الحرب بين الدعم الأميركي والاستسلام العربي
لا تخشى إسرائيل من الأعداد المتصاعدة لضحايا حربها على غزّة، فقد سبقها (إلى تلك الأعداد في منطقتنا العربية) غيرها في حروبهم في العقد الأخير، العراق وليبيا واليمن، وربما تكون سورية مثالها الواضح، لكنها (إسرائيل) تملك أدلّة كثيرة، أيضاً، على أن أعداد الضحايا في ضمير المجتمع الدولي تبقى مجرّد ذكرى، تعود إليها المنظمّات الإنسانية حين تقرّر التباكي على مآسي الشعوب في عالم لا ينتمي له "الرجل الأبيض"، فالتباكي الحاصل على ضحايا أحد طرفي الصراع دون الآخر مرآة لمعنى جديد للعنصرية القيمية، أو الأخلاقية، فحيثُ لا يُنكر أحدٌ أسفَه على وجود ضحايا مدنيين على أي ضفة من الصراع كانوا، وإلى أي بلدٍ ينتمون، تؤكّد جهاتٌ دولية وإعلامية التزامها بمبدأ مساندة القاتل على حساب الضحية، وتبرير الجريمة، بل وتحميلها مشاعر إنسانية على الضحية أن تتعاطف معها، لا أن تقاوم احتلالها أرضها أو اغتصابها مقوّمات الحياة فيها، أو حصارها ما يزيد عن 17 عاماً.
في عالم يعود إلى تذكيرنا لما قبل ثورات الحرية وشرعة حقوق الإنسان، يصبح قتل ما يقرب من 24 ألف فلسطيني، وتشريد نحو مليوني إنسان من بيوتهم وهدم مدنهم، حيث دمر الاحتلال أكثر من 69 ألف وحدة سكنية بالكامل، و290 ألف وحدة جزئياً، وكلها يعتبرها بعض الساسة الغربيين خسائر عادية، لحملة انتقام إسرائيلية من الفلسطينيين أصحاب الأرض التي احتلتها إسرائيل، بينما يجرّمون مقاومة الشعب الاحتلال، والصمود على أرضه.
وربما يكون أبشع من تبرير بعض الدول هذه الحرب الهمجية على المدنيين في غزّة بأنها "حرب الدفاع عن النفس"، هو تبرير بعض الإعلام الأميركي والأوروبي لها، بل محاولة الإعلام الغربي تصويرها حرباً رادعة للإرهاب، يتبيّن من خلالها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أولهما يقف مع السامية بمناصرة إسرائيل، والآخر ضدّها، ويجب محاكمته، لأنه لم ير في إبادة شعب فلسطين حقّاً مطلقاً لإسرائيل، بل ولم يقم بما عليه من تشجيع إسرائيل والتصفيق لها!
الأميركيون مستمرّون منذ بداية الحرب حتى إعلان نهايتها على موقف داعم لإسرائيل، قاطعين الطريق على أي جهود دبلوماسية
لا يستعجل بعض الأطراف المهيمنة في المجتمع الدولي قرار وقف إطلاق النار في الأراضي الفلسطينية، مستهدين بالموقف الأميركي المنحاز إلى التبرير الإسرائيلي للاستمرار في حربها على غزّة، حيث قال الأسبوع الماضي المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي: "موقفنا لم يتغيّر، وهو أننا لا ندعم وقفاً لإطلاق النار في غزّة في الوقت الحالي، لأنه لن يستفيد منه أحد سوى حماس، وما زلنا ندعم وقفات إنسانية، وليس وقفاً عاماً لإطلاق النار، والرئيس بايدن لم يعط أي اشاراتٍ بعكس ذلك"، أي إنهم مستمرّون منذ بداية الحرب حتى إعلان نهايتها على موقف داعم لإسرائيل، قاطعين الطريق على أي جهود دبلوماسية تخالف رأيهم المشترك مع إسرائيل، وهو موقفٌ لا تختلف معه دولٌ كثيرة في أوروبا، وإعلامها المنحاز إلى إسرائيل.
وعلى الرغم من الآمال التي يتعلق بها بعض الساسة من المواقف المتناقضة في التصريحات الأميركية من استمرار الحرب الإسرائيلية على غزّة، فإن هذا لا يتناقض مع ما قاله وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في إسرائيل إنهم يريدون "إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن"، بل هو يتكامل معه، لأن إنهاء الحرب من منظور إسرائيلي - أميركي تعني تنفيذ أهدافها، فإذا حدث ذلك في أقرب وقت، فالولايات المتحدة مع إنهاء الحرب بعدها، والوزير الذي ينفي وجود إبادة جماعية في غزّة بعد مقتل أكثر من 23 ألف مدني، إضافة إلى أعداد هائلة من المفقودين والجرحى والمشرّدين، في أكبر مجازر تحدُث على مرأى العالم ومسمعه، وتنقل في بثّ حي ومباشر إلى كل أصقاع العالم، على الرغم من محاولات اللوبي الصهيوني الإعلامي التعتيم قدر المستطاع على حقائقها، وطرق تنفيذ الجيش الإسرائيلي عمليات الإبادة والتهجير الجماعي للسكان، يمكنه أن يرى أن إنهاء الحرب بعد شهر، أو أشهر، أو حتى سنوات، وبعد وقوع عشرات الآلاف من الضحايا الجدد، هو ما يعنيه بالقول "أقرب وقت" الذي يراه بلينكن ممكناً.
ليست المرّة الأولى التي يقف فيها المجتمع الدولي عاجزاً عن وقف القتل الجماعي في منطقتنا العربية
ليست المرّة الأولى التي يقف فيها المجتمع الدولي عاجزاً عن وقف القتل الجماعي في منطقتنا العربية، سواء استطاع استنهاض مشاعر قادته، كما حدَث في الصراع السوري، ونتج عن ذلك عشرات القرارات والإدانات والمطالبة بوقف إطلاق النار، والبدء بمفاوضات تسوية، منذ عام 2011، ولم ينفّذ منها شيء على أرض الواقع، وكذلك في اليمن وليبيا والعراق، حيث لا يزال العنف سيّد الموقف، وهو أيضاً المجتمع نفسه الذي رأى في الحرب الروسية على أوكرانيا ما يستدعي الاستنفار لمناهضتها والمطالبة بوقفها، وحقّ الشعب الأوكراني بالدفاع عن أرضه ومنع احتلالها، ولا تزال ألسن نيران الحرب مشتعلة فيها، وتتصاعد، أو أن هذا المجتمع الدولي تجمّدت مشاعره تجاه الشعب الفلسطيني، فوقف متفرّجاً على اغتصاب أرض وإهدار حقوق شعب بأكمله، خلافاً للقرارات الدولية التي تحدّتها إسرائيل المدعومة اليوم من كل فج عميق، والمسكوت عن جرائمها منذ تأسيسها إلى حربها الانتقامية البغيضة من الفلسطينيين.
تأخذ الولايات المتحدة، ومعها بريطانيا، وبعض دول أوروبا، على عاتقها حماية إسرائيل، وتحصين موقعها الجغرافي، من جهة بمساندتها في حربها المستمرّة على الشعب الفلسطيني، لإنهاء فكرة المقاومة من قاموسه الحياتي. ومن جهة ثانية، بشراكتها في الحرب على غزّة، عبر الدرس الدموي الذي تدعمه بمختلف الوسائل المادية والإعلامية، والذي أنتج خلال مائة يوم آلاف الضحايا، منهم أكثر من عشرة آلاف طفل، وسبعة آلاف امرأة، و117 شهيداً صحافياً، ومئات آلاف المصابين والجرحى والمهجّرين، وهدم مدنهم ومرافقهم الحيوية جميعها، ومن جهة ثالثة، بتعويم مصطلح أنها حربُ الدفاع عن النفس، لزرع مشروعيّتها في عقول الشعوب الأوروبية، ومن جهة رابعة، بإحاطتها بعلاقاتٍ بينية مع دول منفتحة على التطبيع الاستسلامي مع إسرائيل، تحت العباءة الأميركية أو بدونها، أو دول منزوعة السيادة بحكم الصراعات المحلية والفوضى "المشبوهة" القائمة فيها، ما يسهُل على إسرائيل لاحقاً تمدّدها، وصناعة خريطة حدوها ودستورها الذي لم يولد، بعد رغم حمل دام نحو 75 عاماً!