ما دلالات وتأثير دعم ديك تشيني لهاريس بدلا من ترمب؟
ترمب يعطي ليز تشيني قلماً، بعد توقيعه على قرارات اتخذها مجلس النواب بالبيت الأبيض، في 27 مارس 2017 (أ ف ب)
لم يكن مفاجئاً أن تمتنع عن تأييد دونالد ترمب للمنصب الرئاسي، شخصيات جمهورية بارزة ومؤثرة مثل الرئيس السابق جورج دبليو بوش، ونائب ترمب نفسه مايك بنس، والمرشح الرئاسي الجمهوري السابق لعام 2012 السيناتور ميت رومني، وعائلة المرشح الرئاسي الجمهوري الراحل لعام 2008 السيناتور جون ماكين، لكن المفاجأة جاءت من نائب الرئيس السابق، الجمهوري المحافظ على مدى نصف قرن، ديك تشيني الذي لم يمتنع عن تأييد ترمب وحسب بل ذهب إلى دعم كامالا هاريس، فما أسباب ودوافع هذا التحول الفريد من نوعه، وهل يمكن أن يؤثر في حظوظ ترمب الانتخابية؟
تحول مهم
كان تشيني الذي شغل منصب نائب الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش على مدى دورتين في الفترة من عام 2001 وحتى 20 يناير 2009 صديقاً للديمقراطيين على مر السنين، لكنه لم يدعم أياً من مرشحيهم للرئاسة طوال حياته، بل ساند جميع المرشحين الجمهوريين للرئاسة بمن فيهم دونالد ترمب عندما ترشح للرئاسة لأول مرة في عام 2016 وكذلك فعلت ابنته عضوة مجلس النواب السابقة ليز تشيني.
لكن تشيني الأب (83 سنة) الذي لم يظهر في العلن منذ أكثر من عام ويعاني من مشاكل قديمة في القلب، غيّر نهجه فجأة وأعلن في بيان أنه سيدلي بصوته للمرشحة الديمقراطية هاريس لأنه حسب وصفه، "لم يكن هناك فرد في تاريخ الأمة الأميركية الممتد على مدى 248 عاماً أكثر تهديداً للجمهورية من دونالد ترمب الذي حاول سرقة الانتخابات الأخيرة باستخدام الأكاذيب والعنف للحفاظ على نفسه في السلطة بعدما رفضه الناخبون" في إشارة إلى أحداث 6 يناير (كانون الأول) 2021، وبالتالي اعتبر تشيني أنه لا يمكن الوثوق بترمب في السلطة مرة أخرى ومن واجبه وضع البلاد فوق الحزبية للدفاع عن الدستور الأميركي.
ورد ترمب على بيان تشيني عبر منشور على منصة التواصل الاجتماعي الخاصة به (تروث سوشيال) قائلاً إن "تشيني هو ملك الحروب التي لا تنتهي ولا معنى لها، والتي تضيع فيها الأرواح وتريليونات الدولارات، تماماً مثل الرفيقة كامالا هاريس"، بينما وصف نفسه بأنه "رئيس السلام"، وأنه وحده من سيوقف الحرب العالمية الثالثة.
سبب التغير
هذا الخلاف المرير بين شخصيتين تركتا بصمة مهمة لدى المحافظين الجمهوريين لم يقتصر فقط على السياسات المتعلقة بحروب الولايات المتحدة في الخارج، بل امتد إلى أعمق من ذلك، ورداً على انتقاد ترمب للحروب التي لا نهاية لها في أفغانستان والعراق عندما كان ديك تشيني نائباً للرئيس جورج دبليو بوش، انتقدت ليز تشيني قرارات ترمب في السياسة الخارجية خلال توليه الرئاسة بين عام 2017 وحتى يناير 2021.
لكن منذ أحداث اقتحام الكابيتول في 6 يناير 2021، أصبح من غير الممكن إصلاح العلاقة بالنسبة لترمب بسبب تصويت ليز تشيني مع عشرة نواب جمهوريين آخرين لمصلحة عزله بتهمه التآمر لعرقلة نتيجة انتخابات 2020، وقيادتها للجنة مشتركة من الحزبين في الكونغرس للتحقيق في الهجوم على مبنى الكابيتول الأميركي.
وبالرغم من أن تشيني الأب، التزم الصمت في انتخابات 2020 ولم يعلن دعمه لأي مرشح، إلا أنه أصبح منتقداً صريحاً لترمب منذ حملة إعادة انتخاب ابنته ليز في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري عام 2022 خلال سعيها لولاية رابعة على التوالي بولاية وايومينغ، والتي خسرتها بهامش أكثر من 2 إلى 1 أمام المحامية هارييت هاغمان بسبب دعم ترمب لها انتقاماً من ليز تشيني، لتفقد بذلك ابنة نائب الرئيس بوش عضويتها في مجلس النواب بعدما كانت تشغل ثالث أهم قيادة للحزب الجمهوري في المجلس.
دائرة الانتقام
ويبدو أن الوقت حان لعائلة تشيني للانتقام في لحظة لم يكن الأميركيون ليتوقعوا أبداً أن تأتي، إذ لم يكن من المتصوَّر تاريخياً في سلوك رموز الساسة الأميركيين من الحزبين، ألا يحصل السيناتور رومني خلال ترشحه للرئاسة في عام 2012 على دعم الرئيس بوش، أو ألا يحصل السيناتور الراحل جون ماكين على دعم بوش في عام 2008. أما على الجانب الآخر دعم الرئيس السابق بيل كلينتون السيناتور باراك أوباما عام 2008، حتى بعد أن هزم زوجته هيلاري كلينتون في الانتخابات التمهيدية الديمقراطية في ذلك العام.
وحينما جاءت اللحظة المناسبة، وجّه تشيني الأب ضربة مشتركة مع ابنته ليز عبر دعم المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، ابنة كاليفورنيا التي تعد واحدة من أكثر الولايات ليبرالية في البلاد، ووضع ذلك آل تشيني على قدم المساواة مع أكثر التقدميين شراسةً في دعم هاريس مثل السيناتور بيرني ساندرز وعضوة مجلس النواب ألكساندريا أوكازيو كورتيز، مما أثار دهشة المتحدث باسم حملة ترمب، ستيفن تشيونغ الذي أشار بشكل ساخر إلى تعليق نشرته ليز تشيني عبر الإنترنت قبل أربع سنوات، حين وصفت هاريس بأنها "ليبرالية متطرفة".
تحالف المصالح
ومن الواضح الآن أن هناك رؤية مشتركة بين الديمقراطيين وعائلة تشيني، في أنه يجب إيقاف تقدم ترمب كسبيل وحيد لاستعادة الجمهوريين التقليديين لحزبهم القديم الذي قلبه ترمب رأساً على عقب. ومن خلال تحالف المصالح مع الديمقراطيين القائم على "اللياقة وحب الوطن" من وجهة نظرهم، يمكن البدء بالعمل على إعادة بناء الحزب الجمهوري وإنهاء "حركة ماغا" (Make America Great Again) "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" عبر ترك ترمب بدون أكسجين سياسي، بعدما أثبت عملياً لليمينيين في الحزب الجمهوري، أنه يمكن جني التبرعات والأموال والحصول على دعم الناس من خلال تبني أي شكل من أشكال السياسة التي لا يوجد لها تعريف أيديولوجي واضح من وجهة نظرهم، لكنها فقط تُبقي قاعدته الشعبية غاضبة.
وبحسب الكاتب والمعلق السياسي الليبرالي ريكس هوبكي، يبدو أن آل تشيني قاموا ببساطة بحساب دقيق مفاده أن الرئيس السابق غير لائق للمنصب الرئاسي في جميع النواحي، ويرون أنه حوّل الحزب إلى "فاشية تتمثل في عبادة شخصيته"، ولذلك يريدون استعادة الحزب الجمهوري وإبعاد عائلة ترمب وأنصاره من أقصى اليمين مثل السناتور تيد كروز والنائبة مارجوري تايلور غرين إلى حيث ينتمون، بعدما شاهدوا بأعينهم أن الحزب الذي كان يتزعمه منذ الثمانينيات رونالد ريغان، وعائلة بوش، والسيناتور جون ماكين، وبالطبع ديك تشيني، تغلب عليه الآن مجموعة من النرجسيين المناهضين للديمقراطية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التخلص من ترمب
وفي خضم تفاعل الأحداث الأخيرة، تولّد تصور متفائل بأنه يمكن لهؤلاء الجمهوريين البارزين الذين انفصلوا عن ترمب أن يساهموا في تقرير مصير السباق الرئاسي بين ترمب وهاريس عبر خلق بنية ملموسة للناخبين الجمهوريين الآخرين لدعم هاريس من أجل تخليص الحزب الجمهوري من دونالد ترمب، وأنه إذا لم يسلك المحافظون التقليديون هذا المسار الذي فتحه تشيني، أو لم يدركوا أن تطهير العالم السياسي من ترمب يعني العض على شفتيك والتصويت على مضض لصالح مرشح ديمقراطي في هذه اللحظة الفاصلة.
ولن يكون أمام هؤلاء سوى مغادرة الحزب الجمهوري تماماً، لأنه إذا فاز ترمب، أو حتى خسر بفارق ضئيل، فسيكون لدى حركة "ماغا" ما يكفي من الأكسجين لمواصلة العمل، وإذا حدث ذلك، فسيصبح الجمهوريون التقليديون في طي النسيان، ويضيع الحزب الذي كان ذات يوم مدافعاً عن المبادئ المحافظة ويختفي إلى الأبد.
وأكدت هذا المبدأ ليز تشيني يوم الأحد الماضي على قناة (آي بي سي) حين قالت إن ما حدث للحزب الجمهوري اليوم "لا يمكن الدفاع عنه"، وعبرت عن أملها في أن تتمكن من إعادة بناء الحزب بعد هذه الدورة.
لكن في المقابل، يقول ترمب وحلفاؤه إن الحزب أعيد بناؤه بالفعل من خلال حركة "ماغا"، وأن الغالبية العظمى من الناخبين الجمهوريين ما زالوا معهم، بينما المنتقدون مثل ديك تشيني وابنته ليز، هم مجرد "رينو"، وهو مصطلح يعني أنهم جمهوريون بالاسم فقط.
السياسة والشخصية
ولا شك أن بعض الجمهوريين الذين ترددوا في دعم صعود ترمب خلال السنوات الماضية يختلفون معه بشأن القضايا التي تواجه الولايات المتحدة، بما في ذلك البنود التي كانت عقيدة الحزب لعقود من الزمن، فمع انتخاب ترمب في عام 2016، أصبح الحزب الجمهوري أكثر تدخلاً في الاقتصاد وأكثر انعزالاً في السياسة الخارجية، كما بنى ترمب حملته جزئياً على مهاجمة أنواع الجمهوريين الذين يهاجمونه الآن، وهم زعماء الحزب السابقون الأكثر تقليدية. ويشمل ذلك العديد من أعضاء إدارة بوش، بما في ذلك بوش نفسه وديك تشيني وبخاصة بشأن غزو العراق في عام 2003 والأزمة المالية في عامي 2007 و2008، كما انتقد الدعم الجمهوري القديم للتجارة الحرة والتحالفات العسكرية الدولية.
في المقابل، شن بعض زعماء الجمهوريين هجوماً مضاداً على ترمب بسبب مقترحات التعرفات الجمركية التي يرون أنها تهدد بتدمير التجارة الحرة، وأن ازدراءه لحلف شمال الأطلسي (الناتو) والتحالفات العسكرية الأخرى لا يمكن إلا أن يشجع روسيا والصين، خصوم أميركا، وانزعج هؤلاء الجمهوريون من بعض تصرفات ترمب، مثل تعاطفه مع مقتحمي مبنى الكابيتول في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، وتهديداته شبه المستمرة بملاحقة المعارضين السياسيين، من الرئيس جو بايدن إلى ليز تشيني، ومزاحه بأنه سيكون ديكتاتوراً فقط في اليوم الأول لرئاسته حينما يتخذ قرارات تتعلق بأمن الحدود وإنتاج الطاقة.
وبالإضافة إلى الخلافات السياسية، ظلت الخلافات الشخصية في الواجهة بين ترمب وعائلة تشيني. كما اشتبك الرئيس بوش مع ترمب بشكل غير مباشر، وعلى سبيل المثال، خلال حفل أقيم في ولاية بنسلفانيا في عام 2021 لإحياء الذكرى العشرين لهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، شدد بوش على أن الكثير من سياسة أميركا أصبح نداءً للغضب والخوف والاستياء، وبعد محاولة موالين لترمب اقتحام الكونغرس في 6 يناير 2021، أصدر بوش بياناً قال فيه إنه وزوجته لورا بوش وجدا ذلك مشهداً مقززاً ومحزناً، كما وصفت لورا بوش بعض سياسات إدارة ترمب الحدودية بأنها قاسية وغير أخلاقية، وذلك في مقال رأي نشرته لها صحيفة "واشنطن بوست" في عام 2018.
هل من تأثير؟
وعلى الرغم من أن ديك تشيني ليس كأي جمهوري، بالنظر إلى أن قليلاً من الجمهوريين روجوا للقضايا المحافظة مثله، وكثيرا ما اشتبك مع القادة الديمقراطيين في إطار من السياسة المحافظة، فضلاً عن أنه عزز صلاحيات نائب الرئيس في الترويج لقضايا مثل إنتاج النفط والغاز والعمل العسكري لإزاحة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، إلا أن قرار تشيني بالانضمام إلى فريق هاريس أثار سخرية بعض الجمهوريين، حيث اعتبرت حاكمة ولاية أركنساس، سارة ساندرز، السكرتيرة الصحافية السابقة لترمب، أنها لا تفهم كيف يمكن لأي من الجمهوريين المنشقين أن يعتبروا أنفسهم محافظين بينما يقولون إنهم يصوتون لهاريس.
وأوضحت ساندرز وغيرها من حلفاء ترمب أن الجمهوريين المناهضين له يشكلون أقلية في إشارة إلى أن ترمب حصل على دعم 88 في المئة و94 في المئة من أصوات الجمهوريين في انتخابات عامي 2016 و2020 على التوالي، وفقاً لاستطلاعات الرأي عند الخروج من مراكز الاقتراع، وهو الآن في طريقه للفوز مرة أخرى بأكثر من 90 في المئة من أصوات الحزب الجمهوري بشكل عام.
وبصرف النظر عما إذا كانت أجندة رونالد ريغان، الأب الروحي للحركة المحافظة والفائز بانتخابات ساحقة مرتين في الثمانينيات، مختلفة عن أجندة ترمب كما تقول ليز تشيني، أو ما إذا كان الرئيس السابق هو الوريث الحقيقي لريغان كما يقول أنصاره، تظل التساؤلات حولو ما الاحترام الذي اكتسبه ديك تشيني بين الديمقراطيين، مثيرة للتعجب بين غالبية الجمهوريين، ما يجعل تأثيرها على الانتخابات في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل ضعيفة الأثر.