بداية الاستغراب
علي المرهج
بدأ الانفتاح على الغرب منذ البعثات التي أرسلها محمد علي باشا لفرنسا لغرض الإطلاع على علومه ومعرفة أسباب التقدم، فكان الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي المرشد الديني لإحدى البعثات، ولكنه تعلم معهم اللغة الفرنسية وإطلع على علوم الغرب وبين أسباب تقدمه في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» الذي شرح في رحلته وبين فيه أهم أسباب نهضة الغرب وتقدمه، فكان المؤسس الحقيقي لـ «علم الاستغراب»، الذي فصل في حسن حنفي واجترحه علما مقابلا للاستشراق.
يرى الطهطاوي أن قوة الغرب تكمن في «براعتهم وتدبيرهم ومعرفتهم في الحرابات وتنوعهم واختراعاتهم» ومن هذه الأسباب بناء دولتهم على أساس العلوم، وهو على أنواع كما يؤكد عندهم، ففضلا عن الحساب والهندسة والجغرافية والتاريخ والرسم، هناك علم تدبير الأمور الملكية وعلم تدبير العسكرية وعلم القبطانية والأمور البحرية وعلم فن المشي في مصالح الدول الدبلوماسية، وفن الحياة وصناعة القناطر والجسور والميكانيقا( الميكانيكا) وهندسة العساكر وفن الرمي بالمدافع وتركيبها وفن السبك والمعادن لصناعة المدافع والأسلحة، وعلم الكيمياء وفن الطب وفروعه وعلم تاريخ الطبيعيات وفروعه وصناعة النقاشة وفروعها، وفن الترجمة. ـ من الأسباب المهمة في تقدم الغرب اهتمامهم بالفلسفة أو ما أسماه «العلوم الحكمية، فكان من أوائل دُعاة النزعة التوفيقية والذين أكدوا ضرورة الانفتاح على الغرب ومعرفة علومه وفلسفاته، فيقول عن الغرب «لا ينكر منصف إن بلاد الإفرنج الآن في غاية البراعة في العلوم الحكمية وأعلاها في البحر...وإذا رأيت كيفية سياستها علمت كمال راحة الغرباء فيها ومراعاة خاطرهم ولو لختلف الدين... وبالجملة في بلاد الفرنسيين يُباح التعبد بسائر الأديان فلا يُعارض مسلم في بناء مسجد ولا يهودي في بناء البيعة» أي الكنيس.
ـ اهتمام الغرب بالعمران وجمال الحدائق، فيذكر لنا أن هذه البلاد جميلة وأبنيتها محكمة ومُتقنة ومُمتلئة بالرياض، وحينما وصلنا مرسيليا وبعد دخول الكرنتينه أحضروا لنا الكراسي، التي لم نعتد (نحن) الشرقيين الجلوس عليها، ومدوا الطبليات ووزعوا الملاعق والشوكات لكل ملعقة وشوكة، ولا يجوز عندهم أن يأكل الإنسان بيده أصلا ولا بشوكة غيره أو سكينته أو يشرب من قدحه أبدا... ـ تقديرهم لوقت العمل والإجادة فيه ووقت الترفيه وافادة منه، لأن من طباعهم الذهاب إلى المقاهي والمقاهي عندهم ليست مجمعاً للحرافيش، بل هي مجمع لأرباب الحشمة، وهي مزينة بالأمور العظيمة النفيسة التي لا تليق إلَا بالغنى التام وأثمان ما فيها غالية جداً».
ـ تخلصهم من التقليد والتبعية وطغيان النزعة البرهانية على النزعة الوجدانية، فهم «يتميزون بذكاء العقل ودقة الفهم وغوص ذهنهم في العويصات ... وليسوا أُسراء التقليد أصلاً، بل يُحبون دائماً معرفة أصل الشيء والاستدلال عليه حتى إن عامتهم يعرفون القراءة والكتابة...».
ـ حب المعرفة ومحبة الوطن، فمن طباعهم التطلع والتولع بسائر الأشياء الجديدة وحب التغيير والتبديل في سائر الأمور، وهم محبون لأوطانهم وقد يلقون بأنفسهم في المهالك لمصلحة تعود على أوطانهم.
ـ أهمية الدستور والفصل بين السلطات الثلاث: القضائية والتنفيذية والتشريعية، وبتعبيره تسير «هذه السياسة وفق قانون مفيد بحيث إن الحاكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين، التي حددتها (الشرطة) (الدستور) والقائمة على أسس العدل والإنصاف وقد انقادت الحكام والرعايا إلى (الدستور)».
وبعد أن يستعرض الطهطاوي الدستور الفرنسي نجده يقف عند المادة الأولى التي «تقول سائر الفرنسيس متساوون قدام الشريعة» ويعلق على ذلك قائلا « معناه سائر من يوجد في بلاد فرنسا من رفيع ووضيع لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون، حتى أن الدعوة الشرعية تقام على الملك وينفذ عليه الحكم كغيره فانظر إلى هذه المادة فإن لها تسلطا عظيما في إقامة العدل وإسعاف المظلوم وإرضاء خاطر الفقير بأنه العظيم، نظراً إلى إجراء الأحكام، ولقد كانت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية وهي من الأدلة الواضحة إلى وصول العدل عندهم إلى درجة عالية وتقدمهم في الآداب الحاضرة وما يُسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يُطَلق عليه عندنا العدل والإنصاف، وذلك لأن معنى الحُكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين بحيث لا يجور الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المُحكَمة والمُغيَرة، فهذه البلاد بلاد حرية.
ـ أهمية الحرية الدينية وحرية الرأي في تقدم الغرب، «وقد ضمنت الشريعة لكل إنسان التمتع بحريته الشخصية. ومن الأشياء التي تترب على الحرية عند الفرنساوية إن كل إنسان يتبع دينه، الذي يختاره يكون تحت حماية الدولة ويعاقب كل من تعرض لعابد في عبادته».