بروتوكول الثورات... منعطفات على خريطة سقوط دمشق
مرت الثورة السورية بمنعطفات بالغة الأهمية (أ ف ب)
انتصار الثورة السورية لا يمكن أن يمر مرور الكرام في التاريخ، بل أخذ حيزاً كبيراً، ودخل التاريخ من أوسع أبوابه، السبب الرئيس وراء ذلك هو أن هذا الانتصار كان ثمنه باهظاً للغاية، وربما يعتقد سوريون أن الثمن الذي دفعوه أغلى بكثير من أن يدفع لإسقاط ديكتاتور، لكن بروتوكول الثورات المحقة كان يجب أن يسير كما ينبغي للحصول على مشاهد الفرح العارمة التي شهدتها سوريا يوم سقوط نظام بشار الأسد.
مرت الثورة السورية بمنعطفات بالغة الأهمية، فمن كتابة على الجدران إلى الرصاص الحي، فالبراميل المتفجرة ثم الكيماوي، تلاهما الترحيل والتهجير والتشريد، انتهاء بالنصر ثم بداية العودة، لذلك نحاول في هذا التقرير توثيق مرحلة مهمة من تاريخ سوريا الحديث للأجيال القادمة، فتبقى شهادة في سجل أهم أحداث القرن الـ21.
درعا.. الجدار الأول
في نهاية فبراير (شباط) 2011 كتب عدد من أطفال مدينة درعا جنوبي سوريا عبارات على جدار إحدى المدارس، منها "أجاك الدور يا دكتور"، و"الشعب يريد إسقاط النظام"، وعلى الفور قامت أجهزة الأمن السورية باعتقال هؤلاء الأطفال، فحاول ذووهم التدخل لإخراجهم، وعلى إثر ذلك التقوا رئيس فرع الأمن السياسي عاطف نجيب (وهو أحد أقرباء بشار الأسد)، وطلبوا منه إخراج أطفالهم، إلا أن رد عاطف نجيب عليهم هو أن يغادروا وينسوا أطفالهم، وإنجاب غيرهم، ويقال إن نجيب قال لأحد آباء الأطفال، "إذا كنت لا تستطيع إنجاب غيره أرسل لي زوجتك".
"عيب يا شباب هاي اسمها تظاهرة"
قبيل حادثة درعا بأيام، وتحديداً في العاصمة دمشق، قام أحد عناصر الشرطة بإهانة شاب، فاجتمع حوله عدد من المواطنين وهتفوا "الشعب السوري ما بينذل"، وازداد التوتر حتى حضر وزير الداخلية السوري حينها سعيد سمور، وعند حضوره هتف المتجمعون "حرامية حرامية"، ليصرخ في وجههم "عيب يا شباب هاي اسمها تظاهرة"، لكنه استدرك الموقف، وأرضى الشاب الذي تعرض للإهانة، وبعد أن تم حل الموقف تحول التجمع إلى مسيرة مؤيدة هتف المتجمعون فيها شعارات مؤيدة للأسد.
حادثتا درعا ودمشق، أعقبتهما تظاهرة صغيرة في سوق الحميدية بدمشق في 15 مارس (آذار) 2011، هاجمتها قوات الأمن واعتقلت عدداً من المحتجين، فدعا ناشطون لتظاهرات في الجمعة 18 مارس، تحت مسمى "جمعة الكرامة"، وفعلاً خرجت تظاهرات في دمشق ودرعا ودير الزور وحمص، ومدن أخرى، وهنا يختلف بعض السوريين على تاريخ انطلاق الثورة، فأهالي دمشق وآخرون يعدون 15 مارس 2011 عيد الثورة، يخالفهم في ذلك أهالي درعا وآخرون ويعدون 18 مارس هو يوم انطلاق الثورة، وطوال الأعوام الماضية كان السوريون يحيون ذكرى الثورة لأربعة أيام متواصلة 15 و16 و17 و18 مارس.
في ذلك اليوم سقط أول قتيل بالثورة السورية على يد عناصر النظام، ويدعى حسام عياش، ويقال إن أول شخص قتل برصاص قوات النظام هو محمود جوابرة، لكن الأكيد أن كلا الشخصين قتلا في اليوم نفسه بتظاهرات "جمعة الكرامة".
كان هذا اليوم هو الأسوأ بالنسبة لبشار الأسد الذي استلم الحكم قبل 11 عاماً من والده الذي ثبت أركان الحكم البوليسي بصورة لا تثير مخاوف اندلاع ثورة، لكن جرت الرياح بما لا تشتهي سفن "البعث"، فتحول الحراك بعد 18 مارس من عشوائي إلى منظم عبر ما كان يسمى "التنسيقيات المحلية" التي كانت تنظم التظاهرات السلمية كل جمعة، وتحولت لاحقاً إلى تظاهرات ليلية بصورة يومية، وعلى رغم إطلاق النار من قبل قوات النظام على المتظاهرين فإن الاحتجاجات حافظت على سلميتها لفترة طويلة.
الانشقاق الأول
بعد مرور أكثر من شهر على اندلاع الثورة، وتحديداً في 23 أبريل (نيسان) 2011، أصدر الضابط في الحرس الجمهوري وليد القشعمي تسجيلاً مصوراً يعلن فيه انشقاقه عن الجيش النظامي، بسبب الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين، فكان ذلك أول انشقاق رسمي عن النظام، توالت بعده عدة انشقاقات إلى أن أعلن عن تأسيس "الجيش السوري الحر"، وكان ذلك بتاريخ الثالث من أغسطس (آب) 2011، وهنا بدأ العمل المسلح للمعارضة بصورة رسمية، وتلقت دعماً عربياً ودولياً، وازدادت بصورة تدريجية الانشقاقات عن النظام، الذي اضطر لإدخال الميليشيات الموالية لإيران و"حزب الله" لتغطية الفراغ البشري الذي تركه المنشقون، فأرسلت إيران عدداً غير قليل من الحرس الثوري، وجزءاً من الميليشيات الموالية لها في العراق، تحت تسميات مختلفة منها "زينبيون وفاطميون وحسينيون، ولواء العباس وغيرهم".
بعد أشهر قليلة من تشكيل "الجيش الحر"، تمكن من السيطرة على أراض واسعة في سوريا بما في ذلك غوطة دمشق الشرقية، وباتت العاصمة مهددة، مما دفع النظام لزيادة استخدام العنف، فأسقط مئات البراميل المتفجرة على أحياء مكتظة بالسكان، بما في ذلك مدارس ومخابز ومساجد ومستشفيات، مما لاقى إدانة عربية ودولية واسعة النطاق فقطعت غالب الدول العربية علاقاتها مع نظام الأسد، وسحبت سفراءها وطردت سفراء النظام، وهو أيضاً النهج ذاته الذي اتبعته دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
شهادة الأفران
حتى منتصف 2012، كان النظام يستخدم الرصاص والمدافع والبراميل المتفجرة التي تلقى من خلال الطائرات المروحية، لكن في يوليو (تموز) 2012، بدأ رسمياً باستخدام الطيران الحربي لقصف المدن الخارجة عن سيطرته، ووثقت المنظمات الحقوقية استخدام القنابل العنقودية والفوسفورية وعدد من الأسلحة المحرمة دولياً، أما الميليشيات المدعومة من إيران، فكانت مبنية على أساس طائفي لذلك أرسلها النظام إلى المناطق ذات الغالبية السنية، فنفذت عدة مجازر باستخدام السكاكين بعدد من المدن، منها مجزرة الحولة بريف حمص التي حصلت في 25 مايو (أيار) 2012، وقتل فيها 108 أشخاص، بينهم 34 امرأة و49 طفلاً، والباقي رجال، ومجزرة الجورة بمدينة دير الزور التي حصلت الثلاثاء 25 سبتمبر (أيلول) 2012، نفذتها الفرقة الرابعة بالاشتراك مع الميليشيات الإيرانية، وقتل خلالها ما يزيد على 500 شخص، قاد المجزرة العميد عصام زهر الدين الذي قتل أيضاً في دير الزور نهاية 2017، غالب ضحايا مجزرة الجورة قتلوا ذبحاً بالسكاكين أو حرقاً في فرن حي الجورة.
التنظيمات الراديكالية.. "طعنة في الظهر"
الثورة السورية اندلعت في البداية على أيدي شبان سوريين و"الجيش الحر" الذي تشكل لاحقاً كان تكوينه الأساس من عناصر الجيش النظامي، لذلك لم يكن في القضية أيديولوجيا، كان الأمر مشروعاً وطنياً بامتياز، لكن رد النظام بالعنف، ورفضه إجراء حوار سياسي وانتقال سلمي للسلطة خلق فوضى عارمة في سوريا، وانفلت الوضع الأمني أكثر من المتوقع بكثير، فانتقلت إلى سوريا تنظيمات راديكالية متشددة، منها تنظيم "حراس الدين" و"جبهة النصرة" وغيرهما، لكن التنظيم الذي شكل الخطر الأكبر على سوريا والمنطقة برمتها كان تنظيم "داعش" وهو عبارة عن تنظيم عابر للحدود، تمركز بصورة أساسية في العراق ثم انتقل إلى سوريا، وأزال الحدود السورية العراقية، بما في ذلك الحواجز الأسمنتية، وسيطر على جغرافيا واسعة بما في ذلك مدينتا الرقة ودير الزور ووصل إلى مدينة تدمر الأثرية، وحطم كثيراً من التحف الأثرية.
جزء كبير من المناطق التي سيطر عليها تنظيم "داعش" كانت سابقاً تحت سيطرة "الجيش السوري الحر"، إذ دارت معارك على مدى أعوام بين "داعش" و"الجيش الحر"، وهو ما اعتبرته المعارضة السورية المسلحة "طعنة في الظهر"، إذ إن قتال "داعش" ضد المعارضة كان أشد من قتاله ضد النظام، وكان "داعش" يوجه رسائل لـ"الجيش الحر" يقول فيها "أيها المرتدون خلوا بيننا وبين الكفار"، فالتنظيم كان يصنف المعارضة السورية ضمن قائمة "المرتدين"، بينما يصنف جيش النظام في فئة "الكفار".
التحالف الدولي ونهاية "داعش"
في الـ10 من سبتمبر (أيلول) 2014، أعلن الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما، تشكيل التحالف الدولي ضد "داعش"، وهو تحالف عسكري عربي ودولي، هدفه الوحيد القضاء على التنظيم، وفعلاً على مدار خمسة أعوام تمكن التحالف من إلحاق الهزيمة بالتنظيم حتى أعلن ذلك رسمياً على لسان الرئيس الأميركي دونالد ترمب في فترة رئاسته الأولى، وتحديداً في 23 مارس 2019، إذ أعلن ترمب هزيمة تنظيم "داعش" بعد دخول قوات التحالف الدولي إلى آخر معاقله الرسمية في بلدة الباغوز قرب الحدود السورية العراقية في ريف دير الزور الشرقي، وبهذا الإعلان انتهى تنظيم "داعش" رسمياً، لكن خلاياه النائمة التي تشن هجمات بين الحين والآخر لا تزال حتى اليوم موجودة وتتمركز في البادية السورية بين تدمر ودير الزور، وقرب منطقة أثرية بين الرقة وحماة.
الكيماوي.. استنشاق الموت
في شهادته على تلك الليلة، يقول الشاب السوري سليم الأحمد، في حديث خاص إلى "اندبندنت عربية"، إنه كان "بعد منتصف ليلة 21 أغسطس 2013، في بلدة زملكا بالغوطة الشرقية، فسمعنا أصوات قصف مرعبة، تلا ذلك لحظات هدوء، لكن لا ندري ماذا جرى، كنت في الطابق الثالث، فبدأت أسمع أصوات صراخ، وسمعت بأن هناك قصفاً بأسلحة كيماوية، ارتديت على الفور كمامة وذهبت لمساعدة الناس، رأيت أطفالاً يحتضرون أمامي، أحد الأطفال عمره أربع سنوات كان يبكي ووجه ينتفخ شيئاً فشيئاً، ثم خرج الزبد من فمه ومات أمام عيني، كنا في النقطة الطبية نحاول تقديم المساعدة، لكن حتى كوادر بعض النقطة تعرضت للإصابة، كان الشخص يأتي إلينا مصاباً، ثم يموت أمام أعيننا".
ويضيف الأحمد وهو يبكي، "لم أر قط من قبل منظراً كهذا، ولا أعتقد أني سأراه، وأرجو أن أموت قبل رؤيته، لم يكن الوقت يسمح لنا بتكفين الجثث الملقاة فوق بعضها، لم يكن الهواء المسموم يفرق بين طفل أو امرأة أو مسلح، أكوام بشرية كاملة قتلت، هل سمعت من قبل بالهواء المسموم؟ كان الهواء مسموماً".
مع مرور الساعات ارتفع عداد الموت بمجزرة الكيماوي في غوطة دمشق الشرقية، ومع بزوغ الفجر كان هناك نحو 1400 شخص قد قتلوا، مما لاقى إدانة دولية واسعة النطاق، لكن النظام السوري قال، إن الهجوم نفذته المعارضة، بل وقالت بعض وسائل إعلام النظام، إنه "تمثيلية مفبركة"، لكن جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي، واستناداً إلى الأدلة الملموسة أكدا مسؤولية نظام الأسد عن الجريمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد أيام قليلة من مجزرة الكيماوي ناقشت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا تدخلاً عسكرياً ضد النظام بسبب استخدامه الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، وفي السادس من سبتمبر 2013، وافق مجلس الشيوخ الأميركي على إجازة استخدام القوة رداً على مجزرة الغوطة، لكن بعد أيام تراجعت إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عن ضرب الأسد، وذلك بناء على تفاهمات مع روسيا، تقتضي بانضمام سوريا إلى منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، وتدمير المخزون السوري من الأسلحة الكيماوية بالكامل، لكن هذا لم يحصل، وتعرضت مناطق سيطرة المعارضة السورية لضربات عدة بالأسلحة الكيماوية، أبرزها هجوم مدينة خان شيخون بريف إدلب، في الرابع من أبريل 2017، نفذت الحكومة السورية هجوماً بغاز السارين السام، مما أدى إلى مقتل 100 شخص، وإصابة نحو 400 آخرين خلال ساعات.
فيما قالت وسائل إعلام إيرانية معارضة، إن الحرس الثوري الإيراني شارك في هذا الهجوم، بعد ذلك نفذت القوات الأميركية هجوماً بـ59 صاروخاً من طراز "توماهوك" استهدفت مطار الشعيرات بريف حمص الذي انطلق منه الهجوم الكيماوي، وبعد أيام قليلة ظهر الرئيس الأميركي حينها دونالد ترمب معلقاً على الموضوع، فقال "بشار الأسد حيوان"، وتحدث ترمب لاحقاً عن أنه أراد اغتيال بشار الأسد بعد المجزرة إلا أن وزير الدفاع الأميركي حينها جيمس ماتيس عارض هذه الخطوة.
روسيا تقلب الموازين
في 30 سبتمبر 2015، تدخلت روسيا عسكرياً لمصلحة النظام السوري، فنفذت أولى غاراتها بريف حمص الشمالي، وقبل دخول روسيا كان نظام الأسد على وشك السقوط، بعد تقدم كبير لفصائل المعارضة، وإلحاقها هزائم كبيرة بقوات النظام والميليشيات الإيرانية، فيما تحدثت تقارير أن قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، زار موسكو والتقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأقنعه بالتدخل عسكرياً وإلا فإن الأسد سيسقط خلال أسابيع.
التدخل الروسي قلب الموازين كلياً، فشنت روسيا غارات جوية مكثفة على مختلف المناطق التي تقع تحت سيطرة المعارضة السورية، فأسهمت بهزيمة المعارضة في غوطة دمشق، وفرضت عليها تسوية في درعا، وأخرجتها من حمص، وأجرت عمليات تهجير جماعية للمعارضين الرافضين للتسوية من عدد من المدن السورية باتجاه الشمال في إدلب وريف حلب وما حولها، في ما يسمى بين السوريين "الباصات الخضراء"، إذ يتم نقل الرافضين للتسوية بباصات خضراء اللون، وكانت هذه الباصات مجبرة على المرور في القرى الموالية للنظام، إظهاراً لـ"الانتصار".
سقوط حلب
مع نهاية سنة 2016 كانت مدينة حلب منقسمة بين سيطرة النظام وسيطرة فصائل المعارضة، ففرض النظام حصاراً خانقاً على الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة، وكان الطيران الروسي يشن غارات على مدار الساعة، مما تسبب في مقتل وإصابة المئات، وبعد محادثات روسية- تركية اتفق على فتح "ممر آمن"، خرجت منه قوات المعارضة والرافضون للتسوية بالباصات الخضراء إلى ريف حلب وإدلب، وسيطر النظام على كامل مدينة حلب، معلناً "الانتصار"، وهزيمة "الجماعات الإرهابية المسلحة"، وفق المصطلحات التي كان يستخدمها الإعلام الرسمي.
"قسد" شمال سوريا الأصفر
على الخريطة التفاعلية للسيطرة في الجغرافيا السورية، كان يشار إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام باللون الأحمر، والمناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة باللون الأخضر، والمناطق التي تسيطر عليها الجماعات ذات الطابع الكردي باللون الأصفر.
في 11 أكتوبر 2015، أُعلن عن تأسيس "قوات سوريا الديمقراطية" والمعروفة اختصاراً باسم "قسد"، وهي عبارة عن فصائل مسلحة معظمها كردية، سيطرت على مواقع واسع في شمال وشمال شرقي سوريا، وخصوصاً المناطق الغنية بالنفط والغاز، وتلقت رعاية أميركية مباشرة، وشاركت في معارك التحالف الدولي ضد "داعش"، وخاضت معارك ضد قوات المعارضة السورية والجيش التركي، وعلى رغم أنها تتلقى دعماً أميركياً فإن تركيا تصنفها على قائمة التنظيمات الإرهابية، وذلك لأن أنقرة تعد "قسد" الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني، وعلى رغم نفي "قسد" هذه التهمة فإن صور زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوغلان تنتشر بصورة واسعة في مناطق سيطرتها.
علاقة "قسد" بالنظام السوري لم تأخذ طابع الصدام ولا الصداقة، إنما بنيت على أساس تبادل المصالح، فسمحت للنظام بالإبقاء على مربع أمني في مناطق سيطرتها في مدينتي الحسكة والقامشلي، وتصدر لدمشق النفط والغاز في ظل ظروف اقتصادية يعانيها النظام بسبب العقوبات الدولية المفروضة عليه، في المقابل لم يشن النظام أي عملية عسكرية ضد "قسد"، ولم يقصف المدن التي تسيطر عليها.
مقتل قاسم سليماني
في الثالث من يناير (كانون الثاني) 2020، نفذت القوات الأميركية غارة جوية استهدفت كلاً من قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، والقيادي في "الحشد الشعبي" العراقي أبومهدي المهندس، فأدت الغارة إلى مقتلهما قرب مطار بغداد الدولي.
في اليوم التالي لمقتل سليماني انتشرت في المناطق السورية الخارجة عن سيطرة النظام ظاهرة توزيع الحلويات ابتهاجاً بمقتل سليماني، كونه يعد مهندس المشروع الإيراني في سوريا، وأسهم بصورة مباشرة في عديد من المجازر التي ارتكبت بحق السوريين، وكان أحد القادة الإيرانيين الذين أشرفوا على حصار مدينة حلب وتجويع سكانها، وكان مقتل قاسم سليماني واحدة من أكبر الضربات التي هددت المشروع الإيراني في سوريا.
درع الربيع
مع نهاية عام 2019، كانت غالب المناطق السورية تحت سيطرة النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، وبدأ يشعر بالنصر، لكن النصر لن يكتمل له من دون بسط السيطرة على باقي الأراضي السورية، لذلك أطلق عملية عسكرية للهجوم على الشمال السوري آخر معاقل المعارضة، فبدأ المعارك في ريف حماة الشمالي، وسيطر على أجزاء واسعة في ريف إدلب الجنوبي، فازداد اللجوء إلى تركيا، وتعرضت القوات التركية المنتشرة في ريف إدلب لهجمات عدة.
وفي أواخر فبراير (شباط) 2020، استهدف النظام قاعدة تركية مما أدى إلى مقتل نحو 33 جندياً، فأطلقت تركيا عملية عسكرية بالتحالف مع فصائل المعارضة أطلقت عليها اسم "درع الربيع"، تهدف إلى وقف تمدد النظام، وبعد أيام من معارك حقيقية خلفت مئات القتلى من الطرفين، توصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، لاتفاق يقضي بوقف إطلاق النار، كان ذلك في الخامس من مارس 2020، وتوقفت رسمياً المعارك منذ ذلك الحين، باستثناء الخروق المتكررة بين الحين والآخر، لكن من دون أن تتسبب في اندلاع معركة جديدة.
الجمود الطويل
بعد مارس 2020، تجمد الملف السوري بصورة كبيرة، وأزيح من أولوية السياسيين سواء على الصعيد العربي أو الدولي، لكن بعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023 التي نفذتها الفصائل الفلسطينية ضد إسرائيل، شنت الأخيرة حرباً مفتوحة على قطاع غزة، هذه الحرب تجاوزت غزة ووصلت إلى لبنان، ثم توسعت فاستهدفت إسرائيل عدداً كبيراً من قادة "الحرس الثوري" الإيراني في سوريا، بل حتى إنها قصفت مبنى يتبع للسفارة الإيرانية في دمشق.
الحرب الإسرائيلية في لبنان، والهجمات التي نفذتها ضد إيران في سوريا، أسهمت في إضعاف إيران بصورة غير مسبوقة، وسحب "حزب الله" غالب عناصره من سوريا للقتال في الجنوب اللبناني، وهو ما شكل ضعفاً كبيراً للنظام السوري.
بالتوازي، دخلت روسيا في حرب مع أوكرانيا منذ 24 فبراير 2022، هذه الحرب أثارت سخط الغرب، وأجبرت روسيا على سحب عتاد وعناصر من سوريا، بما في ذلك ميليشيات "فاغنر" الشهيرة، وهي أيضاً متهمة بارتكاب جرائم حرب في سوريا.
أرقام وإحصاءات
استمرت الثورة السورية 13 عاماً وثمانية أشهر و23 يوماً، قتل خلال هذه الفترة 617 ألفاً و910 أشخاص موثقين بالاسم، وهناك عشرات آلاف الضحايا الذين لم يتم توثيقهم حتى لحظة إعداد هذا التقرير، أما عدد اللاجئين السوريين خارج سوريا فتجاوز 6.2 مليون لاجئ، ويشكلون تقريباً ثلث سكان سوريا، وفي داخلها نزح أكثر من نصف الشعب السوري بصورة متكررة من مناطق خطرة إلى مناطق أقل خطراً، وفي المعتقلات توثق المنظمات الحقوقية اعتقال نحو 300 ألف شخص داخل السجون السورية، جزء كبير منهم قتل تحت التعذيب.
"ردع العدوان"... آخر المعارك
بعد منتصف عام 2024، أضحى المحور الإيراني في المنطقة في أضعف أحواله، وباتت روسيا قليلة الحضور في سوريا، فبدأت أصوات تخرج من الشمال السوري تتحدث عن ضرورة القيام بعمل عسكري لوقف الانتهاكات التي ينفذها النظام، إذ ينفذ بصورة شبه يومية قصفاً مدفعياً محدوداً يعكر حياة المهجرين، لكن يبدو أن هذه الدعوات كان يرافقها بصورة سرية التحضير لعمل أكبر من ذلك.
في صبيحة الأربعاء 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، أعلنت ما تسمى "إدارة العمليات العسكرية" بقيادة هيئة تحرير الشام وتضم فصائل أخرى، إطلاق عملية "ردع العدوان"، بقيادة أحمد الشرع.
خلال ساعات قليلة من إطلاق العملية، تمكنت الفصائل المهاجمة من السيطرة على عشرات القرى والبلدات في ريف حلب الغربي، وفي اليوم الثاني للعملية وصلت قوات "ردع العدوان" إلى أبواب مدينة حلب، ومع نهاية اليوم الثالث تمت السيطرة على كامل مدينة حلب، وطرد النظام والميليشيات الإيرانية من المدينة.
لم تتوقف قوات "ردع العدوان" عند حلب، فواصلت تقدمها نحو حماة، وبعد معارك استمرت ثلاثة أيام، دخلت المعارضة السورية إلى مدينة حماة للمرة الأولى في تاريخها، إذ لم يسبق للمعارضة أن سيطرت على كامل المدينة.
بعد السيطرة على حماة، باتت قوات جيش النظام السوري تنسحب وتهرب من المدن واحدة تلو الأخرى، كما غادر الآلاف من العناصر الموالية لإيران نحو العراق، فتقدمت القوات إلى مدينة حمص في السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024، تزامناً مع ذلك شنت فصائل معارضة أخرى عمليات عسكرية ضد النظام من الجنوب السوري، وفي مساء اليوم ذاته وصلت القوات المهاجمة إلى ريف دمشق وطوقت العاصمة.
وفي الساعات الأولى بعد منتصف ليلة السبت - الأحد دخلت قوات المعارضة السورية إلى مدينة دمشق للمرة الأولى في تاريخها، تزامناً مع ذلك هرب رئيس النظام بشار الأسد عبر طائرة إلى قاعدة حميميم العسكرية الروسية في الساحل السوري ومن ثم إلى موسكو.