المفوض العام لـ{الأونروا}: لا مكان آمنا في غزة
حاوره: رئيس التحرير
عبّر المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) فيليب لازاريني، عن تقديره للدور الذي يلعبه العراق في إدامة عمل الوكالة وامتنانه للمساعدات التي قدمّها العراق منذ بدء أزمة غزة. وبيّن أنه ناقش مع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني ومسؤولين آخرين انضمام العراق إلى اللجنة الاستشارية لـ»الأونروا» مما يتيح للعراق أن يكون طرفاً فاعلاً في الحوار الستراتيجي الذي يقود عمل الوكالة الأممية ويوجهها.
وقال لازاريني، في حوار له مع «الصباح» أجراه رئيس التحرير: إنّ «المساعدة التي قدمها العراق للبعثة والتي بلغت 25 مليون دولار، إضافة إلى كميات الوقود التي تبرع بها؛ كانت فاعلة في إعادة تشغيل المستشفيات ومضخات المياه والمخابز وسائر المرافق التي تتقوم بها حياة أهالي غزة».
وهذا نص الحوار:
الصباح: في البدء نشكرك على إتاحة الفرصة للقائك ونثمن جهودكم المبذولة في قطاع غزة تحديداً واستمراركم في العمل لصالح مواطني فلسطين برغم ما تتعرض له كوادركم هناك من تضييق في ظرف كارثي. سؤالنا الأول: منذ الأسابيع الأولى للأزمة التي أعقبت السابع من أكتوبر في غزة أوضحتم أنكم تواجهون مشكلات في عملكم، فما هو الوضع الآن؟
فيليب لازاريني: نحن لم نغادر غزة أبداً برغم كل ما يحدث. لدينا 15 ألف موظف في قطاع غزة يقومون بتقديم الخدمات الأساسية للفلسطينيين، وكنا نقوم بإيواء الأشخاص الفارين من الحرب داخل المدارس التابعة للأونوروا وتقديم الغذاء وسائر الاحتياجات لهم، ومنذ بداية حصار غزة واجهنا مشكلات من قبيل نفاد الوقود الذي من دونه لا تستطيع المستشفيات أن تعمل ولا الشاحنات التي يمكن أن توصل المساعدات. منذ أول يوم كنا نناشد المجتمع الدولي وكل من له تأثير بغية توفير المساعدات لأهالي القطاع، لأن المساعدات كانت معدومة تماماً في الأيام الأولى للحرب.
مذبحة غير مسبوقة
الصباح: أغلب الناس يظنون أن مشكلاتكم بدأت في السابع من أكتوبر بعد عملية «طوفان الأقصى» والعدوان الإسرائيلي، لكننا نعرف أنّ الأزمة أقدم من هذا التاريخ وأنكم تواجهون مشكلة مزمنة هناك؟
فيليب لازاريني: الصراع قديم كما تعرف، وهذه مجرد جولة أخيرة منه، لكنها الجولة الأقسى، فالمذبحة التي وقعت ليست مسبوقة، وهو ما حذرنا منه مراراً حين كنا نقول إن الحرب، حتى الحرب، يجب أن تصحبها قوانين، وكنا وما زلنا نذكر إسرائيل بأن هناك قوانين يجب أن تلتزم بها وأن تكون ردود فعلها متناسبة مع القوانين الدولية، لكنْ ما الذي حدث فعلاً؟ هناك 45 ألف قتيل (شهيد) فلسطيني ودمار شامل لكامل القطاع وجميع السكان نازحون وهم لا يعانون فقط الخوف من الحرب ومن سقوط الصواريخ ولكنْ يعانون أولاً من الحصار المفروض على القطاع ما أدى إلى تفشي الجوع. هناك مجاعة فعلية الآن في غزة. ولهذا نحن نذكر بأن أية حرب، بما فيها الحرب الدائرة في غزة، يجب أن تنتظمها قوانين وأن يتم فيها احترام حق المدنيين في الحياة.
ضحايا «الأونروا»
الصباح: في الأسابيع الأولى للحرب أعلنتم أنكم فقدتم أكثر من سبعين من زملائكم العاملين في الأونروا. العدد الآن أكبر بالتأكيد. هل من كلمة توجهونها للعالم في هذا الصدد؟
فيليب لازاريني: كما تعلم فإن الأونروا والأمم المتحدة بعامة دفعت ثمناً باهظاً في هذه الحرب، قتل لنا أكثر من 190 موظفاً حتى الآن. وكان هناك للأسف تجاهل تامّ لموظفي الأمم المتحدة ولمقراتها. ولم يقتصر الأمر على قتل الموظفين بالصواريخ بل جرى اعتقال بعضهم وتعذيبهم، إضافة إلى تدمير 160 مبنى تابعاً للأونروا تدميراً كاملاً بحيث لم يعد أي مبنى يصلح للعمل، والمباني المتبقية استخدمت مقرّات عسكرية ليس فقط من قبل إسرائيل ولكن من قبل «حماس» أيضاً والفصائل الأخرى. وجرى استهداف الشاحنات التي تنقل الغذاء والدواء بالرغم من أن تلك الشاحنات كنا نسيّرها بالاتفاق مع الجهات المعنية. ولذلك خاطبت الأمم المتحدة ومجلس الأمن تحديداً في ضرورة أن تكون هناك مُساءلة وأن يصار إلى التحقيق في هذه الحوادث لئلا تكون سابقة ولئلا تمر هذه الجرائم من دون مُساءلة.
لا يوجد مكان آمن
الصباح: لطالما كانت إسرائيل تدعو الفلسطينيين للتوجه إلى ما تسميها «مناطق آمنة» لكننا شهدنا أنّ الناس حين يذهبون لهذه الأماكن يتم قصفهم كما حدث في الطريق إلى رفح، وفي رفح ذاتها. إلى أين يتوجه المدنيون للهرب من الحرب؟
فيليب لازاريني: لا توجد منطقة آمنة في كامل قطاع غزة ابداً. ولهذا فالناس يتحركون باستمرار على غير هدى، إلى اليمين والشمال والجنوب والوسط ومن ثم يعودون مرة أخرى، وحيثما توجهوا يتم قتلهم. هذه معضلة. لأنك إذا أردت أن يكون هناك مكان آمن فهذا لا يمكن إعلانه من طرف واحد بل يجب أن يسبقه اتفاق، وإذا ما حددت مكاناً فيجب أن لا تكون فيه فصائل ولا سلاح، وبالتالي لا يكون عرضة للعمليات العسكرية من الطرفين، وبما أنه لا يوجد اتفاق كهذا فليس هناك مكان آمن يذهب إليه الناس. وهذه خصوصية الحرب في غزة أنْ ليست هناك منطقة لا تشملها الحرب. في الأيام الأولى كان الناس يظنون أن مقرات الأمم المتحدة أماكن آمنة فلجؤوا إليها ولكن بالرغم من أن شعار الأمم المتحدة يرفرف على هذه الأماكن لم يتم احترامها وضربتْ وقتل فيها آلاف الأشخاص وجرح آلاف آخرون. لذلك كله فهذه هي الحقيقة المرة: لا يوجد مكان آمن في غزة.
مزاعم إسرائيلية
الصباح: كيف تنظرون إلى تجاوب العالم مع ما تطلقونه من نداءات وحجم الاستجابة لتقديم المساعدات وإيصالها إلى المدنيين؟.
فيليب لازاريني: هذه المعاناة مستمرة. تعلمون أن إسرائيل زعمت بأن هناك 12 موظفاً في الأونروا شاركوا في هجوم «حماس» في السابع من أكتوبر 2023، ونتيجة لهذا قامت 16 دولة بمقاطعة وكالة الأونروا وقطع تمويلها والامتناع عن تقديم المساعدات لها، وكما تذكرون فإن الأمين العام للأمم المتحدة قام بتشكيل لجنة برئاسة وزيرة التربية الفرنسية السابقة لمراجعة عمل الأونروا والتحقيق في هذه المزاعم، وصدر التقرير بعد اسبوعين من عمل اللجنة وتضمن بأنّ الآليات التي بنيت عليها الأونروا والأساليب التي تتبعها شرعية وتتم وفقاً لمقررات الأمم المتحدة، وخلص التقرير إلى أنه لا يمكن الاستغناء عن الأونروا أو استبدالها، ومع ذلك عمدنا إلى استحداث تدابير جديدة لطمأنة كل الأطراف وما زلنا ملتزمين بها، وبالفعل فقد كان لهذا التقرير أثر واضح في إعادة أغلب الدول اعترافها بالأونروا ومعاودة تقديم المساعدات لها، بل أن بعض هذه الدول زادت من حجم مساعداتها مثل العراق، لكن المعضلة تكمن في موقف الولايات المتحدة الأميركية وهي أكبر داعم للأونروا حين قرر الكونغرس فيها قطع مساعداتها للأونروا إلى نهاية آذار 2025، مما أدى وسيؤدي إلى نقص حادّ في المساعدات التي تصلنا. هناك أيضاً مساعدات غير حكومية، من اشخاص يتبرعون بالمساعدات فقد تم جمع مبلغ 120 مليون دولار من هذه الجهات وهو يعبر عن موقف تضامني كبير مع الفلسطينيين في هذه المحنة.
الموقف العراقي
الصباح: لنسأل الآن عن موقف العراق، وما قدمته الحكومة العراقية للأونروا. كيف تقيمون ذلك؟
فيليب لازاريني: هذه أول زيارة لي للعراق. وهي زيارة هامة ومناسبة لتقديم تقديري وامتناني لحكومة العراق على ما تقدمه لنا. وقد ناقشت، أمس الأول الثلاثاء، مع السيد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني ما يمكن أن يقدمه العراق لعملنا، هناك دعم سياسي كبير من قبل الحكومة العراقية وقد ناقشت ذلك أيضاً مع نائب وزير الخارجية تقديم الدعم المالي والعملياتي وضمان حماية تفويض ومهام الوكالة. وكما تعلمون فإن العراق قدّم مشكوراً مبلغ 25 مليون دولار لمساعدة المنظمة كما قدّم الوقود الذي ساهم بشكل كبير في انسياب العمليات الإنسانية وتعزيز عملنا في أماكن إيواء اللاجئين والمستشفيات ومضخات المياه وأفران المخابز وغير ذلك، ولذلك فإن المساعدة العراقية مهمة في هذا الصدد وهي تعبّر بشكل واضح عن تضامن العراق حكومة وشعباً مع أهالي غزة.
بحثنا مع رئيس الوزراء أيضاً كيف يمكننا جعل هذه الشراكة ستراتيجية، فطلبنا من العراق أن ينضم إلى اللجنة الاستشارية التابعة للأونروا وأن يصبح العراق جزءاً من الحوار الستراتيجي الذي يوجّه تحركات الوكالة وتوجهاتها.
معاداة السامية
الصباح: سؤالنا هذا قد يكون ذا طابع شخصي نوعاً ما. بعد تصريحاتكم التي أغضبت إسرائيل، ألا تخشون من اتهامكم بمعاداة السامية لأنها التهمة الرائجة حالياً؟
فيليب لازاريني: أبداً. ليس لديّ أي خوف في هذا الصدد ولا أخشى هذه التهمة لأنها في الحقيقة ليس لها ما يسندها أو يبررها فأنا اتحدث عن حقائق وكلامي كله محدد بمناشداتي بالالتزام بالقانون الدولي وكشف حجم الكارثة التي تتبدى أمام أعيننا. ثم إني قمت بشكل واضح بإدانة ما حدث في 7 أكتوبر.
الصباح: بعد إدانتكم هذه هل تعرضتم لمضايقات من حماس والفصائل الفلسطينية؟
فيليب لازاريني: لا. لم أشعر بأية مضايقة. فأنا قمت بإدانة ما فعلته «حماس»، وفي الحقيقة فأنا أتمنى أن ينتهي هذا الاستقطاب الحاد في المواقف العالمية، وأن لا تكون المواقف ذات توجه أحاديّ أما مع إسرائيل أو مع «حماس». نحن يجب أن نلفت الانتباه إلى عدم إنسانية هذا الصراع لأن المدنيين يتحملون الآن ما لا يمكن احتماله. وما يجري الآن من مواقف لن يؤدي إلى حلّ سياسي.
حرب غير إنسانية
الصباح: هل من كلمة أخيرة؟
فيليب لازاريني: نعم. أودّ القول بأن ما حدث في السابع من أكتوبر لا يمكن أن يبرر التجاهل التام للقانون الإنساني كما هو حاصل الآن. لا يوجد شيء في العالم يبرر هذا القتل والدمار الشامل. وحتى مع وجود الحرب يجب أن يكون القانون الدولي حاضراً. المشكلة أنّ الجميع اليوم مستهدفون بالأسلحة ليست «حماس» لوحدها بل المدنيون وبضمنهم الأطفال والنساء ومنظمات الأمم المتحدة ومنها الأونروا. هناك حرب غير إنسانية ويجب أن نقف ضدّها. وكلما طال أمد الحرب فقدنا إنسانيتنا أكثر وأكثر.