفر وإضرام النيران فيها ثم ردمها بالتراب، رغم أن حرق النفايات الطبية يترتب عليه كوارث صحية وبيئية تهدد حياة الإنسان، إذ تعد مصدرا أساسياً لانبعاثات الديوكسين والزئبق الغازية السامة ومواد مسرطنة وتتسبب بعاهات خلقية وضعف في الجهازين المناعي والعصبي لدى الإنسان".
مخاطر الإصابة
يستذكر خيال خوفه وقلقه على رفيقه الذي يكبره بعام حين غرزت حقنة طبية في إصبعه أثناء تنقيبهم في حاوية مخصصة للنفايات العادية قرب مستشفى المواساة في سبتمبر/أيلول من عام 2022، في البداية تجاهلها حتى يكمل عمله، لكن مع حلول الليل، أصابته حمى شديدة، واحتاج لمساعدة طبية، ما اضطرهم إلى اللجوء لصيدلاني بالقرب من مكان إقامتهم ودفعوا له 25 ألف ليرة ليوافق على إعطائه خافضا للحرارة، وحقنة مضادة للبكتيريا المنتجة للسموم في الجسم، وتحسنت حاله بعد ساعات قليلة.
ويجمع الأطباء الذين قابلهم "العربي الجديد" أثناء إعداد التحقيق على أن مستويات الإصابة الناجمة من النفايات الطبية تتراوح بين إصابات بسيطة بإنتانات وجراثيم لاهوائية إذا كانت يد المصاب مجروحة بشكل سطحي أو وخزته حقنة لمريض لا يعاني مرضا معديا وبالتالي لا ينتقل عبر الإبرة وفي هذه الحالة يمكن علاجه سريعا، لكن يصبح الأمر خطيرا ويهدد حياة المصاب سواء من عمال النظافة أو النباشين إذا كان المريض حاملا لأمراض منتقلة في الدم كالإيدز والتهاب الكبد وغيرها، وهنا تكمن الصعوبة عند استقبال حالة مصابة بسبب النفايات الطبية، لعدم قدرة الطبيب على تحديد إذا ما كانت الحقنة التي أصيب بها الشخص مثلا تحمل أمراضا خطيرة تنتقل عبر الدم أم لا، أمام العائق الثاني فيتمثل بعدم تمكن الأطباء من إعطاء المصاب الغلوبولينات المناعية المضادة للمرض (مزيج من الأجسام المضادة للحدّ من العدوى) وذلك لغلاء سعرها وعدم توفرها.
وفي جولة ميدانية، التقت خلالها معدة التحقيق بصبية ينبشون حاويات القمامة في حيّ الشعلان بالقرب من حديقة المدفع بدمشق، أطلعوها على قصصهم مع الإصابات بمخلفات المشافي والمراكز الصحية القريبة، ويروي أحدهم أنه أصيب بجرح غائر وصل عظام راحة يده بسبب إمساكه بعلبة دواء زجاجية مكسورة، ألقيت في حاوية النفايات إلى جانب عبوات دواء أخرى، وحين سألتهم معدة التحقيق عن أدوات الوقاية التي يستعملونها، أثار السؤال ضحكاتهم قائلين: "ما يهمنا الوجع، نهجم عالموت من أجل لقمة العيش".
وحاولت معدة التحقيق الوصول إلى أرقام المصابين بمخلفات طبية من خلال سؤال ممرضين وأطباء عاملين في المشافي بعد رفض وزارة الصحة تزويدنا بإحصائية شاملة، وفي مستشفى المواساة أحصت ممرضة في قسم الطوارئ 40 حالة إصابة بالحقن الملوثة وصلوا طلبا للعلاج خلال أيام مناوبتها التي تصل لثلاثة أيام طوال عام، وكان من بينهم نباشون بالقمامة وعمال نظافة.