المآلات الخبيثة للعولمة
أ.د عامر حسن فياض
حتى بين الذين يتذرعون بها فإن العولمة كمفهوم لايزال غامضاً وملتبساً، رغم محاولات علماء السياسية والفكر، وكذلك معظم رجالات الدولة، النظر إلى هذا المفهوم، بوصفه كيفية حاكمة لعمليات عديدة منها التنافس الدولي، الابتكار، شيوع ظاهرة انتقال وسائل الإنتاج والتبادل الصناعي والتجاري بمرونة أكثر من ذي قبل وعلى نحو من الإفلات من قدرة الدولة الوطنية على ضبطها.
ويختلط على الكثير الفهم والفصل ما بين مفهومي العولمة والعالمية، نظراً لتقارب اللفظ والإشارة ما بين المفهومين، إلا أنه في الحقيقة هناك بون واسع ما بينهما.
فالعالمية تعدُّ مفهوماً قيمياً، أما العولمة فإنها تعد مسارا موضوعيا تاريخيا، حيث ترتبط العولمة بمجموعة من العمليات (ممارسات وأنشطة) ذات الهدف المحدد والواعي بإرادة القائمين عليها، بمعنى أدق هي مشروع مبرمج له أهداف غائية ووسائل تنفيذية عابرة للحدود والسلطات، بينما العالمية تعبّر عن العلائقية القانونية والطبيعية التي تربط البشر أجمع، وعن تطلع المحلي للعالمي دون التجاوز على خصوصية الآخرين.
والعالمية دعوة للتفاعل الحضاري والميل للنزعة الإنسانية الراغبة إلى التلاقح والتعاون والتكامل والتساند، وهي الطموح للارتقاء بالخصوصية من مستوى المحلي إلى مستوى العالمي، لذا فهي طموح مشروع وإثراء للهوية الذاتية، بينما تعبر العولمة عن طموح جامح للهيمنة وكسر خصوصية كل ما هو ذاتي، ومحاولة للاختراق غير المشروع حسب تفسير محمد عابد الجابري.
ومن هنا يتضح أن العالمية تعبّر عن اندفاع غير إرادي سببه الطبيعة البشرية ذات النزعة الاجتماعية، بينما العولمة تكشف عن تطور عابر للحدود ذي نزعة إقصائية مبرمجة، وغائية ذات أهداف تبتغي تحقيق مصالح وإحداث نتائج أحادية لصالح جانب واحد.
وعلى أساس ما تقدم فإن أهداف العولمة ومجالاتها تتوزع ما بين أهدافٍ سياسيَّةٍ واقتصاديَّةِ وثقافية.
ففي الجانب السياسي أصبح جوهر العولمة متمظهرا في التركيز على غلبة أفكار التحول الديمقراطي وبناء المجتمعات المدنية ومحاولة الغرب الرأسمالي المتوحش فرض تطبيق تلك الاشتراطات في جميع دول العالم.
وهذه الاشتراطات التي يحاول الغرب فرضها على مجتمعات الدول غير الغربية جاءت في الكثير من التجارب بنتائجَ عكسية، بسبب أن المنظومة الغربية لم تأخذ بعين الحسبان حالة عدم الانسجام بين الكثير من الثقافات للشعوب المختلفة، وبين الفرضيات الغربية حول التحول الديمقراطي، ولهذا نجد أن النماذج التي حاولت الاتساق مع هذه الأطروحات في بلدانٍ مثل بعض البلدان الآسيوية والأفريقية، وإن نجحتْ في بعض جزئياتها، إلا أنها لم تستعدِ السيطرة على حالة التحول، بسبب عوامل عديدة منها الثقافة والأيديولوجية الناظمة لبناء تلك المجتمعات والسلطة السياسية والاجتماعية، ذات التوجه السلطوي وتأكيد القيم الشخصية والقبلية والوطنية والقومية على حساب الفرضيات الغربية العولمية.
وعن الهدف الاقتصادي للعولمة فإنه يتركز في رفع القيود عن انتقال رؤوس الأموال وحركة الانتقال الحر للتكنولوجيا وزيادة المعدلات في التبادل التجاري وإنشاء تحالفات ستراتيجية بين الشركات الرأسمالية العابرة للحدود لتحقيق قرارات تنافسية وإحداث تأثيرات سياسية واقتصادية واجتماعية عابرة للحدود، فضلا عن انشاء هياكل تكنولوجية، هدفها تنمية لغة للتواصل بين المجتمعات عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وتركيز العمل من خلال أحداث الثقافة الحديثة في محاولة دمج المجتمعات من خلال التقنية لأهداف نفعية ربحية وسياسية واستخباراتية وثقافية وعسكرية وأمنية.
اما عن الأهداف الثقافية للعولمة، فليس هناك ثقافة عالمية واحدة كما يريد الغرب، وليس من المحتمل أن توجد في يومٍ من الأيام، وإنما وجدت وتوجد وستوجد ثقافات متعددة متنوعة تعمل كلٌّ منها بصورة تلقائية، أو بتدخل إرادي من أهلها على الحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة.
فمن هذه الثقافات ما يميل إلى الانغلاق والانكماش ومنها ما يسعى إلى الانتشار والتوسع، ومنها ما ينعزل حينا وينتشر حينا أخرى، كما يرى الباحث العراقي ستار علاي في دراسته عن مضامين واهداف العولمة.
ولكن في عصر العولمة وجد ترابط غير مسبوق بين الثقافة والاقتصاد، لم يكن كذلك في المراحل التي سبقت هذا الفصل، لا سيما بعد أن ارتبطت التنمية الاقتصادية بالثورة المعرفية وانعكاساتها على مجالات الاتصال والمعلومات وتطور الإنتاج الفكري من المكتوب إلى ما بعد المكتوب.
فالعولمة في ثنائية هذا النظام الجديد تمكنت من اختراق جميع المجالات، ومن ضمنها المجال الثقافي، حيث يتضح هذا الاختراق في صياغة قيم ومعايير وعادات وسلوكيات لثقافة عالمية بسيطرة غربية، عبر استثمار تلك المكتسبات المعرفية الجديدة، المدفوعة بالديناميات التي تحركها العولمة، فأصبحت ثقافة الصورة هي الشكل الجديد لتشكيل الوعي في ظل ثقافة العولمة الثقافي، لأن أجهزة التواصل المزودة بالانترنت أصبحت المؤسسة التربوية الجديدة التي تقوم بدور الترويج للثقافة، حيث أخذت تلك الوسائل دور الأسرة والمدارس والجامعات والمؤسسات التربوية والاجتماعية الأخرى، ناهيك عن أن التبادل أصبح أقلَّ ندية بين ثقافة تمتلك موارد تمكنها من التغلب على ثقافة أخرى أقل موارد.
لقد خلق هذا الاختراق ثنائية صراعية ما بين البنى التقليدية، التي تتبناها الدولة الوطنية وما بين البنى الجديدة التي خلقتها العولمة، والتي تحاول وضع نظام جديد لتسيير الاقتصاد وبناء ثقافة متسقة معها، هذه البنى التي فرضتها العولمة أثارت وحفّزت النزعات الهوياتيَّة الفرعية الضيقة، ذات الأبعاد المذهبية الدينية والمناطقيَّة والإثنية العنصرية والتي بالضرورة تمثل تهديداً لوجود الدولة الوطنية، فضلاً عن أن العولمة تُحاول إلغاء الصراعات الأيديولوجية لتحل محلها في مسائل تتصل بالأنماط السلوكية، التي من خلالها تستطيع المجتمعات حفظ تاريخها وبنيتها الفكرية الحاكمة كوسيلة متبعة للتعامل مع الماضي والحاضر والمستقبل، وكذلك للتعامل مع العالم، وهذا بدوره يفسر لماذا تدعو العولمة للتوحد الثقافي ضمن إطار ثقافة عالمية واحدة تهدف إلى تمزيق الهويات التعددية لشعوب العالم والتي تحفز بدورها الصراع القيمي، وإضعاف الانتماء للثقافات الوطنية وجعلها ثقافات تابعة مسلوبة الإرادة، تتحكم بها الشركات العابرة للجنسيات، سواء تعيش مجتمعاتها تحت نظام الفوضى أو نظام التفاهة، فإذا أرادت نظام فوضى عليها بالعولمة، واذا أرادت نظام تفاهة عليها بالعولمة
أيضاً.