بانتظار الله
أحمد عبد الحسين
مقولةُ نيتشه: “الانتظار يفسدُ أخلاقَ المرء” أعمقُ مما تبدو عليه، فهي ناظرة إلى الإرجاء الأبديّ للخلاص سواء أكان هذا الخلاص تحققاً للـ”حقيقة” التي هي في أفق انتظار دائم، أو تحققاً للحقّ المعبَّر عنه في المدوّنات الدينية بالرؤى القيامية، وفي حكمها القيامات الصغرى كظهور المُسحاء أو المهديين، والكبرى كيوم الحساب والدينونة.
الانتظار ممضّ ومضنٍ وهو لا يفسد الأخلاقَ وحدها بل يفسد القلوب والعقول. في الآية القرآنية “فطال عليهم الأمد فقستْ قلوبهم” تبيانُ أنّ الإنسان المتروك لانتظار الخلاص انتظاراً طويل الأمد سيكون عرضة للكفر بخلاصه ذاته. ولذا فإن المخلِّص يموت قبل الأوان، نحن نقتله تحت وطأة ألم انتظارنا الذي لا يُحتمَل. لأنّ مَرّ الايام والليالي من دونه مشعرٌ لنا بأنه إن أتى فسيأتي بعد الأوان، أيْ بعد أن نكون قد اندثرنا، وخلاصٌ من دوننا هو أقلّ من أن يُسمى خلاصاً. نحن نقتل المخلِّص قبل الأوان لئلا يأتي بعدنا!
نيتشه قتل إلهه لهذا السبب. مقولته “مات الله ونحن مَنْ قتلناه” هذا هو مغزاها الأوفى. انتظاره لله “انتظاره للحق والحقيقة” مؤلماً كان وبلا أمل، وكان قتله لله نوعاً من الخلاص الأصغر الذي يشفي من مرض انتظار الخلاص الأكبر.
في الأمر نزوع انتحاريّ. المنتحرون شديدو الإيمان “الانتحاريون ـ الاستشهاديون” لا يفعلون سوى هذا: إنهم يستعجلون القيامة التي تأخرتْ عليهم طويلاً. ولم يعودوا يطيقون مسكن الانتظار الذي هم فيه يقضون وقتهم سدى، فلا مخلّص يكلمهم ولا خلاص يبعث لهم ما يخفف عنهم ثقل انتظارهم الممضّ. إذا لم تأت القيامة فسنذهب لها نحن. في الأمرين كسر للانتظار، مرة بقتل الإله وأخرى بقتل النفس.
المدوّنات الإسلامية أشارتْ في مواضع عدّة إلى أن الانتظار عبادة، بل هو خير العبادات: “انتظار الفرج أفضل العبادة” “أفضل عبادة أمتي الانتظار”، وهو لم يصبح كذلك إلا لأنه شاقّ، إنه مختبر للقلوب والعقول، منزلٌ يخرج منه الناس على اصناف شتى: قساةَ القلوب “كما يقول القرآن” فاسدي الأخلاق بتعبير نيتشه، منتحرين مستعجلي القيامة، أو متعبدين مسلّمين.
كتب بورخس عن طفولته هذه الحكاية الصغيرة المؤسية “أمضيت طفولتي من دون الخروج من البيت. ولعدم وجود أصدقاء لنا، اخترعنا، أنا وأختي، رفيقين متخيلين، وعندما شعرنا بالملل منهما قلنا لأمنا إنهما ماتا”.
لا أحد بمقدوره الانتظار طويلاً ريثما يحضر المتخيّل ليكون حقيقة، لأن الوقت المؤلم الذي يفصل بين التوهّم وتحقق المتوَّهم وقت ثقيل لا تطيقه النفوس. منتظر “الحقيقة” مديداً سيكفر بها أو سيتخذ له حقائق صغرى تلهيه عن انتظارها، ومنتظر الخلاص سيقتل مخلصه لئلا يظهر بعده، ومنتظر القيامة سيقتل نفسه ليلاقيها بدلاً من التعبّد المؤلم وهو ينتظرها، ومنتظر الله يضيق ذرعاً به في انتظاره الألفيّ الطويل فيعلن موته.
غير أن الحقيقة لا تُبلَغ إلا بالانتظار، انتظار مؤلم وطويل وممضّ تُختَبَر فيه النفوس والعقول والقلوب. ولهذا حديث آخر في وقت آخر.