أهارون باراك.. من هو ممثل إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية؟
على الرغم من معاداة رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزرائه للقاضي المتقاعد أهارون باراك الرئيس السابق للمحكمة العليا الإسرائيلية، فإن نتنياهو اضطر لاختياره لتمثيل إسرائيل في فريق قضاة محكمة العدل الدولية، في إطار الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا، وتتهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة.
وبموجب النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، فإن الدولة التي ليس لديها قاضٍ يحمل جنسيتها في هيئة المحكمة يمكنها أن تختار قاضياً خاصاً للجلوس في قضيتها، لينضم إلى 15 قاضياً تتألف منهم هيئة المحكمة. في المقابل، سيتولى البروفيسور البريطاني مالكولم شو الفريق القانوني الذي سيرافع نيابة عن إسرائيل أمام المحكمة.
وجاء اختيار نتنياهو لباراك نظراً لمكانة الأخير العالمية، مراهناً على إمكانية تشكيله طوق نجاة لدولة الاحتلال في المحكمة الدولية، علماً أن باراك نفسه كان قد تعرض لهجمات من وزراء وأعضاء الكنيست من الائتلاف الحكومي، بسبب انتقاده خطة التعديلات القضائية التي تسعى حكومة نتنياهو لتمريرها لتقويض القضاء. وبلغ الأمر حدّ تظاهر مؤيدين للحكومة أمام بيته، وشنّ هجمات غير مسبوقة عليه، والمطالبة بسجنه.
وأثار اختيار أهارون باراك ذهول الكثيرين، خصوصاً في أوساط أقطاب الائتلاف الحكومي الذين ناصبوا القاضي المتقاعد العداء، على مدار الفترة الماضية. لكن في لحظة الحقيقة، وعندما وجدت إسرائيل نفسها أمام اختبار مصيري في محكمة العدل الدولية، قرّرت اللجوء إليه، بعد توصية من قبل المستشارة القضائية للحكومة غالي بهراف ميارا، التي اعتبرته الأنسب للمهمة.
ويكتسب أهارون باراك أهميته بالنسبة إلى إسرائيل، من تجربته الغنية بالقانون الدولي، خصوصاً في ما يتعلق بالاحتلال والنزاعات، وفصله بقضايا تتعلق بممارسات دولة الاحتلال وجيشها ومختلف مؤسساتها، بحق الفلسطينيين. وشكّلت نظرته في بعض القضايا طوق نجاة للاحتلال.
من هو أهارون باراك؟
بحسب المعلومات في موقع وزارة القضاء الإسرائيلية، وُلد باراك عام 1936 في ليتوانيا، وهاجر في عام 1947 إلى إسرائيل. شارك بين 1970 و1972 بدعوة أممية في إعداد معاهدة دولية بشأن الكمبيالات، وقام بالتدريس في كلية الحقوق بجامعة نيويورك.
في الأعوام 1975-1978 شغل منصب المستشار القضائي لحكومة الاحتلال. وفي عام 1978، كان عضواً في فريق التفاوض لصياغة اتفاقيات كامب ديفيد، وبدأ في العام ذاته العمل قاضياً في المحكمة العليا، وانضم إلى رئيس حكومة الاحتلال الراحل مناحيم بيغن مستشاراً قانونياً في مفاوضات كامب ديفيد.
بين عامي 1982 و1983، كان باراك عضواً في لجنة التحقيق الرسمية عقب مجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان. وابتداءً من 1992، تركّز نشاطه بشكل رئيسي على تعزيز وتشكيل الثورة الدستورية التي، بحسب قوله، خلقت القوانين الأساسية التي تتناول حقوق الإنسان.
في عام 1993، ومع تقاعد نائب رئيس المحكمة العليا مناحيم ألون، جرى تعيينه مكانه. وفي عام 1995، عُيّن في منصب رئيس المحكمة العليا.
عمل باراك في فترة رئاسته للمحكمة على تطوير مفهوم النشاط القضائي الذي بموجبه يجب على المحكمة ألا تكتفي بتفسير القانون، بل سدّ الثغرات في "التشريع القضائي". كما عمل على مدار نحو 20 عاماً للدفع بمذكرات قوانين مدنية.
تقاعد في 16 سبتمبر/ أيلول 2006، وبعد 3 أشهر، نشر أحكامه الأخيرة، بما في ذلك عدة سوابق قضائية، منها ما يتعلق بدفع تعويضات للفلسطينيين في الضفة الغربية جراء الأضرار التي لحقت بهم، وقرارات بشأن عمليات الاغتيال. لكن هذه القرارات لم تحجب حقيقة أن المحكمة العليا في عهد باراك كانت تُعتبر درعاً واقيةً لدولة الاحتلال في وجه الدعاوى التي رفعها ضدها العديد من الدول، والجمعيات، والمنظمات الفلسطينية، أو المؤيدة للقضية الفلسطينية.
كيف شكّل طوق نجاة لإسرائيل؟
يتحدث المحامي والخبير القانوني محمد دحلة، والذي كانت له مرافعات أمام القاضي باراك، لـ "العربي الجديد" عن أسباب اكتسابه هذه السمعة عالمياً، وكيف أن قراراته خدمت الاحتلال أمام العالم.
ويوضح في البداية أن باراك هو "قاضٍ صهيوني مؤيد لسياسات إسرائيل، ويهودي وطني يؤمن بالصهيونية، وأن دولة إسرائيل يجب أن تكون دولة يهودية وديمقراطية"، مشيراً إلى أنه "يحاول التوفيق ما بين اليهودية والديمقراطية. ومن هذا المنطلق كانت قرارات القاضي أيضاً في ما يتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة، بمعنى أنه من ناحية في القضايا المفصلية، كان يدعم موقف الأجهزة الأمنية وموقف الحكومة الإسرائيلية، ولم يكن يعارض الجهاز الأمني بشكل دائم، وإنما كان في كثير من الحالات، عندما يكون موضوع الأمن على المحك، يعطي الضوء الأخضر للجهاز الأمني الإسرائيلي وللجيش الإسرائيلي وأكثر من ذلك، كان يعطي الجيش الإسرائيلي مسوّغات قانونية بموجب تفسير للقانون الدولي، خاصة القانون الدولي الإنساني المتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة".
ويتابع: "سياسته الدائمة أنه لم يكن بمثابة ختم مطاطي للأجهزة الأمنية في كل الحالات، ولكن كان يتوافق مع المؤسسة الإسرائيلية والحكومة الإسرائيلية والأجهزة الأمنية ربما في 70 أو 80% من الحالات، ولكنه كان يتدخل في بعض الحالات".
ويشير إلى أن "تدخله في بعض الحالات لصالح الفلسطينيين في بعض القضايا هو الذي أكسبه نوعاً من أنواع الشرعية على المستوى الدولي وحتى المحلي، بمعنى أنه عندما كان مقارنة بزملائه في المحكمة العليا، يتدخل في بعض القضايا لصالح السكان الفلسطينيين، كان يُنظر إليه على أنه أفضل من غيره، وأنه ليبرالي أكثر من غيره، وأنه متمسك أكثر بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولكن كما قلت، في نحو 80% من الحالات كان يدافع أو يبرر أو يصادق على موقف الأجهزة الأمنية والحكومة الإسرائيلية".
أهارون باراك مناصر للاستيطان
ويضيف دحلة: "في القضايا الكبيرة، كان باراك إلى جانب الحكومة الإسرائيلية والإجراءات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأهمها، موضوع الاستيطان. في موضوع الاستيطان، لم يذهب القاضي باراك إلى ما يقوله القانون الدولي وكل خبراء القانون الدولي خارج إسرائيل، بأن الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة مخالف للقانون الدولي ويُعتبر بمثابة جريمة حرب، لا بل بالعكس، قام بشرحه وتنميقه وتسويغه بموجب تفسير جديد أوجده للقانون الدولي، على أن هذا الأمر، لأسباب أمنية، قد يكون مسموحاً به، والحالة الوحيدة التي اعتبر فيها الاستيطان على أنه مخالف للقانون الدولي، كان على أراضٍ فلسطينية بملكية خاصة".
موقف أهارون باراك من الاغتيالات
تُعتبر قضية الاغتيالات قضية مفصلية أخرى، إذ كانت هنالك التماسات للمحكمة العليا ضد هذه السياسة، وكان موقف القاضي أهارون باراك أن هذا الأمر مسموح به، ولكن ليس في كل الحالات.
لم يمنع القاضي باراك عمليات الاغتيال التي تنفّذها إسرائيل ضد فلسطينيين، ووجد الطريق لمنحها مسوغات قانونية.
وفي السياق، يوضح المحامي محمد دحلة لـ "العربي الجديد" أن باراك، "لم يقل إنها ممنوعة نهائياً أو مسموحة كلياً، وأنه يجب أن تُبحث كل قضية على حدة. وقال إنه استناداً إلى اتفاقية جنيف، ممنوع أن يكون المواطنون هدفاً لهجوم عسكري، إلا إذا كانوا يشاركون في القتال، وفسّر أن المشاركة في القتال ليست بالضرورة أثناء حمل السلاح، وإنما أي مواطن هو جزء من منظمة تعتبرها إسرائيل منظمة إرهابية، ولم يتراجع عن ذلك، فبالإمكان اغتياله حتى لو لم يكن منخرطاً في عمل عسكري وقت اغتياله، وحتى لو كان في بيته، مثلما حصل مثلاً بالقضية المشهورة، قضية صلاح شهادة، الذي تم اغتياله في بيته مع آخرين في قطاع غزة".
ويذكّر بأن "المحكمة العليا برئاسة باراك وقتها قالت إن هذا مسموح به في بعض الحالات، حتى لو لم يكن هذا المواطن مشاركاً في لحظتها في عمليات عسكرية، ووضعت بعض القواعد، التي على ضوئها يجب بحث قانونية الاغتيالات العينية". ويضيف: "قالوا مثلاً إن الاغتيال يجب أن يكون كجزء من عملية منع لعملية عسكرية يسمّونها عملية إرهابية قادمة، كجزء من منع خطر قادم، شرط أن يكون هنالك فعلاً خطر قوي ومقنع، ويجب أن ألا يكون هدف الاغتيال الردع أو العقاب. يعني الهدف ليس معاقبة من قام بعملية عسكرية أو ردع آخرين من القيام بذلك، وإنما أن يكون واضحاً أن الاغتيال جاء لمنع شخص ما من تنفيذ عملية رغم أنه لا يمكن بالفعل معرفة إن كان الشخص يخطط لعميلة أم لا. وقرروا أيضاً أنه لكي يكون الاغتيال قانونياً، يجب أن يكون هذا الشخص شريكاً في عمل متواصل وليس عملاً لمرة واحدة. وقالوا أيضاً إنه لا يمكن استعمال سياسة الاغتيالات إذا كان بالإمكان اعتقال المواطن المشتبه به، وكذلك لا يمكن تنفيذ سياسة الاغتيالات إذا كان من الواضح أنه ستحصل ما يسمّونها أضرار جانبية، لمواطنين أبرياء على نحو غير متناسب مع الهدف".
ويعتبر دحلة أن هذا أمر غامض، ولكنه قد يجيز مثلاً اغتيال شخص معيّن وهو موجود مع زوجته وأن لا بأس في ذلك، بينما لو كان في عمارة وسيؤدي ذلك إلى قتل 100 شخص، فهذا غير قانوني على سبيل المثال".
حرب الخليج
من الحالات التي تدخّل بها أهارون باراك لصالح الفلسطينيين في قراراته، حالة مشهورة تتعلق بحرب الخليج الأولى. ويوضح دحلة هنا: "عندما كان هناك توزيع كمامات واقية لجميع سكان البلاد خوفاً من إطلاق صواريخ من العراق تحمل رؤوساً كيميائية، قامت إسرائيل في حينه بتوزيع الكمامات على المواطنين داخل الخط الأخضر، ولم يتم توزيعها على الفلسطينيين. وبعد تقديم التماس للمحكمة العليا، قام أهارون باراك بإلزام الجيش الإسرائيلي بالقيام بالأمر، وقال إنه بصفته مسؤولاً عن الحياة والنظام العام، عليه أيضاً توزيع هذه الكمامات على السكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وهذا القرار استُعمل لاحقاً من قبل الحكومة الإسرائيلية في كل المحافل الدولية، لكي يظهروا وكأن الاحتلال له وجه حسن جميل، وأن هنالك جهازاً قضائياً إسرائيلياً مستقلاً وفعّالاً، بإمكانه أن ينصف الفلسطينيين، وحتى الفلسطيني الموجود في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكأن هذا الاحتلال هو احتلال متنور".
جدار الفصل العنصري
ومن القضايا الأخرى التي تدخل فيها القاضي أهارون باراك أثناء وجوده في المحكمة العليا، هي قضية جدار الفصل العنصري الذي قامت ببنائه إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ويقول دحلة لـ"العربي الجديد" هنا، "هذه قضية كنت أنا أترافع فيها. قدّمنا التماساً هاماً يتعلق بجدار كان يُبنى في منطقة شمال غربي القدس، ويقضم عشرات آلاف الدونمات من 6 قرى فلسطينية، بينها بيت سوريك. هذا الالتماس الذي نُظر به قبل فترة وجيزة من إصدار قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي في قضية الجدار، الذي كما مرتقباً في حينه. وأثناء المداولات في المحكمة العليا الإسرائيلية، كان القاضي أهارون باراك يستعجل الجلسات، ويعيّن جلسة تلو الأخرى خلال أيام، وفي نهاية المطاف قبل هو وزملاؤه الالتماس الذي قدّمناه، وألغى مسار الجدار، معتبراً أن مسار الجدار في تلك المنطقة يمسّ بحقوق السكان الفلسطينيين بدرجة أكبر مما يتطلبه الاحتياج الأمني الذي ذكرته الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وهو منع دخول فلسطينيين لتنفيذ عمليات خلال الانتفاضة الثانية داخل إسرائيل. إذاً في هذا القرار، رأينا أن أهارون باراك تدخّل وقرّر أن مسار الجدار غير قانوني، ولكنه لم يذهب إلى ما ذهبت إليه محكمة العدل الدولية بعد أسبوعين من قراره، حيث قالت محكمة العدل الدولية إن الجدار برمته غير قانوني وأن بناء الجدار داخل الأرض الفلسطينية المحتلة بما في ذلك القدس الشرقية، هو مخالف للقانون الدولي".
ويضيف دحلة في حديثه لـ "العربي الجديد": "عدت إلى القاضي باراك لاحقاً في قضية جدار كان يُبنى في حينه في مدينة القدس، في منطقة الرام، ويقسم الشارع الرئيسي في منطقة شمال القدس إلى قسمين، ويفصل المواطنين الفلسطينيين عن بعضهم البعض، وبُني في وسط الشارع، تقريباً على ما يُسمى حدود بلدية القدس التي وضعت بعد عام 1967. هذا الجدار بموجب قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي كان غير قانوني بتاتاً، ومخالفاً للقانون الدولي. أنا عدت في التماس آخر إلى المحكمة العليا حين كان يرأسها أهارون باراك، واستعملت قرار محكمة العدل الدولية بأن الجدار مخالف للقانون الدولي ويجب إزالته، ولكن القاضي باراك أصدر قراراً في هذا الالتماس، أنه مع كل التقدير لقرار محكمة العدل الدولية في لاهاي، ولكن هذا القرار لا يُلزم المحكمة العليا الإسرائيلية. وقال إن ما يلزم المحكمة العليا الإسرائيلية هو بالأساس القانون الإسرائيلي، وبما أن القدس الشرقية هي جزء من إسرائيل، بعد أن طبّق عليها القانون الإسرائيلي، فما يلزمه هو القانون الإسرائيلي، وما يُسمّى قانون أساس القدس مدينة موحدة وما إلى ذلك، وفي نهاية المطاف قام برد الالتماس الذي قدّمناه بخصوص عدم قانونية الجدار في شمال مدينة القدس".
ويلفت إلى أن هذا يعني أنه في بعض الحالات يتدخل ويحاول إظهار وجه ناصع للمحكمة العليا من ناحية، وللاحتلال كذلك من ناحية أخرى، وكأن هذا الاحتلال هو احتلال عاقل ومتنوّر ومنطقي، وتحكمه سلطة القانون، واحتلال ينصاع إلى بعض، إذا لم يكن إلى أغلب مبادئ القانون الدولي، وكان يفعل ذلك بذكاء كبير".
ويتابع: "صحيح أن قراراته هذه كانت تساعد الفلسطينيين، ولكن في نهاية المطاف، فإن المحكمة العليا لم تسعف الفلسطينيين في كبرى المصائب في حياتهم، ابتداءً من الاستيطان، وصولاً إلى الاغتيالات والتصفيات".
سياسات التعذيب
من القضايا المهمة الأخرى التي أصدر باراك قراراً فيها، تلك التي تتعلق بسياسة التعذيب التي كان ينتهجها جهاز المخابرات الإسرائيلي "الشاباك" بشكل ممنهج ضد الفلسطينيين لدى التحقيق معهم بعد اعتقالهم في الأراضي الفلسطينية. ويقول دحلة: "نحن نتحدث عن تعذيب لآلاف الفلسطينيين، وقُدّمت التماسات للمحكمة العليا الإسرائيلية ضد هذه السياسة".
ويضيف: "مرة أخرى، تدخّل القاضي باراك، وقال إن سياسة التعذيب هي سياسة غير قانونية بموجب القانون الدولي والقانون الإسرائيلي، ولكنه أيضاً ترك ثغرة مفتوحة، وأكد أن الحالة الوحيدة التي يمكن فيها استعمال هذه السياسة، هي عندما يكون الحديث عما يُسمّى قنبلة موقوتة. يعني إذا كان الحديث عن شخص بالإمكان الحصول منه على معلومات عن قنبلة موقوتة في مكان ما قد تنفجر في أي لحظة، ففي مثل هذه الحالة فإنّ استعمال التعذيب في التحقيق مسموح به. أو إذا كان الحديث عن تحقيق من أجل منع عملية عسكرية ضد أهداف إسرائيلية وشيكة الحصول، ففي مثل هذه الحالة أيضاً، بالإمكان استعمال وسائل التعذيب أو ما يوصف بأنه ضغط جسدي معتدل، ولكنه كان فعلياً تعذيباً للفلسطينيين".
شرعنة المصادرة
قضية أخرى وصلت إلى أهارون باراك تُسمّى قضية جمعية إسكان المعلمين، وهي جمعية إسكان فلسطينية قدمت التماساً ضد مصادرة أراضٍ فلسطينية لشق شارع في الضفة الغربية.
ويقول دحلة حول ذلك إن "الشارع 433 كان من المفترض أن يخدم الإسرائيليين بدرجة كبيرة، ونعرف اليوم أنه يخدمه بدرجة حصرية. واعتبر الالتماس أنه لا يمكن مصادرة أراضٍ من مواطنين لشق شارع يهدف لخدمة مواطني دولة الاحتلال. القاضي أهارون باراك شرعن مرة أخرى هذه المصادرة، وقال إن هذا الشارع سيخدم ليس فقط المواطنين الإسرائيليين، أي مواطني دولة الاحتلال، وإنما أيضاً المواطنين الفلسطينيين. وبالتالي، بحكم أن القائد العسكري له الصلاحية والواجب بأن يحافظ على النظام العام، وأن يدير شؤون البلاد بشكل مؤقت، وأنه هو عملياً صاحب السيادة المؤقتة، طالما أن الاحتلال موجود، وبما أن الاحتلال أصبح طويل الأمد، فإنه لا ضير من مصادرة أراضٍ فلسطينية من أجل شق شوارع يستخدمها الإسرائيليون الفلسطينيون. في نهاية المطاف تحوّل هذا الشارع إلى شارع أبرتهايد، لأنه تمّ لاحقاً منع الفلسطينيين من استعماله، وأغلقت كل مداخل القرى الفلسطينية إليه مرة أخرى بحجج أمنية، وأصبح للإسرائيليين فقط، رغم أن معظم الأراضي التي أقيمت عليه صودرت من فلسطينيين.
التباهي
لم يكن أهارون باراك يردّ كل التماسات الفلسطينيين. ويوضح دحلة لـ"العربي الجديد" أنه "عندما كانت تُثار ادعاءات بأن القضية المنظورة أمامه هي قضية غير قابلة للتقاضي، كان يرد بأن هذا غير صحيح، وأن بإمكان المواطن الفلسطيني أن يتقاضى أمام المحكمة العليا الإسرائيلية، وكان هذا من دواعي التباهي لباراك، وقبله أيضاً من قبل مائير شمغار الذي كان أيضاً رئيساً للمحكمة العليا، وكان مستشاراً قضائياً للحكومة الإسرائيلية".
ويتابع: "كانوا دائماً يفتخرون بأن المحكمة العليا الإسرائيلية هي المحكمة الوحيدة في العالم التي فتحت أبوابها لسكان الأرض المحتلة من أجل تقديم التماسات إليها. ولكن إن صح التعبير، فُتحت الأبواب، ولكن لم تُفتح القلوب. تمكن الفلسطينيون من تقديم الالتماسات، ولكن أهارون باراك وزملاءه في كثير من الأحيان، فتحوا جزءاً بسيطاً من قلوبهم لشكاوى الفلسطينيين، ولكن في الغالبية العظمى، ما فعلوه أنهم كانوا يعطون القانون الدولي الإنساني تفسيراً إسرائيلياً خاصاً، وصبغة إسرائيلية خاصة تختلف عن التوجهات والتفسيرات المقبولة في العالم، وأصبح ما أسميه قانوناً دولياً خاصاً على النسق الإسرائيلي، وهو القانون الذي تطبقه المحكمة العليا في قضايا السكان الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة".
ويرى أن "هذه الطريقة من التعامل قامت بأمرين، أولاً أعطت الضوء الأخضر لمعظم ممارسات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة وضد السكان الفلسطينيين، ومن ناحية أخرى، أوجدت نوعاً من أنواع الضبابية أو الجدار الدخاني، الذي أوهم الكثيرين في العالم بأن المحكمة العليا هي محكمة مستقلة وغير منحازة، وبإمكانها إنصاف الفلسطينيين، وأن بإمكان الفلسطينيين تحصيل العدالة من خلال الجهاز القضائي الإسرائيلي والمحكمة العليا الإسرائيلية، وبهذا فهو أدّى خدمة كبيرة للاحتلال الإسرائيلي وللحكومة الإسرائيلية".
قراءة الصحف الإسرائيلية لتعيين أهارون باراك
أثنى العديد من المعلقين الإسرائيليين على اختيار نتنياهو لباراك، ذلك أنه قد يساهم في إنقاذ إسرائيل، برأيهم، مثلما ساهم في ذلك على مدار نحو عقدين من الزمن. واعتبر الكاتب يوسي فيرتير، في صحيفة "هآرتس" اليوم الاثنين، أن إسرائيل عندما وجدت نفسها في ضائقة قانونية على الساحة الدولية، لم تجد من تعتمد عليه باستثناء شخص واحد. وأوضح أن أهارون باراك "هو أعظم فقيه إسرائيلي (في القانون)، في إسرائيل وفي العالم". وبرأيه، فإن باراك معروف كذلك "بمناصرته حقوق الإنسان، وهو أحد الناجين من المحرقة، وخبير في حقوق الإنسان والقانون الدولي. حتى إن نتنياهو أدرك أنه لا خيار آخر أمامه".
بدورها، اعتبرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن من أسباب اختيار باراك هو "كونه أكثر شخصية قضائية إسرائيلية معروفة في العالم، وكذلك ناجياً من المحرقة، وبالتالي سيكون لرأيه وزن وتأثير على باقي القضاة".
وبرأيها، فإن باراك له إسهامات مهمة "في كل ما يتعلق بالتعامل القانوني مع قضايا الإرهاب، وأن العديد من الأحكام التي أصدرها ساهمت في تطوير القانون الدولي في قضايا الإرهاب والأمن، وكانت لها قيمة كبيرة مضافة لجهاز القضاء الإسرائيلي نفسه".
ولفتت الصحيفة إلى أنه منذ إقامة المحكمة الجنائية الدولية في بداية الألفية الثالثة، استخدمت إسرائيل الأحكام التي أصدرها باراك من أجل دحض الدعاوى المرفوعة ضدها، بمعنى أنه كان بمثابة حبل نجاة بالنسبة لدولة الاحتلال، وممارساتها، وجرائمها بحق الفلسطينيين.
وكثيراً ما اعتمدت دولة الاحتلال على "مبدأ التكامل" في القانون الدولي، والذي يمنح أي دولة لديها جهاز قضائي مستقل إعفاءً من المثول أمام المحاكم الدولية، في حال نظرت محاكمها في القضايا المختلفة. ومن بين الأمثلة على ذلك، أحكام قضائية أصدرها باراك تتعلق بجدار الفصل العنصري بين الضفة ومناطق الخط الأخضر، وهو الذي أنقذ إسرائيل من إجراءات كانت قد بدأت ضدها في أوروبا. كذلك، الأحكام التي أصدرها بشأن عمليات الاغتيال، وحثّه على احترام القانون الدولي في كلّ ما يتعلق بتجنب الأبرياء، رغم أن التجربة أثبتت أن هذا لا يحدث على الأرض.
كما ألهمت أحكامه القضائية، بحسب "يديعوت أحرونوت"، الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، إذ اعتمد المشرّعون الأميركيون عليها "بقضايا مثل احتجاز المخربين، واستهداف الأبرياء، والتوازن بين الحفاظ على أمن الدولة وعلى جهاز القضاء المستقل"، بحسب الصحيفة.
ولفتت الصحيفة إلى أن نتنياهو وباراك سبق أن تحدّثا مرات عدة في الماضي بشأن قلق رئيس الحكومة حيال قضايا ضد إسرائيل وكيفية التعامل معها، كما طلب نتنياهو مساعدة باراك للوساطة في تسوية بشأن القضايا الجنائية ضده في ملفات الفساد. وتوجه باراك قبل نحو عامين إلى المستشار القضائي للحكومة في حينه أفيخاي مندلبليت، وناشده تسريع التوصل إلى تفاهمات حول صفقة بشأن قضايا نتنياهو.