إقليم كردستان العراق في دوامة التحديات
مساعي تهدئة توجت بزيارة قام بها مسعود بارزاني (يسار) إلى بغداد ولقائه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني (غيتي)
خاض إقليم كردستان العراق مرحلة أخرى من التحديات في دوامة أزماته المتداخلة، بين استمرار حالة التصدع المزمن على صعيد إدارة نظامه السياسي الفاقد استراتيجية موحدة تحمي خصوصية كيانه الفيدرالي ضمن أطر السلطة الاتحادية في بغداد، وانتهاج سياسة متوازنة كفيلة بمواكبة التحولات في محيطه الإقليمي.
وشكل عام 2024 اختباراً جديداً لقدرة الأكراد على إدارة الأزمات، بدءاً من التصدع الداخلي، ومروراً بعلاقته المتأرجحة مع بغداد حول الصلاحيات والموارد، وصولاً إلى العلاقة مع قطبي المعادلة الإقليمية المتمثلين بأنقرة وطهران، وعلى رغم محاولات القيادة الكردية لاحتواء الأزمات دبلوماسياً، فإن التحولات لا تزال تلقي بظلالها على مستقبل الإقليم في ظل مساع لتأطيره ضمن السياسات والقرارات المركزية الاتحادية.
وتلقى الأكراد مع أول أيام عام 2024 سلسلة من الصدمات المتشابكة، بدءاً من معاودة إيران قصف أهداف في أربيل في موازاة انتزاع بغداد مزيداً من صلاحيات الإقليم عبر قرارات قضائية اتحادية، وضعت الحكومة الكردية في النهاية أمام خيار يملي عليها فتح قنوات جديدة مع الإيرانيين للخروج من عنق الزجاجة، عبر ذهاب قيادات من الصف الأول إلى بغداد للقاء القيادات الشيعية الفاعلة، في محاولة للحد من آثار الطوق الاتحادي المتزايد، وتالياً الدخول في تفاهمات مباشرة في طهران، أثمرت في نهاية المطاف عن تخطي أزمة الانتخابات الكردية بعد تأجيلها أربع مرات، على وقع الخلافات بين الحزبين الحاكمين، وصولاً إلى إبداء بغداد المرونة في موضوع حل معضلة صادرات الإقليم النفطية.
في حال إخفاق ورقة المساومات فإن سيناريو حل البرلمان لن يكون مستبعداً وفق بعض المراقبين (برلمان إقليم كردستان)
في مرمى النار
الرسالة الإيرانية الدامية التي تلقتها أربيل ليلة منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي بدت فاتحة لأحداث مترابطة حاول خلالها الأكراد الموازنة بين الأزمات في دائرة معتركهم الداخلي ومع الحكومة الاتحادية، والتوتر المتشابك في منطقة الشرق الأوسط بعد اندلاع الحرب بين إسرائيل وحركة "حماس" الفلسطينية، ذلك أن الهجوم الإيراني، وهو الثاني من نوعه، جاء في موازاة عمليات قصف كانت تشنها فصائل شيعية بواسطة الطائرات المسيرة على أهداف أميركية ومواقع نفطية في الإقليم ضمن ما سمي "جبهة الإسناد" لحركة "حماس"، وقد استهدف أحد الصواريخ منزلاً لتاجر معروف مقرب من عائلة زعيم الحزب "الديمقراطي" الحاكم مسعود بارزاني، أودى بحياته وطفلته، وكان تبرير طهران حينها بأنها استهدفت مقراً "للموساد الإسرائيلي"، وكذلك "الجماعات الإرهابية" في إشارة إلى مقار القوى الكردية الإيرانية المعارضة.
وبعد الصدمة وجد حزب بارزاني نفسه أمام طوق إيراني يهدف إلى إخضاعه بما يتوافق مع استراتيجية نفوذ طهران الفاعلة في الساحة العراقية عبر القوى الشيعية الحاكمة، وفي الإقليم الكردي من خلال شريكه في الحكم حزب "الاتحاد الوطني الكردستاني" بزعامة بافل طالباني، بخاصة عندما صدرت قرارات قضائية اتحادية ملزمة لمصلحة طعون عدة تقدم بها أكراد بينهم مسؤولون في حزب طالباني، نصت على اتباع نظام جديد للانتخابات، وألزمت توطين مرتبات موظفي الإقليم لدى المصارف الاتحادية، مع وجوب تحويل إيرادات الإقليم إلى الخزانة الاتحادية.
مبادرة لفك الطوق
وكان الأشد وقعاً في قرار إلغاء مقاعد الأقليات في برلمان كردستان البالغة 11 مقعداً، ما دفع الحزب، الذي كان يحوز على الغالبية النيابية بفضل هذه المقاعد، إلى الإعلان عن مقاطعته الانتخابات واصفاً القرار بالسياسي، ولإدراكه بأخطار تبعات الخطوة على الشرعية وصعوبة الدخول في انتخابات رأى أنها "معدة سلفاً"، سارع رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني إلى إيجاد مخرج عبر بوابة القوى الشيعية في بغداد، قبل التوجه نحو طهران في أوائل مايو (أيار) للقاء كبار المسؤولين هناك في مقدمهم المرشد علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي الذي لقي حتفه في ما بعد في حادثة سقوط طائرته، وقد شارك نيجيرفان حينها في مراسيم التشييع.
وترتب على خطوة نيجيرفان تراجع حزبه عن موقف المقاطعة إثر إصدار المحكمة الاتحادية قراراً قضى بتأجيل الانتخابات بناءً على دعوى رفعها رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني، تزامناً مع قرار آخر صدر عن الهيئة القضائية للانتخابات ليعيد خمسة مقاعد إلى الأقليات، في مسعى إلى إشراك "الديمقراطي"، وتلا ذلك إجراء الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان زيارة إلى العراق، شملت أربيل والسليمانية حيث منطقتا نفوذ الحزبين الكرديين، وهي الزيارة الأولى التي يقوم بها رئيس إيراني للإقليم الكردي.
وفي ضوء ما سبق فإن الإقليم واقعاً انتقل من حالة كيان فيدرالي شبه مستقل إلى إقليم محكوم مركزياً وفق الدستور الاتحادي، وكان للأميركيين موقف داعم بهذه الاتجاه في أن "يكون كياناً قوياً ضمن عراق فيدرالي مستقر"، والحال فإن الاحتفاظ بهذا النسق سيكون رهن مستقبل الخلاف والانقسام داخل البيت الكردي من دون التفريط بمزيد من الصلاحيات، بخاصة أن قوى متنفذة في بغداد تضغط باتجاه إعادة هيكلة مؤسسات الإقليم العسكرية والأمنية ودائرة علاقاته الخارجية وغير ذلك، لتأطيرها تحت السلطة الاتحادية.
شرارة الخلاف
ويعود تدهور العلاقة بين أربيل وطهران إلى فترة ما بعد الانتخابات الاتحادية المبكرة التي جرت في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2021، عندما أدى دخول حزب بارزاني بمعية رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي في تحالف مع رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر إلى تقسيم الصف الشيعي، ويفسر سياسيون الهجمات التي شنها الإيرانيون، في ما بعد في الإقليم، إحداها لم تكن بعيدة من مقر إقامة بارزاني، بأنها كانت رسائل تحذيرية لـ"الديمقراطي"، قبل أن يهدأ التوتر بعد انضمام الحزبين الكرديين إلى اتفاق بين بغداد وطهران يقضي بتجريد القوى الكردية الإيرانية المعارضة والمقيمة في الإقليم من السلاح وإبعادها عن الحدود.
وواقعاً تجد القيادات الكردية نفسها منقسمة بين الإيرانيين والأتراك الذين توغلوا في الإقليم بعمق يصل إلى نحو 40 كيلومتراً، وأنشأوا عشرات القواعد والثكنات العسكرية ضمن عملياتهم العسكرية ضد مسلحي حزب العمال الكردستاني، ويبدو أن إعادة حزب بارزاني التطبيع مع الإيرانيين جاء لمسايرة نفوذهم الفاعل على الساحة العراقية، أو ما يمكن وصفه باتباع سياسة متوازنة في العلاقة مع الدولتين، وقد ظهر ذلك من خلال تصريحات لبارزاني أقر خلالها أخيراً بأن "أي علاقة سيئة مع إيران وتركيا لن تكون من مصلحة الكرد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صراع ما بعد الانتخابات
وفي ضوء مساعي تهدئة توجت بزيارة قام بها مسعود بارزاني إلى بغداد ولقائه مختلف القيادات السياسية، تمخضت التفاهمات بين حكومتي الطرفين إلى إجراء الانتخابات الكردية في الـ20 من أكتوبر الماضي وفق نظام جديد لإنهاء حالة الفراغ القانوني والتشريعي، لتشكل نقطة تحول في المشهد السياسي للإقليم، إذ على رغم تصدر حزب بارزاني النتائج بـ39 مقعداً من مجموع مقاعد البرلمان البالغة 100 مقعد، فإنه أخفق، هذه المرة، في الاحتفاظ بالغالبية، مقابل زيادة طفيفة في مقاعد نظيره حزب طالباني الذي فاز بـ23 مقعداً، في وقت حقق فيه حراك "الجيل الجديد" المعارض بزعامة شاسوار عبدالواحد مفاجأة عندما ضاعف مقاعده من ثمانية إلى 15 مقعداً، وبالنظر إلى هذا التحول فإن مسار تشكيل الحكومة الجديدة سيكون مفتوحاً على اتجاهات عدة محاطة بتحديات صعبة في ظل تشتت المقاعد واشتراطات لتحقيق توافق بين القوى الفائزة.
وتكمن العقبة الرئيسة أمام تشكيل حكومة جديدة في تمسك الاتحاديين الذين يرفعون شعار "تصحيح صيغة الحكم" بانتزاع أحد المنصبين المهمين من هيمنة الديمقراطيين، وهما منصبا رئيس الحكومة أو رئيس الإقليم، ذلك أن حزب بارزاني يجد صعوبة في ضم أطراف بات معظمهما ينتهج الخط المعارض ويستحوذ على ثلث مقاعد البرلمان، وقد حسمت هذه القوى قرارها بعدم الانضمام إلى أي ائتلاف حكومي، باستثناء حزب عبدالواحد الذي عرض مطالب وشروطاً تبدو مستحيلة، وهي إما منحه منصب رئيس الحكومة أو كل الوزارات.
أما حزب بارزاني فإنه يسعى إلى التمسك بمناصبه، ويشترط اتخاذ "الاستحقاق الانتخابي" معياراً لتشكيل الحكومة مع أهمية أن تكون قراراتها فاعلة وملزمة على مناطق الإقليم كافة، وأن تكون قوات البيشمركة تحت قيادة موحدة، في إشارة منه إلى عدم التزام مناطق نفوذ حزب الاتحاد القرارات الحكومية، ووفق هذا المشهد فإن الخلافات بين الحزبين الرئيسين قد تعرقل انعقاد جلسات البرلمان، في ظل امتلاك الاتحاد ورقة "الثلث المعطل" التي تمكنه من تعطيل أية محاولة لتشكيل الحكومة لا تلبي طموحاته.
وفي حال إخفاق ورقة المساومات فإن سيناريو حل البرلمان لن يكون مستبعداً وفق بعض المراقبين، مما يعني التحضير لإجراء انتخابات مبكرة قد تتجاوز موعد الانتخابات الاتحادية المقررة في الخريف المقبل، وربما يتوافق هذا الخيار جزئياً لدى أحد الحزبين مع فكرة عبور الانتخابات الاتحادية قبل تشكيل حكومة الإقليم بغية التساوم على المناصب بين الجانبين الاتحادي مع الإقليم.
النفط مفتاح الحلول
وتحد آخر اقترب الإقليم من تخطيه، والكامن في حل عقدة توقف صادراته النفطية بما فيها نفط محافظة كركوك إلى تركيا منذ مارس (آذار) العام الماضي، إثر قرار صدر عن هيئة تحكيم في غرفة التجارة الدولية في باريس بناءً على دعوى كان رفعها العراق ضد أنقرة لسماحها بتدفق النفط منذ عام 2013 بمعزل عن حكومة بغداد، إذ بعد شد وجذب في حيثيات المطالب والشروط وما رافقها من مفاوضات عسيرة لإعادة استئناف التصدير، وافق مجلس الوزراء الاتحادي أخيراً على تعديل المادة 12 الخاصة بإنتاج وتسليم نفط الإقليم إلى شركة تسويق النفط الاتحادية "سومو" في الموازنة الاتحادية، لتُرفع كلفة إنتاج ونقل كل برميل من سبعة دولارات إلى 16 دولاراً للشركات الأجنبية العاملة في الإقليم، على أن تعين الوزارة مستشاراً فنياً دولياً لحساب الكلف التقديرية لكل حقل خلال مهلة شهرين، وفي حال فشل التوصل إلى اتفاق خلال المهلة فإن مجلس الوزراء سيكلف جهة استشارية دولية من دون الرجوع إلى أربيل.
ومن شأن التزام الطرفين للمضي بالاتفاق أن يتخطيا واحداً من أشد الخلافات تعقيداً، ويفتح الباب لحل باقي الملفات المعلقة بين الحكومتين، ومنها الذهاب لتشريع قانون النفط والغاز المثير للجدل ليكون أساساً ينظم حقوق ومسؤوليات كل طرف بعيداً من متاهة التضاد في تفسير المواد الدستورية، كما يأمل الإقليم أن يحد من أزمته المالية المستمرة منذ عام 2014، وينهي أزمة مرتبات موظفيه، وتالياً تعزيز النمو الاقتصادي لجذب الاستثمارات الأجنبية.
وما زال الإقليم يقف على أعتاب مرحلة جديدة من التحديات، في ظل نظام سياسي منقسم على مفترق طرق، ومؤطر بقيود متزايدة من السلطة الاتحادية في بغداد، ومع ذلك، يمكن رؤية بعض بوادر الأمل في خطوات التهدئة الجارية تحت ضغوط غربية بقيادة واشنطن.