رحلة نصرالله من الأحياء الفقيرة إلى ساحة الصراع
كان نصرالله يتمتع بكاريزما وتأثير شعبي وقدرة على توجيه الجمهور وتعبئته (أ ف ب)
إنها حرب إسرائيل المفتوحة التي لا يحدها سقف ولا خطوط حمراء. فلم تكن تهديدات القادة في إسرائيل عبثية ومجرد كلام بل قورنت الأقوال بالأفعال وعلى نطاق واسع. ومنذ بدء الحرب في غزة واستتباعاً فتح الجبهة الجنوبية وتل أبيب تحذر "حزب الله" من مغبة وأخطار دخوله في تلك الحرب، وعلى مدى عام تقريباً استطاعت إسرائيل أن تستنزف الحزب بجبهة المشاغلة، ويعد كثر أن تل أبيب أعدتها "فخاً" لإرهاق الحزب وفي المقابل كانت تعمل على التصعيد التدريجي ولكن مع استهدافات واغتيالات مباشرة ودقيقة وأصابت قلب قيادة الحزب، وربما يمكن اعتبار أن الحرب على لبنان بدأت فعلاً منذ "واقعة البيجر" والتي أصابت أكثر من 4 آلاف قيادي وعنصر من "حزب الله". وربما أيضاً يمكن اعتبار أن إسرائيل لم يكن هدفها على الإطلاق الوصول إلى تسوية وهذا ما كان واضحاً في كل تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول أن المشهد شمالاً لا يجب أن يبقى كما هو عليه، وقوله إنهم يوجهون "ضربات إلى ’حزب الله‘ في صورة لم يتصورها البتة، نقوم بذلك مستخدمين القوة الكاملة وبدهاء. إنني أعدكم بأمر واحد، لن نستريح حتى يعودوا إلى منازلهم" متحدثاً عن سكان المستوطنات الشمالية.
وفي مكان آخر يقول نتنياهو "لقد بدأنا للتو عملية تغيير الشرق الأوسط" وصولاً إلى خطابه من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ طالب العالم بأن يختار بين بلاده التي "تدافع عن السلام والديمقراطية" حسب تعبيره والدول الأخرى التي "تدعم الإرهاب" مثل إيران مستخدماً بعض الدعائم لإثبات وجهة نظره، إذ عرض خارطتين لتوضيح ما يراه كخيارات في التعامل مع إيران، خريطة "النعمة" الإسرائيلية للشرق الأوسط والمحيط الهندي وأوروبا، وخريطة "اللعنة" الإيرانية وسط الحرب المستمرة مع "حماس" و"حزب الله". نتنياهو الذي شن حرباً كلامية من مقر الأمم المتحدة وفي كل الاتجاهات قال "ما دام "حزب الله" يختار مسار الحرب فلا خيار أمام إسرائيل، ولدى إسرائيل كل حق في إزالة هذا التهديد وإعادة مواطنينا إلى ديارهم بأمان". وحذر رئيس الوزراء الإسرائيلي إيران من أن بلاده ستقصفها إذا تعرضت للقصف أولاً، وقال إن بإمكان تل أبيب الوصول إلى أي جزء من أراضيها متوعداً بـ"لدي رسالة لطغاة طهران. إذا قصفتمونا، فسنقصفكم".
اغتيال نصرالله
نتنياهو كان يخطب على وقع تحضير الضربة القاصمة للحزب، إذ نفذ الطيران الحربي الإسرائيلي غارة جوية واسعة النطاق على معقله في الضاحية الجنوبية لبيروت أسفرت عن 10 انفجارات متتالية، أتت على ستة أبنية وسوتها بالأرض مستخدمة أسلحة متطورة وثقيلة قد تصل زنة حمولتها المتفجرة وفقاً للخبراء العسكريين إلى 2000 كيلوغرام، مما يعكس أهمية الهدف الذي تسعى إسرائيل وراءه.
تلك الغارة التي كما بات معروفاً كان هدفها اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصرالله وبقي مصيره غامضاً ولم يصدر عن العلاقات الإعلامية في الحزب (وقتها) ما يؤكد أو ينفي صحة ما ينقله الإعلام الإسرائيلي من أن نصرالله قضى في العملية، حتى جاء التأكيد يوم السبت من قبل الجيش الإسرائيلي أن الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله "قتل" خلال الغارة التي استهدفت أمس الجمعة مقر قيادة الحزب في ضاحية بيروت الجنوبية. وقال الناطق باسم الجيش اللفتنانت كولونيل ناداف شوشاني عبر منصة "إكس"، "حسن نصرالله قتل".
النشأة والبداية في النشاط السياسي
في خطابه خلال الأول من أغسطس (آب) الماضي قال نصرالله "نحن ندفع ثمن إسنادنا لجبهة غزة وللشعب الفلسطيني وتبنينا القضية الفلسطينية وحماية المقدسات". فمن هو أمين عام "حزب الله" الذي كثيراً ما سبب قلقاً لإسرائيل وللولايات المتحدة ولدول أخرى حول العالم، والذي اعتبر رمزاً للمقاومة في عيون مؤيديه، وشخصية مثيرة للجدل بين منتقديه؟
قاد ذلك الرجل "حزب الله" إلى حقبة مختلفة غيرت وجه لبنان والمنطقة وعمل على تطوير القدرات العسكرية للحزب، فباتت تتضمن ترسانة من الصواريخ الدقيقة والمقاتلين المدربين. ويعد الحزب قوة غير تقليدية قوية للغاية تتجاوز في قوتها بعض الجيوش النظامية داخل المنطقة بما في ذلك الجيش اللبناني. هذه القوة المتزايدة جعلت من نصرالله تهديداً مباشراً لأمن إسرائيل وبخاصة مع القدرة الصاروخية التي يمتلكها. وحسن نصرالله هو الأمين العام الثالث لـ"حزب الله" وأحد أكثر الشخصيات تأثيراً في الشرق الأوسط والذي تولى منصبه خلال الـ16 من فبراير (شباط) 1992، خلفاً للأمين العام السابق عباس موسوي الذي اغتالته إسرائيل بإطلاق صاروخ على موكبه. وولد خلال الـ31 من أغسطس (آب) 1960 داخل حي الكرنتينا شرق بيروت لعائلة متوسطة من بلدة البازورية في جنوب لبنان. ونشأ نصرالله في فترة شهدت صراعات سياسية ودينية كبيرة في لبنان مما أثر بصورة كبيرة في تكوين أفكاره. والرجل الذي عاش حياته متخفياً يقول في مقابلة صحافية خلال أغسطس 2014 "يروج الإسرائيلي لفكرة مفادها أنني مقيم في ملجأ بعيداً من الناس فلا أراهم ولا أتواصل معهم، حتى منقطع عن إخواني". وأضاف "المقصود بالإجراءات الأمنية هو سرية الحركة ولكن هذا لا يمنعني نهائياً من أن أتحرك".
وتلقى نصرالله تعليماً دينياً في مراكز وحوزات شيعية في لبنان والعراق وإيران وانخرط في العمل السياسي والمقاومة منذ شبابه، إذ انضم إلى حركة "أمل" في بداية شبابه وهي الحركة التي كانت تمثل آنذاك الوجه الأبرز للطائفة الشيعية في لبنان، وتأثر كثيراً بالإمام موسى الصدر الذي كان له دور كبير في بلورة الفكر الشيعي السياسي داخل لبنان، وبعد فترة من الانخراط في الحركة توجه نصرالله إلى النجف في العراق لدراسة العلوم الدينية تحت إشراف كبار العلماء مثل السيد محمد باقر الصدر وخلال فترة دراسته هناك توطدت علاقته بالفكر الإسلامي الشيعي الثوري الذي يركز على مقاومة الظلم والاحتلال. وبعد عودته إلى لبنان في أوائل الثمانينيات شارك في تأسيس "حزب الله" الذي أنشيء بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وكان الهدف الأساس للحزب هو مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب اللبناني وتحرير الأراضي اللبنانية المحتلة. وفي عام 1992 تولى نصرالله منصب الأمين العام للحزب مما شكل نقطة تحول في مسيرته ومسار حزبه، ومنذ ذلك الوقت قاد حزبه في عدة صراعات رئيسة مع إسرائيل كان أبرزها حرب يوليو (تموز) 2006، إذ برز كرمز للمقاومة ضد إسرائيل ولقب بـ"سيد المقاومة" نظراً للدور الذي قام به حزبه في تحرير جنوب لبنان عام 2000 من الاحتلال الإسرائيلي الذي استمر لمدة 22 عاماً، ثم في مواجهة إسرائيل خلال حرب 2006، كما لعب دوراً كبيراً في عمليات التبادل لإعادة أسرى لبنانيين وعرب وجثامين لمقاتلين كانت تحتجزهم إسرائيل خلال يوليو 2008.
ومنذ توليه القيادة تمكن نصرالله من تحويل "حزب الله" من مجموعة مقاومة عسكرية صغيرة إلى تنظيم سياسي وعسكري ذي تأثير كبير، ليس فقط داخل لبنان بل في المنطقة ككل. ويُعزى هذا النجاح جزئياً إلى دعمه القوي من إيران وسوريا وأيضاً إلى خطابه السياسي المؤثر وقدرته على كسب تأييد الجماهير الشيعية في لبنان والمنطقة، وبرع في استخدام الإعلام والخطابة لترويج موقف حزبه من الصراعات الإقليمية، كما أن إدارته للحرب ضد إسرائيل عام 2006 وخطبه الحماسية وشخصيته القوية زادت من شعبيته في العالمين العربي والإسلامي، إذ كانت كلماته تحظى بمتابعة واسعة واهتمام كبير حتى في الداخل الإسرائيلي.
هذه الشعبية تدهورت سريعاً بعد وقوف "حزب الله" إلى جانب النظام السوري في قمع الثورة السورية التي اندلعت عام 2011 والمطالبة حينها بإسقاط بشار الأسد، والتي كانت لها انعكاسات أساس ومحورية أدت على نحو ما إلى ما حل بالأمين العام وحزبه خلال هذه الأوقات.
مهمة "الحرس الثوري" في الإقليم
استمد نصرالله فكره من المبادئ الشيعية الإسلامية التي تعتمد على "ولاية الفقيه" وهو مبدأ يعد أن القيادة السياسية والدينية يجب أن تكون بيد علماء الدين خلال غياب الإمام المهدي، ويعد المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي هو الفقيه الذي يتبعه نصرالله. وتركز الفكر السياسي لنصرالله بصورة أساس على "مقاومة الاحتلال الإسرائيلي" والحفاظ على حقوق الشيعة في لبنان، ولكنه أيضاً وضع أهمية كبيرة للبعد الإقليمي والدولي في الصراع، إذ يعد أن الصراع مع إسرائيل ليس محلياً فحسب بل هو جزء من مواجهة كبرى مع "الهيمنة الأميركية والصهيونية" أو ما يصفه بـ"الاستكبار العالمي". ونصرالله الذي عد خليفة القيادي في "الحرس الثوري" قاسم سليماني وقيل إنه تسلم مهمة "الحرس" في الإقليم وذلك بعد عملية التبديل الكبيرة في قيادات الصف الأول، من تلك التي تركز على الحرب مع إسرائيل إلى تلك المتورطة في حروب اليمن والعراق وسوريا. وبرز "الحزب" كقوة موحدة لمجموعة واسعة من المسلحين الشيعة المرتبطين بإيران و"فيلق القدس" خلال قيادته لتلك المجموعات في الحرب السورية، وبعد اغتيال سليماني خلال يناير (كانون الثاني) 2020 إلى جانب القيادي في ميليشيات "الحشد الشعبي" العراقية أبو مهدي المهندس، اضطلع "الحزب" حينها بدور قيادي في تنسيق أنشطة الشبكة الواسعة للفصائل الشيعية وكلاء إيران في المنطقة، وكان هذا العامل الأساس في تحول "الحزب" إلى مركز الثقل في المنطقة وتحوله من كونه ميليشيات لبنانية تركز بصورة أساس على الأنشطة في لبنان ومعارضة إسرائيل إلى جهة فاعلة إقليمية تلعب دوراً قيادياً لشبكات إيران من الوكلاء المتشددين، نيابة عن "الحرس الثوري" و"فيلق القدس". ومن هنا كانت نظرة القيادة الإيرانية إلى حسن نصرالله كشريك استراتيجي ورمز محوري في "محور المقاومة". ويعد نصرالله وحزبه جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية إيران الإقليمية، إذ يدعمان توجهاتها في مواجهة القوى الغربية وحلفائها في الشرق الأوسط، وتعد القيادة في طهران نصر الله ليس فقط قائداً عسكرياً وسياسياً بل أيضاً رمزاً دينياً وثورياً، وغالباً ما تشيد به كـ"مدافع عن الإسلام والمقاومة" ضد "الهيمنة الغربية والصهيونية"، وكثيراً ما أشارت تصريحات خامنئي إلى أن نصرالله يعد شخصية محبوبة وموثوقة في الأوساط الإيرانية، وقد صورته على أنه "بطل المقاومة ضد إسرائيل والغرب".
6