كأنه صراع الاحتلال مع الصحافيين في غزّة
العمل الصحافي عموما والميداني خصوصا من أنبل المهامّ وأخطرها في زمن الحرب. فالصحافي المهني يبذل الجهد في تجميع المعلومات ونخلها، والتحقّق من مصادرها، ويكابد من أجل الوصول إلى الحقيقة وتبليغها إلى الجمهور المتلقّي. فتراه يغامر بارتياد ساحات المعارك، ونقل قصص الشهود والضحايا من الجرحى والمرضى والثكالى والمشردين الذين أدمتهم الحرب. وتراه يُراوغ الموت في كلّ لحظة وهو بصدد نقل أطوار القتال على الجبهات. وتجده في حركية دائبة ونشاط دائم من أجل الإحاطة بجغرافيا الحدث وبيئته، وتفاصيله والفاعلين فيه. ويسلك دروبا شائكة ليتقصّى القصص الخبرية، ولينقل معاناة الناس إلى العالم بشكل حيّ ومباشر. وقد يتحدّى أحيانا القيود والحدود التي تفرضها الجهات المتنازعة ليبلغ كبد الحقيقة. وقد يكلّفه ذلك حياته.
والمتابع مشهد الحرب الدامية التي تشنّها قوّات الاحتلال الإسرائيلي على غزّة، يتبيّن أنّ الصحافيين الفلسطينيين عموما، والمراسلين الميدانيين خصوصا، قد بذلوا جهودا جبّارة في تغطية مستجدّات الحرب الشعواء على أهل القطاع، ونقلوا بصدقية كبيرة وبحرفية عالية ما تعرّض له المدنيون من انتهاكات إسرائيلية، وكشفوا عدوانية جيش الاحتلال، وتفاصيل إجهازه على الحجر والبشر في غزّة. وقد جعلهم ذلك محلّ استهدافٍ من جيش الاحتلال. ولذلك تجلّيات عدّة.
يحمل الصحافيون في فلسطين أرواحهم على أكفّهم وهم يقومون بالتغطية الميدانية للأحداث الدامية في غزّة. ولا تفيدهم خوذاتهم وستْراتهم الواقية من الرصاص شيئا. فقوّات الاحتلال لا ترى حرجا في استهدافهم وإلحاق الضرر بهم. ولا تُبدي استعدادا لحمايتهم أو توفير مأوى آمن لهم. فكلّ مكان أصبح غير آمن في ظلّ الحرب الضروس المشهودة في القطاع. وفي هذا السياق، وصفت وكالة رويترز الوضع على الأرض بأنه مروّع. "وعدم رغبة الجيش الإسرائيلي في تقديم ضمانات بشأن سلامة موظفينا يهدد قدرتهم على نقل الأخبار عن هذا الصراع من دون خوف من التعرّض للإصابة أو القتل". وقال منسّق برنامج لجنة حماية الصحافيين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شريف منصور إن "حرب إسرائيل وغزّة هي أخطر وضع نشهده بالنسبة للصحافيين، وتظهر الأرقام ذلك بوضوح. فقد قتل الجيش الإسرائيلي خلال عشرة أسابيع عددا من الصحافيين أكثر من أي عدد قتله جيش آخر أو كيان في عام واحد"، وأخبر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أخيرا بارتفاع عدد الصحافيين القتلى إلى 104، معظمهم من الفلسطينيين منذ بدء الحرب الإسرائيلية على القطاع في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، فيما تمّ اعتقال عشرات الصحافيين وجرْح آخرين. ولم يقف جيش الاحتلال عند الاعتداء على الصحافيين في الميدان، بل تجاوز ذلك إلى قصف عدد من عائلاتهم وتدمير ممتلكاتهم وهدم البيوت فوق رؤوسهم. فتحوّلت حياتُهم وحياة أُسرهم إلى كابوس حقيقي. فهم يهربون من النار إلى النار، ويطلبون الأمان في كلّ مكان، فلا يجدوه. ويبدو المراد من الإمعان في تعقّب الصحافيين وقتلهم ترويعهم وبثّ الخوف في نفوسهم بغاية إسكات أصواتهم وتعطيل عدساتهم ومنعهم من توثيق الانتهاكات الإسرائيلية ونقل وقائع الحرب الدامية إلى العالم. ويُمكن القول إنّ الصراع بين الصحافي والمحتلّ يحمل طيّه صراعا على سردية الحرب وخلفياتها، وعلى مستجدّات الميْدان، ورهان الحقيقة.
المراد من الإمعان في تعقّب الصحافيين وقتلهم ترويعهم وبثّ الخوف في نفوسهم، إسكات أصواتهم وتعطيل عدساتهم ومنعهم من توثيق الانتهاكات الإسرائيلية
في مستوى الصراع على سردية الحرب بيْن الطرفين، حرص الإعلام الغربي عموماً، والإسرائيلي خصوصا، على اختزال السبب الأساسي لاندلاع الحرب في مبادرة الفصائل الفلسطينية بقيادة كتائب عز الدين القسام بشنّ عملية "طوفان الأقصى" على مستوطنات وثكنات إسرائيلية محاذية لقطاع غزّة. وهو ما أدّى إلى إلحاق خسائر فادحة بجيش الاحتلال في العدد والعُدّة. ومع أنّ الحدث كان نوعيا، وغير مسبوق، فقد سعى الصحافي الفلسطيني إلى تنزيله ضمن سياقه، وتنبيه العالم إلى أن ما حدث يوم 7 أكتوبر لم يكن فعلا اعتباطيا، ولم يأت من فراغ، بل كان نتيجة عقود من الانتهاكات الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين، وفي مقدّمتها تجريف أراضيهم وحقولهم وافتكاك منازلهم بقوّة السلاح، واستهداف مقدّساتهم، وقتلهم على الهوية، وفرْض حصار مطبق على سكّان القطاع، برّا وبحرا وجوّا، وشنّ حروب ضارية متتالية على المدنيين الفلسطينيين، وهدم بيوتهم وتدمير مدارسهم ومشافيهم ومحلاتهم ومراكز عملهم على نحو زاد من معاناتهم، وراكم الغضب الجمعي من سياسات دولة الاحتلال. وعمليا أدّى القمع إلى الانفجار، وتجسّد ذلك في اندلاع عملية طوفان الأقصى. وعلى صعيد متّصل، جدّت وسائل إعلام إسرائيلية في ترويج سردية دَعْشنَة حركة حماس (تشبيهها بداعش)، وتشويه الفصائل الفلسطينية من خلال الادعاء بأنّها حرقت الأطفال، واغتصبت النساء، وأساءت معاملة الأسْرى. وأثبت الجهد الصحافي الفلسطيني تهافت تلك السردية، مُخبرا أنّها لا تستند إلى أدلّة دقيقة، وأنّها تندرج ضمن حملات البروباغندا الإسرائيلية التوّاقة إلى شيطنة حركات المقاومة الفلسطينية. ونقل الإعلام العسكري التابع لحركة حماس وصحافيون فلسطينيون مشاهد من المعاملة الحسنة التي لقيها أسرى إسرائيليون من جانب عناصر الفصائل الفلسطينية. كما أنّ الترويج الإسرائيلي سردية تراجع شعبية "حماس" في القطاع والضفة الغربية أثبتت استطلاعات الرأي من الداخل الفلسطيني تهافته، ودلّت المشاهد المنقولة من غزة على تعاظم مشاعر الغضب والكراهية تجاه إسرائيل، وميْل طيْف معتبر من الفلسطينيين إلى تأييد مشروع المقاومة المسلّحة للاحتلال. وبدا واضحا وجود حاضنة شعبية واسعة لفصائل المقاومة الفلسطينية حتّى أنّ جيش الاحتلال يجد صعوبات جمّة في تفكيك الحزام الشعبي المحيط بها والوصول إلى قادتها.
واحتدم الصراع بين جيش الاحتلال والصحافي الفلسطيني على امتلاك ميدان المعارك والدراية بتفاصيله. فالقوّات الإسرائيلية حريصة على استهداف كلّ مكان حيّ في غزّة والسيطرة عليه ومنع الصحافيين من الوصول إليه عبر قصفه في مقام أوّل ودكّ ساكنيه بشتّى أنواع القذائف والصواريخ المتفجّرة، ومحاصرته في مقام ثان بالدبابات وتغطيته بالقنابل الدخانية للحؤول دون وصول المراسلين الميدانيين إليه حتّى لا يكتشفوا هول الدمار الذي ألحقه الجيش الإسرائيلي بالحجر والبشر في الأماكن المستهدفة بالقصف. وقد نجح الصحافيون الفلسطينيون في كسب معركة الميدان. فغامروا بحياتهم وتحدّوا التهديدات والعراقيل الإسرائيلية وبثّوا على الهواء مباشرة آثار آلة الترويع الإسرائيلية في المناطق التي طاولها القصف العشوائي، وتحلّوا بدرجة عالية من الشجاعة والمهنية في تصوير ما حدث. ونقلوا أصوات الضحايا بين الأنقاض، وأنين الجرْحى، وصرخات الثكالى، وإدانة الأهالي لعجز العرب والعالم عن نجدتهم وفرض وقف مستدام لإطلاق النار. وبيّنوا أنّ قنابل المحتلّ الغبيّة لا تستثني أحدا، وأنّ جنوده لا يميّزون بين مدني ومسلّح، ويرومون تحويل القطاع إلى أرض محروقة، تستحيل فيها الحياة. وأنّ حديث جيش الاحتلال عن مناطق آمنة في غزّة كذبة كبرى. فهو يستهدف القطاع من أقصاه إلى أقصاه، ويقصف المشافي، والمدارس، والمساجد، والكنائس، والمقاهي والأسواق، ولا يجد حرجا في قتْل الآلاف من المدنيين، معظمهم من النساء والشيوخ والأطفال. فقط ليستعيد قوّة ردعه المفقودة. ونجح الصحافيون الميدانيون بذلك في توثيق الحرب الإسرائيلية الشعواء على الغزّيين، وفي بيان عدم أخلاقية الجيش المحتل، وإدمانه قتل المدنيين في إخلال واضح بقواعد الاشتباك وبمحامل القانون الإنساني الدولي.
احتدم الصراع بين جيش الاحتلال والصحافي الفلسطيني على امتلاك ميدان المعارك والدراية بتفاصيله
ومعلوم أنّ الحقيقة هي أولى ضحايا الحرب. لذلك جدّ جيش الاحتلال في التعتيم عليها. وبذلت آلته الإعلامية الجهد في تضليل الرأي العام الدولي، وقلب الحقائق وطمس واقع ما يحدث على الأرض. لكنّ الصحافيين الميدانيين في غزّة أبدوا بسالة على غير مثال في كشف الحقيقة وإشهاد العالم على الممارسات التعسّفية للمحتلّ. ففضحوا انتهاكاته الجسيمة لحقوق الإنسان الفلسطيني، وبيّنوا بطريقة واقعية موضوعية تهافت الروايات الدعائية الإسرائيلية بشأن الحرب على غزّة. وقد اضطلع الصحافي الفلسطيني ههنا بثلاث وظائف بارزة. الأولى، إخبارية/ إبلاغية. فقد أخبر العالم بتفاصيل العدوان الإسرائيلي الغاشم على سكّان غزّة وأبلغ أصواتهم إلى العالم. والثانية، توثيقية، فالجهد الصحافي الميداني جلّى الانتهاكات الإسرائيلية وحجم الدمار الذي لحق بالقطاع. والثالثة، وظيفة تأثيرية، فرسالة الصحافي تُحدث أثرا عظيما في نفوس الجمهور عموما، وأصحاب القرار خصوصا.
ختاما، الصحافي الميداني هو صوت الحقيقة في أرض الحرب التي يعزّ فيها الوصول إلى الحقيقة. وقد نصّ قرار مجلس الأمن رقم 2222 الصادر منذ العام 2015 على "اعتبار الصحافيين والإعلاميين والأفراد المرتبطين بهم الذين يغطّون حالات النزاع مدنيين، وأن المعدّات والمكاتب والاستديوهات الإعلامية أصول مدنية وليست أصولاً أو ممتلكات عسكرية، ومن ثم يجب ألا تكون هدفاً لهجمات أو أعمال انتقامية". لذلك أحرى بالمجتمع الدولي توفير أسباب حماية الصحافيين، وعدم تعريضهم للخطر، والإحاطة بهم نفسيا، ومادّياً، وتشكيل لجان للتقصّي في مقتلهم أو إلحاق الضرر بهم، وتأمين عدم إفلات الجناة من العقاب حتّى يأمن الصحافي على نفسه، ويستمرّ في أداء واجبه ونقل قصص المظلومين والمعذّبين في الأرض بحرّية وأمان زمن الحرب والسلم على السواء.