من أرسطو إلى برنارد لويس
د. عدي حسن مزعل
لا يمكن للظلام إنهاء الظلام، فالنور فقط يمكنه ذلك. ولا يمكن للكراهية إنهاء الكراهية، فالحب وحده يمكنه ذلك. مارتن لوثر كنغ.
يشكل خطاب الكراهية مصدر خطر على نسيج الشعوب والمجتمعات، وتلعب الثقافة في هذا السياق دوراً مركزياً، فالثقافة التي تقوم على الكراهية والتعصب ليست وليدة اليوم، إنها بنية لها تاريخ طويل، ولا تخلو منها ثقافة كبرى، ولا حتى الثقافات المحلية غير العالمية، أقصد تلك التي لم تكن فاعلة ومؤثرة في الفكر البشري.
ولهذه البنية، بالنسبة للغرب، طابع مميز وامتداد ذو جذور تاريخية. فقد ورثها الغربي وشكلت وعيه الجمعي، وأصبحت بمثابة العدسات التي يرى من خلالها كل ما هو آخر وخارج عنه، بل بمثابة الأسوار التي تقيد فكره وتصوغ مفاهيمه حول الآخر غير الغربي. إن مظاهر هذه البنية التي تقوم على الكراهية والتصنيف وتكرس ثقافة نحن وهم، نجدها لدى أرسطو الذي يصدر عن تصورات عنصرية متحيزة: فغير اليوناني بربري، واليونانيون هم الأقدر على التفكير العقلي دوناً عن باقي البشر، ولدى دانتي وروجر بيكون في العصور الوسطى، وجملة من فلاسفة العصر الحديث، فولتير، مونتسكيو، كانت، فيخته، هيغل، رينان، جون ستيورت مل، وغيرهم كثير، وصولاً إلى هنري كيسنجر وصموئيل هنتنغتون وبرنارد لويس.
وفي هذه الثقافة يبرز على نحو واضح التقسيم الشهير للعالم (غرب ـــــــ شرق)، ومنه تتفرع تقسيمات أخرى تؤسس للكراهية والتمييز والاستعلاء، مثل: (نحن وهم)، (عالم متقدم وعالم نامي)، (عالم متحضر وعالم متخلف)، إلى آخره من التقسيمات التي تحيل كل ما هو غير غربي إلى غريب وهمجي ومتخلف. وذلك ما كشفت عنه الأعمال النقدية المنتمية إلى حقل دراسات ما بعد الكولونيالية.
لقد استقى اليمين المتطرف، الصاعد في الغرب اليوم، أصول فكره من هذه (الثقافة) التي تقوم على تصنيفات ثابتة ومتداولة على نطاق واسع في الفكر الغربي. ومن زاوية نقدية فإن اليمين يلغي كل الإيجابيات التي تنطوي عليها أفكار ومفاهيم، مثل: التعددية، والمستقبل المشترك، والهجنة، ويكرس جل نشاطه من أجل تصفية حسابه مع الرؤى والتصورات التي تؤمن بالتنوع والانفتاح على الآخر. فالذات في الفكر اليميني تبدو دائماً نقية، محقة، لا هجنة فيها. في حين أن الدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة تزعم أن شعوب العالم مهجنة، وإن لا عرق نقيا بالكامل، كما لا ثقافة نقية خالصة بالكامل. وهكذا، فالشعوب والثقافات عبارة عن خليط من أعراق وأفكار متباينة تشكلت عبر التاريخ.
وظاهرة الهجنة على صعيد الفرد الواحد، والتي تغزو العالم منذ زمن وتنتشر في دوله، وخاصة في أوروبا، تقوض مزاعم اليمين وتطيح بتصوراته حول الهوية والثقافة. ويقدم لنا التاريخ نماذج وأمثلة لحضارات ومجتمعات تطورت واغتنت بتنوعها على عكس الحضارات والمجتمعات المنغلقة، حال الحضارة العربية الإسلامية التي بلغت ذروتها زمن العباسيين. ويرجع بعض المؤرخين ذلك إلى انفتاحهم على الأمم الأخرى (أعراق وثقافات)، وقبولهم بالتعدد واحتوائه ضمن أفق تلك الحضارة.
وهكذا، شكل هذا الانفتاح رافداً أغنى الحضارة العربية الإسلامية وعاد عليها بالنفع والفائدة، بل جعلها مركز إشعاع يتعلم منه باقي العالم. إذ تحولت بغداد آنذاك إلى عاصمة عالمية، كما اليوم باريس ولندن وواشنطن عواصم عالمية. ولم تعرف هذه الحضارة التدهور والانحطاط إلا حين بدأ الخطاب المتطرف يسود وينتشر على حساب الخطابات العقلانية المتسامحة.
ومن هذه الزاوية يبدو اليمين المتطرف مشكل داخل الغرب ذاته، كما هو مشكل في غير الغرب أيضاً. وإذا ما كتب لهذا اللون من الأفكار التي تؤمن بها أحزاب وقوى أن تنتصر، فإن أول المتضررين هو الغرب ذاته، وما النازية والفاشية حديثا العهد إلا مثال حي على نتائج هذا الفكر وآثاره الكارثية.
وحرب الإبادة الجارية في غزة اليوم تجسيد حي معاصر لفكر اليمين المتطرف، حيث حكومة نتنياهو، وهي أكثر الحكومات اليمينية تطرفاً في تاريخ الكيان الصهيوني، تمارس أعتى أشكال الوحشية والهمجية التي اعتقدت البشرية أنها تجاوزتها بعد عقود من شعارات التقدم والحرية والعدالة، تلك الوحشية التي أجبرت دول ومؤسسات وصحف وفضائيات، معروفة بميولها الصهيونية، على المطالبة بوقف المجازر والإبادة الجماعية. علماً أن هذه الإبادة التي تتغذى من ثقافة نحن وهم، والمتحضر والهمجي، ومحور الحرية ومحور الشر والاستبداد، هي امتداد لمسلسل الإبادات النازية والدول الاستعمارية في آسيا وأفريقيا زمن الهيمنة الإمبريالية الغربية.
ختاماً، ينبغي ألا ننسى أن سياسات اليمين المتطرف لا تلغي الوجه الآخر للمجتمعات الغربية، وذلك على صعيد قدرة هذه المجتمعات في تكريس نمط للعيش يقبل بالتعدد والتنوع الديني والمذهبي والقومي. وهو أمر نجح الغرب إلى حد كبير في غرسه داخل مجتمعاته، وفي تقديم نموذج جاذب ومغر لبقية العالم على صعيد العيش المشترك، إضافة إلى ضمان حقوق جميع أفراد المجتمع بمعزل عن خلفياتهم الدينية والقومية.
ولا شك أن هذه السياسة هي أحد مصادر قوة المجتمعات الغربية وليس ضعفها، كما يعتقد المتعصبون في عالمنا العربي من قوميين وإسلاميين، وذلك حين يرون في التعدد وكأنه أثم وذنب وخروج على العقيدة الصحيحة، لا كونه واقعاً لا يخلو منه مجتمع ما، الأمر الذي يتطلب التعامل مع هذه الحقيقة بعقلية حديثة مرنة، عقلية تحترم متطلبات العصر، تلك التي من لا يحسن استخدام أدواتها فإن مصيره التأخر والانحطاط لا محالة.