حفيد مؤسس دولة قطر يروي فصولاً من حياة الشيخ جاسم بن محمد بن آل ثاني
تحتفل دولة قطر في 18 كانون الأول/ ديسمبر من كل عام باليوم الوطني للدولة، أي بذكرى تأسيسها على يد الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني (1827-1913). تسلم الشيخ جاسم مقاليد الحكم رسمياً في ذلك اليوم من عام 1878 بعد وفاة أبيه محمد بن ثاني، والذي ثبت زعامة آل ثاني في قطر وجمع القبائل تحت راية واحدة هي الراية ذات اللون الأحمر الأرجواني الذي أصبح لون علم قطر. من أجل فهم تأسيس دولة قطر ودور الشيخ جاسم بذلك، جاء حوارنا مع الكاتب محمد بن أحمد بن جاسم آل ثاني مؤلف كتاب "جاسم القائد مؤسس قطر".
* ألفت كتابين بالإنكليزية، الأول هو (جاسم القائد مؤسس قطر)، والثاني (الربيع العربي ودول الخليج العربي)، كتاب (جاسم القائد) صدر أخيرا بالعربية، ما هي دوافعك لكتابة هذا الكتاب؟
كنت أقرأ كثيرا خلال عملي في صناعة النفط والغاز ولا سيما عندما كنا نسافر خلال فترة الثمانينيات وخاصة لليابان. وكانت في ذاكراتي ووجداني رحلاتي مع والدي الشيخ أحمد، رحمه الله، للصيد وأحاديثه عن والده الشيخ جاسم.
* أنت إذاً حفيد الشيخ المؤسس جاسم؟
والدي أحمد كان آخر أولاد جاسم. لما توفي الشيخ كان عمره بحدود السنتين، بحسب رواية أخته الشيخة نايلة، رحمها الله، التي وعت والدها، ولكن والدي لم يتذكر والده، ونحن نقول في اللهجة القطرية "لم يفطن لوالده". من خلال القراءة اكتشفت أن معظم ما كتب عن الشيخ جاسم يختصر دوره بالجانب العسكري ورواية المعارك، وهذا جانب مهم، ولكن الشيخ مارس كل أشكال الدهاء السياسي وحكمة الصبر عند الحاجة والانقضاض على الأعداء بالوقت المناسب. لم أجد عملا متكاملا يغطي سيرة الشيخ العظيمة، فهناك إهمال لجوانب كتاريخ قطر القديم، لذا كتبت عن المنطقة منذ الفينيقيين. حاولت أن أشرح الأوضاع السياسية والاقتصادية في المنطقة حينها وكيف استطاع الشيخ جاسم اجتياز التحديات وأسس دولة من لا شيء وصنع هوية مميزة لها.
معظم ما وجدته عن الشيخ جاسم كان بالإنكليزية ولم أجد عملا قطريا يغطي كل مسيرة الشيخ جاسم.
* ما هي الوثائق والمصادر التي اعتمدت عليها؟ هل اعتمدت على الروايات الشفوية التي ربما سمعتها من العائلة؟
اعتمدت على مستندات رسمية جمعتها خلال عشرين عاما ولم أعتمد على المرويات لأنها تتبدل وتختلف بحسب الراوي.
أغلب الوثائق الموجودة من ثلاثة مصادر: الأول هو الأرشيف التركي العثماني فترجمنا حوالي 12 ألف وثيقة عثمانية عن الخليج وقطر. المصدر الثاني هو المكتبة البريطانية، وفيها الكثير من التقارير عن المنطقة وأغلبها لجواسيس كانوا يأتون للمنطقة بأسماء ومهن مختلفة. المصدر الثالث هي شركة الهند البريطانية التي حكمت الهند باسم التاج البريطاني وكانت المسؤولة عن الحماية العسكرية والسياسة الخارجية لمحميات الخليج العربي.
أيضا عثرت على بعض الوثائق في الأرشيفين الهولندي والبرتغالي وقليل من الوثائق في الأرشيف الألماني، وكذلك وجدت بعض الوثائق من الأرشيف العراقي والتي غالبا ما كانت تتناول الكويت وتتعرض لدور الشيخ جاسم.
* كيف كان الوضع في منطقة الخليج العربي آنذاك؟
أجبرت بريطانيا شيوخ الخليج على توقيع اتفاقات تلزمهم منع أعمال القرصنة وتحول (نظام الهدنة) في عام 1820 إلى معاهدة السلام العامة ووقعتها مشيخات الإمارات وانضمت إليها البحرين عام 1861 وتجنب محمد بن ثاني وابنه جاسم التوقيع على هذه الهدنة ولم تعقد قطر اتفاق الحماية مع بريطانيا حتى عام 1916. كانت السفن القطرية في عهد جاسم السفن العربية الوحيدة التي تبحر في الخليج دون أن ترفع علم الهدنة.
*ما الذي فعله الشيخ جاسم حتى يأخذ لقب المؤسس؟
قبل الشيخ جاسم يجب ألا ننسى دور والده الشيخ محمد بن ثاني، الذي كان له الدور الكبير في صياغة الفكرة وهي دولة مستقلة عبر توحيد القبائل المتنازعة في قطر. استطاع الشيخ محمد بن ثاني الانتقال من زعامة قبيلته التي تولاها عام 1848 ليكون الزعيم الأبرز لقطر وتمكن من الحفاظ على استقلالية كيان قطر بتوازن استراتيجي بين الحماية البريطانية التي كانت تهيمن على المنطقة ولديها اتفاقات مع مشيخات الخليج وبين الوجود العثماني الضعيف في الجزيرة العربية والخليج.
وقع الشيخ محمد عام 1868 اتفاقا مع المقيم السياسي البريطاني في الخليج العقيد لويس بيلي وكانت بمثابة أول اعتراف باستقلالية قطر. هذا الاتفاق مختلف عن اتفاقيات الحماية التي وقعتها قطر في عام 1916. في نهاية عام 1871، أرسل العثمانيون كتيبة من مئة جندي ومدفع إلى البدع واعٌتبرت قطر كيانا عثمانيا، ولكن الشؤون الداخلية بقيت في يد الشيخ محمد وابنه الشاب. نقل جاسم الفكرة إلى حيز التنفيذ بما يشبه المعجزة حتى أن وثيقة إنكليزية تصف الشيخ في آخر عمره بأن أكبر المتفائلين لم يكن يجرؤ على التفكير بتأسيس دولة وهذا ما فعله الشيخ جاسم. ولا تنس الصراعات المحلية، حيث نجد أن دول الجوار كانت تعتبر قطر ارضا مباحة للرعي والغزو والسرقة ولا بد أن نذكر أن مغاصات اللؤلؤ في قطر كانت من أفضل المغاصات ولذا كانت مطمعا، وللأسف تكرر ذلك حديثا فتعرضت قطر للحصار الرابع والذي انتهى والحمد لله.
* كيف كان اقتصاد تلك الأيام؟
كانت تجارة اللؤلؤ عصب اقتصاد المنطقة، حتى أن الشيخ محمد بن ثاني قال للرحالة وليام بلجريف "نحن جميعا من الكبير إلى الصغير عبيد لسيد واحد هو اللؤلؤ". لو نظرنا إلى عام 1905 لوجدنا اقتصاد قطر قويا وبلغت ميزانية الدولة حوالي 140 ألف جنيه إسترليني، ما يعادل 14 مليون جنيه إسترليني حاليا.
* هو أيضاً كان تاجراً وخسر في بعض المواسم..
انهارت أسواق اللؤلؤ عام 1907 واضطر الشيخ جاسم لبيع محصول اللؤلؤ بنصف الكلفة وخسر نحو ستة ملايين روبية هندية، حيث أرسل ابنه الشيخ عبد الله الى الهند لتقصي الأمر وجلس هناك ثلاثة أشهر. هنا لا بد من التأكيد على نزاهة الشيخ جاسم مالياً، حيث له قصيدة يقول فيها: "جمعناها من مال حلال". تراجع الطلب على اللؤلؤ مع الكساد الكبير ثم جاء الانهيار الكبير عندما تمكن الياباني توكيشي نيشكاوا من زراعة اللؤلؤ. كان لقطر حوالي ألف سفينة منها ما يستخدم لصيد الأسماك والنقل، ولكن أغلبها لصيد اللؤلؤ. وحرص الشيخ جاسم على تطوير ميناء الدوحة وتسهيل التجارة وتنظيم صيد اللؤلؤ. كان عدد السكان أيام الشيخ جاسم حوالي 22 ألف نسمة وكان هناك حوالي 1500 جمل سجلها رحالة إنكليزي.
* الشيخ جاسم مُنح لقب قائم مقام عثماني. هل كان جاداً في الخضوع للدولة العثمانية؟
بالتأكيد لا، كان جاسم لا يحب البريطانيين مع أن عدائيته تجاههم خفتت مع تقدمه بالحكم والسن. استمر الشيخ جاسم بانتهاج سياسة التوازن مع ميل للسلطنة، ولكن ذلك لم يمنع الشيخ من مواجهة العثمانيين عسكريا لإصرارهم على التدخل بشؤون قطر الداخلية وهزمهم في معركة الوجبة عام 1893. على المستوى الوطني كان محمد بن ثاني وجاسم بن محمد يحاولان ما أمكنهما التخلص من الأطماع البحرينية في قطر وعلى المستوى الشخصي من الطبيعي أن ذكريات الأيام السيئة في زنازين البحرين والمعركة البحرية الرهيبة عام 1868 وتدمير الدوحة الأخير جعل جاسم ينفر من حماة البحرين الإنكليز ويقبل الأعلام العثمانية التي أرسلها مدحت باشا لقطر ويرفع أحدها على منزله، وبالتأكيد هذا سيمنح جاسم فرصة التلاعب بإمبراطورية ضد أخرى.
* كيف اختار الشيخ جاسم من يخلفه؟
تقاعد الشيخ جاسم جزئيا وكلف أخاه أحمد إدارة الدولة، ولكن أحمد اغتيل على يد أحد موظفيه فسارع الشيخ جاسم للعودة للحكم وكانت معضلته باختيار وريث للحكم رغم أن لديه 12 ولدا منهم ثلاثة في سن تؤهلهم للحكم، ولكنهم لا يحبذون ذلك.
حدد الشيخ جاسم مواصفات الحاكم على الشكال الآتي: "على حاكم الدولة أن يكون جنديا ورجل دولة في الوقت نفسه، قادرا على هزيمة القبائل واتخاذ القرارات الصعبة حين تدعو الحاجة، وأثناء وجوده في الدوحة عليه أن يحافظ على النظام فيها وأن يوفق بين القبائل المختلفة، ويحترس كي لا يصبح ألعوبة بيد الأتراك". اختار بعد التشاور مع القبائل ابنه عبد الله ليتولى الحكم من بعده.
* إرث سياسي باقٍ
يحفظ القطريون، شعبياً ورسمياً، الكثير من الاحترام لذكرى الشيخ جاسم ولشخصه حتى يومنا هذا، وقد حرص الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة على إعادة ترميم بيت الشيخ جاسم في لوسيل وجمع كل ما يتعلق به وإحياء ذكراه عبر اليوم الوطني للدولة. كما حرص، هو والأمير الشيخ تميم، على استلهام قيم ومبادئ الشيخ المؤسس جاسم من استقلالية القرار القطري وأن تكون قطر "كعبة المضيوم" وتقدم الخير لأبنائها وللعالم. وها نحن نجد قطر وهي الدولة الصغيرة جغرافياً، تقف مع المظلوم كما يحدث الآن مع الشعب الفلسطيني وعدوان إسرائيل المجرم عليه في غزة. ترك الشيخ جاسم ديوان شعر نبطي صدر عام 1910 قبل ثلاث سنوات من وفاته وهو مصدر هام لسيرته.
نظم الشيخ 12 قصيدة، متوسط طول الواحدة 30 بيتا وأغلبها أنشده خلال فترة سجنه في البحرين والجزء الآخر خلال تقاعده في لوسيل.
ومن أشهر قصائده "كعبة المضيوم":
ويلومني العذّال على مطلب العُلا
ويلومني من لا هواي هواه
وحْن كعبة المضيوم إلى ما وزابنا
نجيره ولا نرضى بغير رضاه