استغلال القضية من أعداء الحرية
في الأشهر الأولى لقيام الثورة السورية، وقبل تحوّلها إلى مقتلة، هتف لي من كنتُ أعتبره صديقًا وأخًا عزيزًا. وكان موضوع المكالمة الخارجية، وهو المقيم في بيروت، شرح موقفه من الاحتجاجات الشعبية العارمة التي كانت تجري بشكل شبه يومي في مختلف أنحاء القُطر السوري. هذا المحامي المتبحّر في القانون الدولي والمتمرّس في تعليم القانون الدولي الإنساني، والمشارك في تأسيس وتحرير صحيفة كان الاعتقاد يسود يومًا بأنها تقدّمية وتقف مع حقوق الشعوب، قبل اكتشاف تبعيّتها لقوة إقليمية غير تقدّمية ألبتة من خارج العالم العربي، عبّر لي، في البداية، عن تفهّمه الأسباب وراء اندلاع الاحتجاجات في سورية. حتى أنه كاد يدّعي نصرته نيل أهدافها التي تدرّجت صعودًا من المطالبة بالإصلاحات السياسية، وصولاً إلى تغيير النظام الحاكم. ومن دون سابق إنذار، وبكثيرٍ من سبق الإصرار والترصّد، انبرى "صديقي" ليقول إن تفهمه هذه الثورة ودعمه لها مشروطان بأمر واحد لا ثاني له. وبانتظار أن يكشف ماهية هذا الأمر المنفرد، أُصبتُ بحالة من الاستغراب البنّاء، سائلاً المولى عزّ وجلّ أن يساعدني تكيّفي السياسي والفكري على تحمّل الصدمة المنتظرة، فقد كانت حياتي، وما زالت، محطّات مستدامة من الصدمات التي يوقعها بي الأصدقاء قبل الأعداء. وكما الخيبات التي تتراكم على كل المستويات، وفي مختلف المواضيع. فعن ماذا تمخّض شرط المحامي الرعديد؟
"إذا توجّهت مظاهرات المحتجين السوريين نحو الحدود مع الكيان الصهيوني المغتصب لحقوق الشعب الفلسطيني، فسأقف معها من دون تردّد". هذا ما هرف به الصديق السابق من كلام. ومنذ ذاك اليوم، تحوّل إلى شتّامٍ لا يُصيبه الملل من نعتي ونعت من مثلي بالخيانة والعمالة لقوى خارجية تسعى إلى إضعاف الدور (الرسمي لا الشعبي حتمًا حسب وجهة نظره) السوري في مقاومة العدو الإسرائيلي. كما أنه انضمَّ لجوقة الأبواق الإعلامية التي تنشط لصالح الأنظمة الاستبدادية وداعميها الإقليميين والدوليين، وفي مقدمتها المجموعة الحاكمة في دمشق. ليتوّج أخيرًا نشاطه "القومي" بانخراطه في تشويه (وتشويش) عمل المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
تموضُع هذا الفصيل من الكائنات إلى جانب المستبدّ وأدواته لا يُترجم موقفًا أخلاقيًا ولا موقفًا وطنيًا أو قوميًا. ومهما طال البحث والاستطلاع لمعرفة الأسباب المُحرّضة عليه، إن كنّا سليمي الطوية واستبعدنا الفائدة المالية المباشرة، فالنتيجة تكون أن نستنتج عطبًا فكريًا وتشوّهًا تحليليًا وانحرافًا في الاستنتاج والاستنباط. وبالتالي، للتستّر بقضية مركزية مشروعة أبعاد قومية وإنسانية وأخلاقية، ما هو، في تلافيف التفاصيل، إلا مؤشّر على الانتهازية السياسية الموصوفة من دون أية مواربة تُذكر. وكم برَعت الأنظمة العربية عقودا، غيّبت خلالها الحريات عن شعوبها، في هذا الأداء. وكم باعت واشترت باستثمار مواقفها الصوتية وتصريحاتها المكتوبة بملفّ القضية الفلسطينية العادلة، وصولاً إلى درجة استخدامها بوقاحة منقطعة النظير حجّة مستهلكة لقمع كل أنماط التعبير الحرّ عن المواقف السياسية والفكرية الإصلاحية الداعية والساعية إلى تحرير المجتمعات العربية من الأنظمة الاستبدادية التي تُطبق على أنفاسها، كما أنها هادنت وصالحت وطبّعت مع العدو الصهيوني، سرًّا أو علنًا، محتفظةً، في المقابل، بخطاب تحشيدي موجّه إلى الداخل، فارغ من المعنى.
صار مقاومًا مَن تسلّم العراق على طبقٍ من الجثث من الاحتلال الأميركي
من يتصدّر المشهد اليوم من ممثلي هذه المسرحية عُرِفوا باستعمار الأوطان التي يحكمونها بالحديد والنار، كما عُرِفوا بقمع الأصوات المطالبة بالعمل الجدّي، سياسيًا وعسكريًا وثقافيًا وفكريًا، لمواجهة المشروع الصهيوني في مختلف ترجماته الاستيطانية والاستعمارية والعنصرية. ومنهم من حصل على أسلحة إسرائيلية لمحاربة جارٍ عربي بغرض إشغال المنطقة وإشعالها. كما منهم من وضع خريطة جغرافية أوضح من خلالها أن الطريق إلى القدس الشريف لا بد من أن تمر على جثث كل المدن السورية وأنقاضها، قبل أن تقف بوجلٍ مُنسّق على حدود الكيان المغتَصِب. ومن هؤلاء، أيضًا، من أعدم مواطنيه بتهمٍ مفبركة لمجرّد ميلهم إلى الحرية. ومنهم من اغتال مثقفيه الذين ارتبط نضالهم السياسي بالسعي من أجل التكامل بين تحرير الذات العربية وتحرير الأرض الفلسطينية.
صار مقاومًا من تسلّم العراق على طبقٍ من الجثث من الاحتلال الأميركي وخضع لاحتلالٍ إيراني غير مباشر، وأنشأ مجموعات مسلحة تفرض منطقًا طائفيًا على بلدٍ عرف كل أنماط الشناعة السياسية إبّان عهود أباطرته المستبدين السابقين دونًا عن الطائفية، فصار اليوم يُعيد إنتاج النظام السابق مع جرعة سامّة من الطائفية الممنهجة.
يسعى المستبدّ العربي، دولةً أم تنظيمًا، فردًا أم جماعةً، من خلال الاستثمار الكاذب في القضية الفلسطينية، إلى تمييع المواقف الشعبية الصادقة من هذه القضية، مستفيدًا إلى أقصى درجة من توصيف حنا أرندت التالي: "عندما يكذب عليك الجميع طوال الوقت، فإن النتيجة ليست أنك تصدّق الأكاذيب، بل إن لا أحد يصدّق أي شيء بعد الآن. الشعب الذي لم يعد قادراً على تصديق أي شيء لا يمكنه تكوين رأي. إنه محرومٌ، ليس فقط من قدرته على التصرّف، بل أيضًا من قدرته على التفكير والحكم. ومع هؤلاء الأشخاص، يمكنك أن تفعل ما تريد".