مستقبل الدولة الريعيَّة في العراق
د. صادق كاظم
بعد سقوط النظام الملكي في العام 1958 تبنى الحكام السياسيون نهجا اشتراكيا، يقوم عل مفهوم الدولة الريعية واحتكار الدولة للموارد وتوزيعها بين الشعب وفق مفهوم ابوي، ولسبب أيديولوجي، عملت تلك الانظمة وبقوة على منع ظهور طبقة برجوازية من كبار رجال الاعمال تكون منافسة لاي نظام سياسي حاكم في البلاد وهو ما يفسر عدم تطور المؤسسات الاقتصادية في البلاد ووقوعها في قبضة المؤسسات الحاكمة، فضلا عن احتكار سياسي لها أعاق نموها وتطورها، حيث تبنت تلك الحكومات المتعاقبة نظاما ريعيا شموليا يقوم على أسس الامن والقوة والاقتصاد المسيطر عليه مع احتكار الحكومة لدور التاجر والموزع للاموال والغذاء والوظائف والرعاية الصحية لابناء الشعب مقابل الولاء والطاعة.
العقلية السياسية في العراق وللاسف لم تعمل أو تجتهد على التخلص من عقدة البترول تدريجيا، وتعمل على تطوير النظام الاقتصادي وعدم الركون إلى النفط وحده كسلعة انتاجية مدرة للأموال للعراق، والتي من دونها تصبح البلاد مجرد دولة فقيرة ومعدمة ومفلسة، مثلما فعلت الامارات وقطر التي عمل الحكام فيها، رغم كونهما اصغر مساحة وسكانا من العراق على توظيف الموارد البشرية لديها بالاستفادة من الخبرات الوافدة على تحويل بلدانهما إلى مراكز تجارية حرة، تحاكي نموذج هونغ كونغ الصينية، حيث تسمح لرؤوس الأموال بالتدفق إلى البلاد، مع ضمانات مالية وتشريعات تسمح لتلك الاموال بالاستثمار الاقتصادي بمختلف فروعه واشكاله بالاستفادة من الموقع الجغرافي المميز لهما في منطقة الخليج، وهو ما سمح لهما بالانطلاق بدءا من تسعينيات القرن الماضي، حتى جعلت منها اليوم مراكز قوة اقتصادية عالمية تحصل من خلالها على ميزانيات ضخمة تضاهي عوائد البترول والتي باتت تودع في حسابات مالية احتياطية، فيما يتم الاعتماد على العوائد المالية التجارية الاخرى في تمويل موازنات تلك الدول بدلا من البترول.
أشّرت الأزمات المالية السابقة التي عصفت بالبلاد، التي نجمت عن انخفاض وتدهور أسعار البترول، والتي أكدت بأن البترول سيبقى سلعة قلقة عرضة للانخفاض في أية لحظة مما يعد امرا خطيرا ومهددا للوضع الاقتصادي للدولة، خصوصا أنها قد أهملت لاسباب عديدة قطاعات الصناعة والزراعة ولم تعمل على تطويرها، حيث تبنت سياسة إغراق السوق بالمنتجات الرخيصة المستوردة، مقابل اهمال دعم القطاعين المهمين الاستراتيجيين وعدم النهوض بهما من خلال توظيف جزء من العائد البترولي لهما، والذي كان سيكون كافيا لانعاش هذه القطاعات المهمة اقتصاديا كمنافس للبترول في جلب العوائد.
يظل غياب الاستقرار الامني والسياسي من أبرز العوائق التي حالت دون ان تتطور البلاد وتتراجع بشكل مخيف، اضف إلى ذلك فان النخب السياسية، التي تولت ادارة البلد بعد عام 2003 انشغلت بدورها في هذه الصراعات والخلافات واعادت انتاج تجربة الانظمة السابقة في تبني النهج الريعي، من خلال التوسع في استثمار الحقول النفطية المكتشفة وغير المكتشفة ضمن ما يعرف بجولة التراخيص من اجل رفع منسوب الانتاج وبالتالي الحصول على مزيد من العوائد المالية، اضافة إلى إطلاق باب التوظيف على مصراعيه مما جعل عدد موظفي القطاع الحكومي يرتفع حاليا إلى قرابة الخمسة ملايين موظف، وهو معدل مرتفع قياسا إلى عدد السكان في العراق.
كما أن التوسع الهائل في فتح الجامعات من دون تخطيط مدروس أو حاجة السوق الفعلية إلى تلك الاختصاصات ادى إلى ضغط سياسي وشعبي على الحكومة من أجل الحصول على وظائف مع تزايد اعداد العاطلين عن الاعمال من اصحاب الشهادات الجامعية.
إن استمرار السياسة الريعية للدولة من خلال غياب دور المجتمع في انتاج الثروة الاقتصادية والاعتماد فقط على الخزين النفطي المنتج وغير المنتج، انما يؤشر خللا فادحا ورؤية قاصرة للمستقبل، إذ إن هذه السياسة بحاجة إلى مراجعة شاملة تقوم على تنويع مداخيل الاقتصاد وقوننة القطاع الحكومي، فضلا عن التوسع في الاستثمار في قطاعي الصناعة والزراعة والطاقة، سواء كان حكوميا أو خارجيا مع العمل على عرقنة الوظائف فيها، فضلا عن التوسع في انتاج الغاز الطبيعي من اجل الاستخدام الداخلي والتصدير إلى الاسواق الاوروبية بمعونة قطرية وتركية.
ان العراق مقبل على شراكات ومشاريع اقتصادية عالمية والدخول فيها يحتاج إلى تغيير الصورة النمطية للاقتصاد واعادة تطويره وتاهيله، وعدم الابقاء عليه كما هو عليه الان عاجزا وخاملا ينتظر الخروج من غرفة الانعاش الحكومية.