اتّحادٌ عربي.. هل يُمكنُ أن يتحقّق؟
باقر صاحب
يمكن القول أنَّ زراعة الكيان الصهيوني الغاصب في قلب العالم العربي، حقيقةٌ تاريخيةٌ، لها أسبابها الاستراتيجية، تتمثّل في إحداث التفرقة الأبديّة بين العرب، لأنّ اتّحادهم يمثّل خطراً كبيراً على العالم الغربي الذي لن تفارق دوله الكبرى نزعتها الاستعماريّة والاستحواذيّة، في جعل الدول العربيّة، مناطق نفوذٍ تفيدُ منها في حماية أمنها القومي والاقتصادي، لما تتمتّع به دول المشرق والمغرب العربيّين من خيراتٍ هائلةٍ وموقعٍ متميّزٍ عالميّاً، إذ تمرُّ عبرَها أهمُّ خطوط الملاحة البحريّة الدوليّة.
سقتُ هذه المقدّمة للتأكيد على ضرورة معرفة العرب، جيلاً بعد جيل، جذور إنشاء الكيان الصهيوني، قبل ما يقارب القرنين، إذ إنّ رجل المال اليهودي البريطاني اللورد روتشيلد، وجّه خطاباً إلى وزير خارجيّة بريطانيا السير بالمرستون في عام 1840، كتب فيه «إنّنا لو نظرنا إلى خريطة هذه البقعة من الأرض فسوف نجد أنّ فلسطين هي الجسر الذي يوصل بين مصر وبين العرب في آسيا.. والحلُّ الوحيد هو زرع قوةٍ مختلفةٍ على هذا الجسر في هذه البوابة، لتكون بمنزلة حاجزٍ يمنع الخطر العربي ويَحولُ دونه»، بحسب ما نشرته «الجزيرة نت» في مقالةٍ بتوقيع الكاتب محمد شعبان أيوب بتاريخ 17- 12- 2023، ومن ثُمَّ تكلّل، تغلغل النفوذ اليهودي، وبخاصة نفوذ عائلة روتشيلد، في السياسة البريطانيّة، بالوعد الذي قطعه وزير خارجية بريطانيا بلفور في 2 تشرين الثاني عام 1917، في إقامة وطنٍ قوميٍّ لليهود على أرض فلسطين، الذي سُمِّيَ» وعد بلفور». وتذكر المصادر التاريخيّة أنَّ بريطانيا احتلّت فلسطين أواخر عام 1917، واستمرّ ذلك الاحتلال لغاية 1948، حيث تمّ الإعلان الرسمي عن تأسيس دولة الكيان الصهيوني في 14 آيار 1948.
استدلالٌ بسيطٌ على كُنهِ خطاب روتشيلد آنذاك، يدلُّ على أنَّ هناك استشعاراً غربيّاً قديماً من الخطر العربي، فيما لو كان العرب متّحدين.
والآن لو استبصرنا العنجهيّة الصهيونيّة في الإصرار على عدم وقف إطلاق النار في غزّة واستمرار مجازر الإبادة الجماعية للفلسطينيين، لتبيّنت لنا ميوعة القرار العربي في اتخاذ موقفٍ حاسمٍ إزاء ما يجري في غزّة، إلى الحدّ الذي تمتنع دولٌ عربيّةٌ لغاية الآن من تبيان موقفها الواضح إزاء العدوان الهمجي على غزّة، وتعجزُ الكلمات عن وصف المآسي الهائلة لأشقّائنا العرب في الضفّة الغربيّة وقطّاع غزّة.
والسؤال هنا: هل يجرؤ هذا الكيان الغاصب على ارتكاب جرائم الإبادة، لو كان هناك اتّحادٌ عربي، نظيرٌ للاتحاد الأوروبي، اتّحادٌ سياسيٌّ أمنيٌّ اقتصاديٌّ ثقافي، بإمكان الدول المنضوية فيه، بالإفادة طبعاً من تجربة الاتّحاد الأوروبي، أن تحرص على المسؤوليّة التضامنيّة في المجالات كافة، وفق اتفاقيَّةٍ رسميّةٍ موقَّعةٍ فيما بينها. وحين نعود إلى الاتّحاد الأوروبي، نجد أنَّ عمر تأسيسه لا يتجاوز 33 عاماً، إذ يُعرّف بأنّهُ « جمعيةٌ دوليّةٌ للدول الأوروبيّة يضمُّ 27 دولةً وآخرها كانت كرواتيا التي انضمّت في 1 يوليو 2013، تأسس بناءً على اتفاقيّةٍ معروفةٍ باسم معاهدة ماستريخت المُوقّعة عام 1991».
ونتساءل هل الفكرة صعبة التحقيق، لاسيّما مع وجود هياكلَ تنظيميّةٍ جامعة، مثل الجامعة العربيّة ومجلس التعاون الخليجي، فضلاّ عن الانعقاد الدوري للقمَّة العربيّة. بقي أن تتوفّر الإرادات السياسيّة للدول العربيّة في هذا الاتّجاه. الاتّحاد الأوروبي لم يُلغ الإطار الوطني لكلّ دولةٍ تحت رايته، ولم يشترطْ توحيد الانظمة السياسية فيها، بل أنّ الاختلافات فيما بينها أكثر مما هي في الدول العربيّة، التي يجمعها الدين الواحد لغالبيتهم وليس جميعهم، فضلاً عن اللغة الواحدة، والانتماء العربي.
صدى خطاب روتشيلد في القرن التاسع عشر بضرورة زرع كيانٍ مسخٍ في قلب العالم العربي، مازال يتردّد في القرن الحادي والعشرين على لسان الرئيس الأميركي بايدن حين يصرّح: « لو لم تكنْ هناك إسرائيل في الوجود لعملنا على إقامتها». أفلا يتّعظ العرب ويتّحدون كما اتّحد الغرب، ويتصرّفون مع الكيان الصهيوني، كما فعل الغرب مع روسيا، وبإمكانهم أن يذهبوا، من موقع المسؤولية الرّسميّة، إلى انتقاد الازدواجية الأميركيّة والغربية وبشدةّ، في التعامل مع روسيا بوصفها عدوّاً مهدِّداً للسلام العالمي، ومع الكيان الغاصب حين يصفون حربه الوحشيّة ضدّ غزّة بأنّها دفاعٌ عن النفس.