تحديات الحكم الانتقالي: بناء دولة لا نظام
رجل وطفلان يرسمون جدارية تصور العلم السوري في عصر الاستقلال بمدينة حمص القديمة (أ ف ب)
لا مهرب من تلاقي البدايات والنهايات، ففي خريف عام 2015 كانت بداية إنقاذ بشار الأسد ونظامه من السقوط خلال أسبوعين بعملية عسكرية روسية، وفي شتاء عام 2024 كانت نهاية الأسد في موسكو كلاجئ إنساني، وفي الحالين فشل في امتحان المسؤولية عبر الاتكال على الحماية العسكرية الروسية والإيرانية، والرهان على اللا تسوية لاستمرار التفرد بسلطة العنف والقمع.
ولا مجال مع أن حسابه عسير وثقيل والدعوات في البيت الأبيض والقصور الأوروبية والشارع السوري والعربي إلى محاسبته، لأن يسمح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأي إجراء حيال الأسد، ومن يقفون أمام الامتحان اليوم هم "قادة الثورة" الذين أسقطوا النظام وداعموهم الأتراك والأوروبيون والأميركيون الذين يرون بلسان الرئيس جو بايدن أن سقوط النظام فرصة تاريخية لسوريا، أما المادة الأساس في الامتحان فهي تشكيل الحكم الانتقالي على الطريق إلى الترتيب الدائم لمستقبل السوريين، وأما الخطر فهو التراخي في مواجهة "داعش" وعودة الصراعات الدموية بين الفصائل المسلحة المتعددة، ذلك أن سقوط النظام هو الجائزة الكبرى لكن الميزان هو ما بعد الجائزة، فمن السهل أن تستعد إدارة بايدن للعمل مع الفصائل في تأسيس المرحلة الانتقالية، إلا أنه من الصعب أن تضمن واشنطن وأنقرة والأمم المتحدة وأوروبا والعواصم العربية ما تفكر فيه الفصائل وما في حساباتها غير المعلنة.
والمسألة على أية حال ليست إقامة نظام آخر محل نظام ساقط ومرتكب، فالأنظمة التي رأينا نماذجها فتّاكة بالشعب، وهي تعود جميعاً لتقليد ما فعله ستالين الذي اختصر مشكلات الحكم وأي اعتراض ومجادلة بعبارة مشهورة، "لا رجل... لا مشكلة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما تحتاج إليه سوريا بعد عقود من التصحر السياسي هو عودة السياسة، والمهمة التاريخية هي بناء دولة لا نظام، دولة مؤسسات ودولة حق وقانون ودولة مواطنين في نظام ديمقراطي يحترم التداول في السلطة، ألم يقل أرسطو قبل أكثر من 2000 عام إن "الدولة هي جماعة مواطنين عاقلين أحرار لا جماعة مؤمنين"؟ وأليست كل بلايانا من الأنظمة الديكتاتورية العسكرية والأنظمة الأصولية الدينية؟ الكل يعرف أن ليس هناك وقت للتجارب، والأمثلة واضحة في الخيار بين نظام يجوّف الدولة ويطحن المواطن، وبين دولة على قياس شعبها واهتماماته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنموية، فليس الحكم الانتقالي تجربة جديدة بالنسبة إلى بلدان عدة كانت سبّاقة في الانتقال من كابوس الديكتاتورية إلى حلم الحرية، ولا سيما في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وأفريقيا.
والسؤال الآن هو ماذا عن الجيش الذي لم يقاتل وتولت إسرائيل تدمير أسلحته الإستراتيجية؟ وهل سيكون للمنتقين من عناصره دور خلال المرحلة الجديدة، ولا سيما أن سوريا الآن بلا جيش والفصائل المسلحة ليست جيشاً؟
أمامنا تجربة بول بريمر الجاهل في العراق حين حل الجيش وترك البلاد للفوضى وتفقيس الميليشيات، وإذا كان هناك من هو في حاجة ماسة إلى دولة فإن على رأس القائمة سوريا ولبنان، فسوريا التي لم تكن في صدد بناء دولة، لأن الإصرار على حكم الأقلية للغالبية يمنع مجرد المغامرة بفكرة الدولة، لا بل إن الواقع في سوريا كان حكم مجموعة صغيرة للأقلية والغالبية معاً وتوظيفها في خدمة حاكم توتاليتاري، فضلاً عن أعوام من ممارسات السلطة ومن الحرب أسهمت في التحريض الطائفي.
ولبنان الذي لا حياة له إن لم يبن دولة وطنية تعرّض للتلاعب بنسيجه الاجتماعي وإثارة النزاعات الطائفية والمذهبية، وهو دفع كثيراً خلال 30 عاماً من الحكم السوري القوي من وراء حكومات ورئاسات صورية ضعيفة، بل إن ضعاف النفوس فصّلوا، بطبائع الأمور، مداهنة الوصي السوري القوي للحصول على مناصب ومكاسب رخيصة، ولا أحد يعرف مدى الدمار النفسي الذي لحق بالشعبين السوري واللبناني تحت حكم ضيق قاسٍ يقال من باب التمويه إن رأس النظام كان يدير في وقت واحد نظامين: أحدهما توتاليتاري والآخر ديمقراطي مزيّف.
في مقالة عنوانها "انهيار القوة الأميركية" يقول آمي زيكارت إن "المعرفة قوة وأميركا تفقد المعرفة التي لها عنصران: الابتكار والقابلية لسبق الآخرين، لأن قوة الدول لم تعد بالجيوش واتساع الأرض، بل بالتعليم والتكنولوجيا"، والساعة دقت لبناء القوة على قدرة المجتمع والذكاء الاصطناعي، وليس على الضغط والقمع والتصحر والجهل.