الهجرة إلى بريطانيا وأوروبا بين العنصرية والحاجة لليد العاملة
تشكل الهجرة قضية حيوية في بعض البلدان الأوروبية، خصوصاً فرنسا وألمانيا وبريطانيا، التي تعاني من نقص في العمالة، وتحتاج فيها الصناعة وقطاعات الخدمات، مثل الصحة والنقل والتعليم، إلى أيد عاملة مهنية.
وفي الوقت ذاته يجري اللعب على هذه المسألة من قبل أحزاب وقوى اليمين المتطرف من أجل كسب أصوات انتخابية، في ظل عدم قدرتها على تقديم برامج انتخابية مقنعة.
وفي ظل الصخب عالي الصوت، الذي يثيره اليمين المتطرف، تتنافس دول أوروبا ضمن سباق مفتوح لاستقطاب عمالة تؤمّن تسيير مرافقها، وتحدّ من وقوعها في عجز يؤدي إلى خلق أزمات اقتصادية واجتماعية وصحية. وتشير الأرقام إلى أن الاتحاد الأوروبي وبريطانيا يستقبلان أكثر من 1.2 مليون مهاجر جديد سنوياً.
ألمانيا تستوعب 5 ملايين مهاجر
وخلال العقد الماضي، استوعبت ألمانيا وحدها أكثر من خمسة ملايين مهاجر، قَدِموا بشكل رئيسي من البلقان وسورية وأفغانستان والأجزاء الكردية في تركيا والعراق، وفي الفترة الأخيرة، أوكرانيا ومولدوفا وبيلاروسيا.
تستخدم دول أوروبية قضية الهجرة كورقة من أجل نزاعات سياسية داخلية
في العام الأخير لها في منصب المستشارة الألمانية وجهت أنجيلا ميركل، دعوة إلى "شباب أوروبا" للعيش والاستقرار في ألمانيا. ووصل الوضع في بعض الحالات، إلى سرقة دول أوروبية العمالة الماهرة من بعضها البعض.
ومن حين إلى آخر تبرز أزمة كبيرة في بلد أوروبي، تكشف عن الحاجة الماسة للعمالة الأجنبية. ففي بريطانيا، هناك نقص حاد في عدد سائقي حافلات النقل الداخلي، وشاحنات النقل، فيما قدمت الحكومة إغراءات للسائقين المحترفين للقدوم والعمل في هذا المجال.
واللافت أن النقص ظهر بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وعودة ملايين الأوروبيين إلى بلادهم، بعد فقدانهم حق الإقامة والعمل في هذا البلد. وهناك مهن كثيرة واجهت نقصاً كبيراً في اليد العاملة مثل الصحة والبناء والنقل.
وانعكس هذا إيجاباً على دول مثل بولندا وبلغاريا ورومانيا، التي كانت تعاني على هذا الصعيد. وقدمت هذه البلدان تسهيلات وإغراءات لمواطنيها من أجل العودة، والعمل في بلدانهم.
وقد تنبهت بريطانيا إلى هذه النقطة متأخرة، فسارعت إلى تسوية الأوضاع القانونية لمواطني هذه البلدان. وقررت بصمت الاستمرار في منح مواطني الاتحاد الأوروبي الحقوق والتسهيلات التي كانوا ينعمون بها قبل "بريكست" حتى نهاية 2025، على أمل إقناع المزيد منهم بالبقاء في المملكة المتحدة، والتقدم بطلب للحصول على إقامة دائمة. وأصبح بوسع الذين يبقون التمتع بحق التصويت في الانتخابات المحلية البريطانية.
إيطاليا توافق على قبول مهاجرين جدد
وحتى إيطاليا التي تشكو من الهجرة، وفاز فيها اليمين المتطرف ببرنامج معاد للمهاجرين وللهجرة، وافقت أخيراً على قبول 136 ألف مهاجر جديد سنوياً. ولا تتحرج رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني من التصريح بأن الحاجة الفعلية هي 350 ألفاً. وينسحب وضع إيطاليا على بقية بلدان أوروبا، التي تظل بحاجة إلى ما يتجاوز ضعف الأعداد الحالية.
وذكر أحدث استطلاع رسمي، أجري في مايو/أيار الماضي، للقوة العاملة أن بريطانيا لديها مليون و83 ألف وظيفة شاغرة، وهو انخفاض سنوي قدره 55 ألف وظيفة، لكنه لا يزال أكثر بـ282 ألف وظيفة عما كان عليه قبل جائحة كورونا.
تتطلب العديد من الوظائف مهارات متخصصة، وتعاني بريطانيا على سبيل المثال، نواقص مزمنة في بعض المهن. الأكثر من ذلك، أن العديد من الوظائف محفوفة بالتحديات والصعوبات، وبالتالي ليست جذابة للقوة العاملة المحلية.
وهناك حالياً 165 ألف وظيفة شاغرة في قطاع الصحة في بريطانيا. وفي هيئة الخدمات الصحية الوطنية، يبلغ عدد الوظائف الشاغرة بدوام كامل 133 ألف وظيفة، أي ما يقرب من 10 في المائة من القوة العاملة.
وقد تكون النظرة الموفقة حول موضوع الهجرة، هي الشيء الوحيد الذي أصابت بشأنه رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس، التي أبدت قبل استقالتها، في أكتوبر/تشرين الأول 2022، استعداداً لتخفيف قواعد الهجرة لتخفيف أزمة القوة العاملة، في حين أن مشاريع القوانين الجديدة التي يجري نقاشها حالياً، تهدف إلى تقليص عدد المهاجرين بـ300 ألف شخص سنوياً.
تواجه أوروبا نقصاً فادحاً في المواليد في حين أنها تحتاج إلى تجديد نفسها
وتعليقاً على ذلك، قالت مديرة "مرصد الهجرة في جامعة أكسفورد مادلين سامبشون، إن هذه التغييرات ستجعل المملكة المتحدة حالة استثنائية تشذ عن القاعدة، التي تتبعها دول الغرب الأخرى. وأضافت: "لا شك أن هذا التوجه يختلف كلياً عما تفعله أية دولة أخرى من الدول مرتفعة الدخل".
استخدام الهجرة كورقة لنزاعات سياسية داخلية
واللافت أنه، بدلاً من أن تواجه أوروبا الحقائق، ووضع سياسة مشتركة لمشاركة التحديات والمزايا المرتبطة، تستخدم قضية الهجرة كورقة من أجل نزاعات سياسية داخلية من جهة، وممارسة ضغوط على دول أخرى، تعد مصدراً أساسياً للمهاجرين، من جهة أخرى.
ونشط اليمين العنصري المتطرف على الاستثمار السياسي، تحت ضباب من العواطف القومية الزائفة، وصار يهدد بانفجارات اجتماعية في عدد من البلدان، بسبب نشر ثقافة الكراهية، والتحريض على العرب والمسلمين. وما حصل في فرنسا، في يونيو/حزيران الماضي، من اضطرابات، يشكل مثالاً على الاحتقان، الذي يتراكم مع مرور الوقت، بسبب سياسات الإدماج الفاشلة.
وباتت الموضة الحكومية الآن اللعب بورقة الهجرة من أجل التهرب من مواجهة الأزمات، وخاصة في فرنسا وبريطانيا. ويشهد البلدان نقاشاً محموماً حول هذا الشأن. تريد لندن أن تستفيد من المهاجر وتحرمه من المزايا، ولذا تعمل على وضع قوانين تصعّب عملية لمّ الشمل، وبالتالي يعيش العامل بمفرده من دون أفراد عائلته.
وتبدو مسألة لم الشمل واحدة من القضايا المحورية في كل قوانين الهجرة الأوروبية. ويضغط اليمين من أجل عمالة غير مرتبطة بأي تسهيلات عائلية. وتفيد الإحصائيات بأن 40 في المائة من الأطفال الذين يولدون في فرنسا هم من آباء مهاجرين.
أوروبا تواجه نقصاً فادحاً في المواليد
يعد هذا الأمر، بالنسبة لليمين، خطراً ينذر بتغيير هوية أوروبا خلال فترة عقدين على أبعد تقدير، وهذا ما يعمل على مواجهته. ولكن أوروبا تواجه على الجانب الآخر نقصاً فادحاً في المواليد، في حين أنها تحتاج إلى تجديد نفسها، فيما شكت عدة دول من تحوّلها إلى شعوب عجوزة.
الثابت هو أن الحياة السياسية في أوروبا ستدور في المرحلة المقبلة حول الهجرة، ومن غير المستبعد أن تؤدي هذه القضية إلى إثارة أزمات أوروبية ذات طابع ثنائي، يتعلق باحترام القوانين الأوروبية، وخاصة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تسجل تجاوزات كثيرة تتعلق بعمليات إبعاد، ومنع تنقّل أفراد داخل الاتحاد الأوروبي على نحو غير قانوني.
وحذّر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، أخيراً، من أن الأوروبيين يقومون بتقويض الاتحاد الأوروبي بأيديهم. وكان يشير إلى عدم احترام دول أوروبية لاتفاقات تنقّل الأفراد، وخرقها بشكل فاضح، ومن ذلك إعلان وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، أخيراً، أن هناك ما بين 40 إلى 50 ألف شخص يتم منعهم كل عام من دخول فرنسا، عن طريق الحدود مع إيطاليا.
هذا القرار بنظر المؤسسات الأوروبية غير شرعي، ويخالف "اتفاقية ماستريخت"، التي أزالت الحدود بين دول الاتحاد الأوروبي، ومنعت التدقيق في أوراق الهوية لدى الانتقال، وسمحت بحقوق الإقامة والعمل لكل مواطني الاتحاد من دون قيود.
يتعمق المأزق بصورة متواصلة، بين الحاجة المتزايدة إلى العمالة، وتجديد نسل القارة الأوروبية، وبين الدعوات السياسية العنصرية، التي ترفع شعارات "صفر هجرة" والصفاء العرقي.