المقاطعة في مواجهة إسرائيل وداعميها
الصراع بين الدول لا يقتصر على الصورة الخشنة، ولكن هناك أدوات أخرى، أبرزها الحروب الاقتصادية، وقد عشنا الحرب التجارية بين أميركا والصين، والتي أطلق شرارتها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عام 2018.
ولم تغب الحرب الاقتصادية عن الصراع بين روسيا من جهة وأميركا وأوروبا من جهة أخرى، بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا. ففرضت أميركا وأوروبا العقوبات الاقتصادية على روسيا من خلال النظام المالي العالمي، وكذلك محاولة فرض سقف لسعر النفط الروسي، وحرمان روسيا من استيراد منتجات إلكترونية ضرورية، وبالمثل، ردت روسيا بتفعيل ما لديها من أوراق اقتصادية، متمثلة في سلع النفط والغاز والقمح وباقي الحبوب التي كانت تعتمد عليها أوروبا بشكل رئيسي.
والمقاطعة الإسلامية والعربية قديمة، منها مثلا حصار دام ثلاث سنوات فرضته قريش على النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في الشعب، والذي انتهى بهزيمة قريش ومحافظة بني هاشم وبني عبد المطلب على حياة رسول الله. وتضمنت المقاطعة الامتناع عن الزواج منهم، أو البيع، أو المجالسة والاختلاط، أو دخول البيوت والكلام معهم.
لم تغب الحرب الاقتصادية عن الصراع بين روسيا من جهة وأميركا وأوروبا من جهة أخرى، بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا
وحديثاً، في إطار الصراع العربي الإسرائيلي، صدر قرار من مجلس الجامعة العربية بإنشاء جهاز عربي لتنظيم شئون المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل والدول الداعمة لها في مايو 1951.
وفي سبتمبر/أيلول 1961، صدر قرار بتنظيم شؤون عمل الجهاز، وأن تكون دمشق مقرًا له، وأن تكون له مكاتب فرعية. وقدرت خسائر إسرائيل من جراء المقاطعة العربية ما بين الفترة 1960 – 1990 بنحو 50 مليار دولار.
واستمر عمل مكتب المقاطعة حتى بدأت اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل، من قبل مصر ثم الأردن والسلطة الفلسطينية، ثم توالت العلاقات الاقتصادية والتجارية من قبل بعض الدول العربية بشكل غير رسمي، إلى أن شهد عام 2020 هرولة أربع دول عربية للتطبيع مع إسرائيل (الإمارات، البحرين، السودان، المغرب).
المقاطعة في مواجهة التطبيع
كما أن هرولة بعض الدول العربية للتطبيع مع إسرائيل عام 2020، برزت فيها زيادة ملحوظة من قبل الإمارات في تعاملاتها التجارية والمالية، بل سعت أبوظبي لأن يكون التطبيع على المستوى الشعبي، وهو الأمر الذي لم يتحقق في كل تجارب التطبيع العربية مع إسرائيل.
وإذا كانت الحكومات قد مهدت الطريق لإسرائيل للتخلص من تبعات المقاطعة الاقتصادية، فإن الشعوب كان لها رأي آخر، فلم تتعاط الشعوب بشكل كبير مع محاولات التطبيع، بل كانت ردة فعلها كبيرة بعد الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الشعب الفلسطيني، وبخاصة بعد اعتداءات انتفاضة الأقصى عام 2000، حيث جرت مقاطعة العديد من الشركات الأميركية والإسرائيلية، وغيرها من الشركات الداعمة لإسرائيل، وبالفعل، غادرت بعض الشركات الأجنبية الأسواق العربية بسبب حملات المقاطعة.
إذا كانت الحكومات قد مهدت الطريق لإسرائيل للتخلص من تبعات المقاطعة الاقتصادية، فإن الشعوب كان لها رأي آخر، فلم تتعاط الشعوب بشكل كبير مع محاولات التطبيع
وتكرر رد فعل الشعوب من خلال المقاطعة الاقتصادية، بعد أحداث احتلال أميركا والدول الغربية أفغانستان والعراق، وكذلك عند سماح بعض الدول الغربية بتمرير رسومات أو ممارسات تستهين بنبي الإسلام أو شعائر الإسلام.
ومع طوفان الاقصى الذي انطلق في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عادت حركة المقاطعة الشعبية بشكل كبير في غالبية الدول العربية والإسلامية. وفي المقابل، غابت المقاطعة الحكومية في معركة طوفان الأقصى، حيث كان البعض يأمل أن يوقف تصدير النفط والغاز إلى إسرائيل وإلى الدول الداعمة لها، كما حدث في عام 1973، ولكن لم تكن الحكومات على مستوى الحدث.
وبلغت استهانة الحكومات بشأن المقاطعة أن ذكر وزير دولة نفطية، في أحد البرامج التلفزيونية، أنهم لن يوقفوا تصدير النفط والغاز من أجل غزة.
ومع الأيام الأولى للاعتداءات الإسرائيلية على غزة، خرجت إحدى منظمات الأعمال في دولة عربية تطالب بعدم مقاطعة الشركات والمطاعم في بلادها لأنها استثمارات محلية، وأنها توظف يد عاملة محلية، وهو نفس الخطاب الذي تبنته وسائل إعلام محسوبة على الدول العربية المطبعة.
كما خرج مسؤول كبير في دولة عربية في طريقها للتطبيع يروج للإقبال على واحد من المطاعم التي تعاني من انصراف المستهلكين عن خدماتها وتناول وجباتها، بسبب دعمها للجيش الإسرائيلي.
وقد رصدت وسائل إعلام عدة حالة من الانتعاش في واحدة من أكبر الأسواق العربية من حيث الاستهلاك، حيث إن الشركات المحلية انتعشت من حيث الإنتاج والمبيعات بنسب وصلت إلى نحو 300%، بعد حرص المواطنين على مقاطعة المنتجات الخاصة بالشركات الداعمة لإسرائيل.
المقاطعة المتممة
ما تقوم به الشعوب من أعمال المقاطعة بعدم شراء السلع والخدمات الخاصة بالشركات الإسرائيلية، أو شركات الدول الداعمة لإسرائيل، شئ مهم، ويسمى في الأدبيات الاقتصادية بالمقاطعة السلبية، وهي ناجزة في الأجل القصير.
والمتمم للمقاطعة السلبية هو تحقيق المقاطعة الإيجابية، وهي مهمة تليق بالحكومات ومجتمع الأعمال بشكل كبير، بحيث تُنتَج السلع والخدمات التي يجرى استيرادها أو إنتاجها في بلادنا بواسطة شركات إسرائيلية أو دول داعمة لإسرائيل.
ويتطلب ذلك حسن توظيف الاستثمارات العربية والإسلامية داخل دولنا، ويكفي أن نشير إلى أن هناك قرابة 3.6 تريليونات دولار رصيد لصناديق الثروة السيادية للدول النفطية الخليجية، هي قادرة على إحداث نقلات نوعية، إذا وظف الجزء الأكبر منها في مشروعات التنمية في البلاد العربية.
ما تقوم به الشعوب من أعمال المقاطعة، بعدم شراء السلع والخدمات الخاصة بالشركات الإسرائيلية، أو شركات الدول الداعمة لإسرائيل، شئ مهم
وتتضح أهمية المقاطعة الإيجابية من خلال اطلاعنا على بيانات التجارة الخارجية للدول العربية، فالتقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2022 يبين أن الواردات السلعية لعام 2021 في الدول العربية بلغت 810 مليارات دولار، منها 60% سلع مصنعة، عبارة عن عدد وآلات ومواد كيماوية وسلع تامة الصنع.
بينما الواردات من السلع الزراعية تصل إلى نسبة 20% من إجمالي الواردات العربية، وهو أمر يمكن أن يخلق مجالًا للتعاون والتكامل الاقتصادي العربي بشكل كبير، إذا ما تم تبني خطط لإنتاج تلك السلع عربيًا.
وعلى الجانب الآخر للتجارة الخارجية العربية، نجد أن النفط والغاز يشكلان 62% من الصادرات السلعية، حيث بلغت الصادرات السلعية العربية عام 2021 نحو 1.8 تريليون دولار، وهو ما يعني أن صادراتنا العربية تعتمد بشكل كبير على المواد الخام، ما يقلل من القيمة المضافة لتعاملنا مع العالم.
ختامًا: نجد أن واجب مجتمع الأعمال والمجتمع المدني أن يستفيدا من هذه الأحداث، ويتخذا من الخطوات ما يؤسس لانطلاق عدة مشاريع تساهم في توفير السلع والخدمات محلية، لتصل الرسالة إلى إسرائيل، والدول الداعمة لها، بأن ثروات الأمة وإمكانياتها تعمل في إطار حماية مقدساتها وشعوبها.