هل ستتخلى أميركا عن حليفتها "قسد" بعد تغير الخريطة في سوريا؟
عنصر من قوات سوريا الديمقراطية مع جنود أميركيين في محافظة الحسكة (أ ف ب)
مع إعلان أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) قائد العمليات العسكرية في سوريا وزعيم "هيئة تحرير الشام" عزمه على حل جميع الفصائل العسكرية في سوريا، واعتراف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بأن الولايات المتحدة أجرت اتصالات مباشرة مع الهيئة، وتصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بضرورة التخلص من وحدات "حماية الشعب الكردية" التي تعد عصب "قوات سوريا الديمقراطية" "قسد"، يبدو مستقبل "قسد" على المحك، فما الذي يمكن لإدارة الرئيس جو بايدن أن تفعله وما توجهات إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب إزاء "قسد"؟ وهل ترتبط علاقة واشنطن مع "قسد" بوجود القوات الأميركية في سوريا من أجل مواجهة "داعش"؟ أم ستترك الولايات المتحدة مواجهة "داعش" للسلطة الجديدة في دمشق؟
"قسد" في أزمة
في وقت تسعى فيه الحكومة الموقتة التي تسيطر عليها "هيئة تحرير الشام" إلى إعادة تنظيم الجيش العربي السوري ووزارة الدفاع لدعم المصالحة مع عناصر النظام السابق، مع اتخاذ خطوات نحو حل جميع الفصائل المسلحة في سوريا، تواجه "قوات سوريا الديمقراطية" المعروفة اختصاراً باسم "قسد" تحديات جديدة تضاعف من أزمتها الحالية التي تكشفت بعد انهيار نظام الرئيس بشار الأسد.
مخيم الهول (أ ف ب)
فبينما يحاول قائد "قسد" مظلوم عبدي الحفاظ على القاعدة الكردية لقواته وتوحيدها في شمال شرقي سوريا لمعالجة التهديدات التي تواجه المجتمع الكردي، بدأت المجتمعات العربية في دير الزور والرقة في الانشقاق عن "قسد" والدعوة إلى إنهاء حكمها في المناطق العربية، مما يعني أن التحالف الكردي - العربي الهش الذي ساعدت الولايات المتحدة في تأسيسه قبل سنوات يوشك على التفكك إن لم يكن عقده قد انفرط بالفعل.
التهديد التركي
لكن أخطر ما يهدد "قسد" هو التهديد التركي المتكرر بتدمير "قوات سوريا الديمقراطية"، إذ كرر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان تعهدات بلاده بالقضاء على "قوات سوريا الديمقراطية" و"حزب العمال الكردستاني" و"وحدات حماية الشعب" التي تعدها أنقرة شيئاً واحداً بتسميات مختلفة وتصنفها كإرهابية، مما يعني أن أي وقف لإطلاق النار بين "قسد" والجماعات المدعومة من تركيا وعلى رأسها الجيش الوطني السوري سيكون موقتاً على رغم إعلان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في زيارته الأخيرة لأنقرة أن هناك توافقاً على وقف القتال ضد "قسد".
ومع ذلك، من غير الواضح متى ستستأنف العمليات الواسعة النطاق ضد "قسد"، وهو ما تراقبه واشنطن بقلق كبير، في ظل انتشار أنباء عن إعدام المقاتلين المدعومين من تركيا مقاتلين مصابين من "قوات سوريا الديمقراطية" في المستشفيات في شمال سوريا، ونهبهم مناطق مدنية في منبج، مما يهدد بإشعال فتيل العنف بدوافع عرقية وإزعاج الاستقرار النسبي الحالي في سوريا، بخاصة إذا دخل المقاتلون المدعومون من تركيا المناطق الكردية وبدأوا في قتل المدنيين الأكراد بحسب ما أشار إليه معهد دراسة الحرب الأميركي في واشنطن.
تأثير الانسحاب الروسي
وما يزيد من أزمة "قسد" احتمال أن يؤدي انسحاب روسيا الأخير من قواعدها في شمال سوريا وخسارتها نفوذها في سوريا إلى تعريض "قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة من الولايات المتحدة لاستمرار الهجمات التركية في شمال سوريا، إذ انسحبت روسيا من سلسلة من القواعد في منطقتي منبج وكوباني في شمال سوريا وسط الهجوم المستمر الذي تدعمه تركيا ضد قوات "قسد".
ومن المرجح بصورة كبيرة أن تنسحب روسيا من آخر قاعدة كبيرة لها في القامشلي بشمال سوريا، لأن تركيا والمجموعات التابعة لها على الأرض بما في ذلك "هيئة تحرير الشام" والجيش الوطني السوري لا يبدو أنها مستعدة للسماح لروسيا بالبقاء هناك، فوفقاً لبعض التقارير وافقت جهات غير محددة على السماح لروسيا بالبقاء في طرطوس وحميميم لكنها لم تذكر القامشلي، كما عرض وزير الدفاع التركي دعم توطيد استمرار روسيا في حميميم وطرطوس، مما يشير إلى أن تركيا لن تدعم وجود قواعد روسية أخرى في أنحاء شمال سوريا، مما مكن موسكو في السابق من معارضة ومنع الهجمات المدعومة من تركيا في تل رفعت ومنبج، وهما منطقتان سيطرت عليهما القوات المدعومة من تركيا في الأيام الأخيرة.
وتشير خسارة وجود روسيا المادي ونفوذها في شمال سوريا إلى أن الحاجز الأساس الذي كان يمنع في الماضي أي عملية تركية أو مدعومة من الأتراك للاستيلاء على مزيد من المناطق التي تسيطر عليها "قسد"، أو محاولة القوات التركية مباشرة تدمير "قوات سوريا الديمقراطية" بصورة مباشرة، لم يعد موجوداً.
مخاوف أميركية
وبالنسبة إلى الأميركيين فإن قتال "قسد" ضد تركيا ووكلائها سيجعلها غير قادرة على دعم أهداف السياسة الأميركية في سوريا، إذ تنظر واشنطن إلى "قسد" باعتبارها الشريك الرئيس للولايات المتحدة في سوريا ضد "داعش"، وأنها وحدها قادرة على تنفيذ عمليات فعالة ضده في المناطق التي تسيطر عليها، نظراً إلى أن "هيئة تحرير الشام" والجماعات الأخرى منشغلة حالياً بتأمين المناطق الخاضعة لسيطرتها حديثاً.
كما تسيطر "قوات سوريا الديمقراطية" على مخيم "الهول" للنازحين وشبكة من السجون التي تضم الآلاف من أنصار "داعش" ومقاتليها، وتخشى الولايات المتحدة أن يؤدي اندلاع القتال العنيف بين تركيا وحلفائها ضد "قسد"، بما في ذلك التهديد بالقتل بدوافع عرقية، إلى دفع "قسد" إلى حشد قواتها ضد الجماعات المدعومة من تركيا، ولن تستطيع في هذا الوضع تنفيذ عمليات هجومية ضد "داعش"، كما أنه من غير الواضح ما إذا كانت ستكون قادرة على تأمين المرافق الرئيسة إذا واجهت تهديداً خطراً من القوات المدعومة من تركيا للمناطق المدنية الكردية.
تعقيدات ومصالح
وعلى عكس "هيئة تحرير الشام" التي يبدو أنها تحاول تجنب الصراع مع "قوات سوريا الديمقراطية"، يظل الجيش الوطني السوري معادياً للوجود العسكري الكردي، لكن في حين يبدو للبعض أن الفوضى وتعقيد الموقف قد يدفعان البعض إلى الاعتقاد أن الولايات المتحدة يجب أن تظل غير منخرطة، إلا أن إدارة جو بايدن الحالية تعتقد أن القيام بذلك سيكون خطأً مكلفاً، على اعتبار أن مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة ستخدم بصورة فضلى إذا اتخذت واشنطن دوراً استباقياً في مساعدة قوات المعارضة السورية المنقسمة على الانتقال إلى حكم سلمي وشامل، وهو ما تأكد خلال زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى المنطقة وتأكيده عقب لقاء عدد من وزراء الخارجية العرب ووزير الخارجية التركي أن هناك اتفاقاً على مطالب واشنطن بحكومة انتقالية شاملة تمثل كل التيارات والطوائف والأعراق في سوريا، ولا تسمح بجعل سوريا موطناً للإرهاب أو تهدد جيرانها، وأن تُدمر الأسلحة الكيماوية للنظام السابق إن عثر عليها.
وربما ترى واشنطن أنه ينبغي على جماعات المعارضة المتعددة في سوريا، وبخاصة "هيئة تحرير الشام"، والجيش الوطني السوري، و"قوات سوريا الديمقراطية"، أن تتحد لتشكيل حكومة سورية جديدة، وهو ما أشار إليه مظلوم عبدي قائد "قسد" وغيره من كبار المسؤولين في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي تسيطر عليها "قسد" عن استعدادهم للتفاوض على دور في الحكومة السورية، ومن دون ذلك، سيكون من السهل اندلاع جولة جديدة من القتال، وبخاصة بين الجيش الوطني السوري و"قوات سوريا الديمقراطية".
وفي ضوء التصريحات العلنية لقادة "هيئة تحرير الشام" في شأن الإدماج، تتجه الولايات المتحدة إلى جعل شطب الهيئة من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية مشروطاً بتلبيتها هذه الشروط والتزامها، وإذا لم تفعل ذلك فيمكن إعادة إدراج الهيئة مرة أخرى في قائمة المنظمات الإرهابية وربما يتم استهدافها بالقوة، بموجب تفويض الكونغرس لعام 2001 لاستخدام القوة العسكرية الأميركية.
هل تقبل الهيئة "قسد"؟
تركت التطورات المستمرة التي تحرزها "هيئة تحرير الشام" حدوداً طويلة تتقاسمها مع قوات "قسد"، ونظراً إلى هدف الجولاني المتمثل في إقامة سوريا موحدة في ظل تفسير الهيئة للشريعة الإسلامية، فمن غير المرجح أن تقبل "هيئة تحرير الشام" استمرار وجود "قوات سوريا الديمقراطية" العلمانية، في الأقل ليس ككيان مساو يتمتع بالحكم الذاتي بالكامل.
حتى الآن أبدت الهيئة ضبط النفس تجاه الأكراد، مؤكدة أنهم جزء لا يتجزأ من المجتمع السوري وفتحت الباب أمام التوصل إلى تسوية تفاوضية، ومع ذلك، يتوقع الباحث المتخصص في مكافحة الإرهاب بمعهد "واشنطن" لسياسة الشرق الأدنى إيدو ليفي صعوبة أن توقع الهيئة اتفاقاً لا يحل "قوات سوريا الديمقراطية" أو ينزلها إلى وضع تابع، وأنه في غياب التسوية، قد ينفجر الصراع المسلح، بخاصة أن "هيئة تحرير الشام" قد تشعر بضغوط إضافية للتوسع في الأراضي التي تسيطر عليها "قسد" إذا استمر الجيش الوطني السوري في اكتساب الأرض، وهو ما قد يؤدي إلى إشعال شرارة صراع على الأراضي في الشمال الشرقي للبلاد.
تحد عسكري
وفي هذا السيناريو قد تشكل "هيئة تحرير الشام" تحدياً عسكرياً خطراً لـ"قوات سوريا الديمقراطية"، بعدما استثمرت الهيئة بصورة كبيرة في تحسين قدراتها العسكرية على مدى السنوات القليلة الماضية، وأظهرت احترافاً متزايداً وتكتيكات مبتكرة أثناء هجومها ضد قوات الرئيس بشار الأسد، بما في ذلك الاستخدام الماهر لطائرات "الدرون" في القيادة والسيطرة والمراقبة والاستهداف والهجمات المضادة للدروع، وهو أمر لم يواجه الأكراد مثله منذ حرب 2014-2019 ضد "داعش"، ولولا تدخل الولايات المتحدة في كوباني قبل عقد من الزمان لكانت قوات "قسد" قد دمرت تماماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خطر "داعش"
ويبدو أن "قسد" تدرك جيداً هذا الخطر اليوم، إذ لاحظت أخيراً تهديد توسع "داعش" بعد سقوط نظام الأسد، وقبل أشهر من سقوط النظام، ولاحظت القيادة المركزية الأميركية زيادة ملحوظة في هجمات "داعش" وحذرت من أنها تحاول إعادة تشكيل نفسها، مما يهدد بعودة ممارساته للسيطرة جزئياً على بعض المناطق مثلما فعل في السابق من خلال مهاجمة القوات الموالية للنظام وابتزاز السكان المحليين، والآن بعد رحيل الأسد، يهدد "داعش" بالاستيلاء على السيطرة الكاملة في البادية. ويأمل إخراج مقاتليه وعائلاتهم من السجون ومعسكرات الاعتقال التي تخضع حالياً لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" في الشمال الشرقي، إذ أظهر هجومه في عام 2022 على سجن "الصناعة" في الحسكة أنه لا يزال بإمكانه تنفيذ عمليات كبيرة، مما يتطلب من التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة مساعدة قوات "قسد" في صد الهجوم، وبالنسبة إلى الولايات المتحدة فإن احتجاز 50 ألف فرد من المنتمين إلى "داعش" حالياً يجعل انهيار "قوات سوريا الديمقراطية" وفرار "داعش" من السجون بمثابة كارثة ضخمة.
ويحذر مدير برنامج سوريا في معهد الشرق الأوسط تشارلز ليستر من احتمال أن يحاول تنظيم "داعش" الذي مارس ذات يوم حكمه الدموي على مساحات من سوريا والعراق، الاستفادة من الوضع الحالي.
وتعتقد الولايات المتحدة أنه مع وجود حكومة شرعية سورية في مكانها، ستحتاج سوريا إلى دعم هائل، ينبغي على واشنطن أن توفره لإنهاء دورة التطرف التي ابتليت بها عديد من المناطق في سوريا، ومن خلال هذا الدعم والتعاون، يمكن وضع خريطة طريق للتعامل مع معتقلي تنظيم "داعش" المحتجزين في مرافق موقتة من قبل "قوات سوريا الديمقراطية" وتوفير الخدمات الاجتماعية والدعم للمقيمين في مخيمات للنازحين.
التداعيات السياسية
ونظراً إلى أن "قوات سوريا الديمقراطية" هي الشريك الوحيد الموثوق به والقادر على مكافحة الإرهاب في سوريا من وجهة النظر الأميركية، فستحتاج واشنطن إلى مساعدة "قسد" في وقف تقدم الجيش الوطني السوري، وردع "هيئة تحرير الشام"، وإبقاء عمل "داعش" محدوداً، وقد يكون ذلك من خلال فرض واشنطن عقوبات على شخصيات من الجيش الوطني السوري مثلما فعلت من قبل.
كما يمكن لإدارة بايدن أن توضح لتركيا أن مزيداً من هجمات الجيش الوطني السوري غير مقبولة وأن الولايات المتحدة ستوفر الدعم الجوي لـ"قوات سوريا الديمقراطية" ضدها، وقد يكون تمديد طلعات القاذفات الثقيلة إلى المنطقة من شأنه أن يشير إلى قوة عزيمة أميركا على هذا الأمر، ومن شأن الدعم الأميركي المتزايد أن يحقق فائدة جانبية حاسمة تتمثل في ضمان عدم إرهاق "قسد" وإهمال واجبها في تأمين مرافق احتجاز "داعش".
وربما يتعين على الإدارة الأميركية أن تراقب "هيئة تحرير الشام" التي قد تحاول الاستيلاء على ممتلكات "قوات سوريا الديمقراطية" إذا شعرت بالضعف، وهو السيناريو الذي من شأنه أن يعرض القتال ضد "داعش" للخطر.
كيف سيتصرف ترمب؟
بصرف النظر عن تعميق العلاقات مع إسرائيل، هناك مخاوف في المنطقة في شأن كيفية تعامل إدارة ترمب القادمة مع الشرق الأوسط، فقد كتب على منصة "تروث سوشيال" أن المعركة في سوريا لا تخصنا ولا ينبغي التدخل فيها، ومع ذلك يعتقد المسؤولون الأميركيون الحاليون أن الرئيس الجمهوري من غير المرجح أن يتخلى عن المواقع العسكرية الأميركية في سوريا، كما أراد أن يفعل خلال فترة ولايته الأولى.
وينبع اعتقادهم من حقيقة أن ترمب ينسب لنفسه الفضل في هزيمة "داعش" من خلال الانتهاء من تحرير الأراضي الشاسعة التي سيطروا عليها والتي بدأت أثناء إدارة باراك أوباما، ووفقاً لهؤلاء المسؤولين، فإن التهديد بالعودة المحتملة لـ"داعش" سيكون أكبر من أن يتحمله ترمب، وأن العراق، الذي وقع اتفاقاً مع الولايات المتحدة في سبتمبر (أيلول) ينسحب بموجبه التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد "داعش" العام المقبل، ويشير بالفعل إلى أن الظروف قد تجبر على تغيير هذا الجدول الزمني.