أخطار الفرز والضم: الوحدة بعد التقسيم
تغيير الخريطة في سوريا يفرض تغيير الخرائط في دول الشرق الأوسط (أ ف ب)
ليس غريباً أن ترتفع أصوات تدعو إلى تقسيم سوريا، وسط الدعوات الرسمية العربية والدولية إلى التمسك بوحدتها وسلامة أراضيها. الغريب هو تجاهل ثلاثة أمور أساسية لدى دعاة التقسيم. أولها أن سوريا مقسمة أصلاً منذ عام 2011 إلى حصص تتحكم بكل منها قوة إقليمية أو دولية أو معاً. وثانيها أن التوجه الطبيعي بعد سقوط النظام هو الانتقال من التقسيم إلى التوحيد، وليس تكريس التقسيم بشكل رسمي أو بالقوة. والثالث أن خريطة سوريا ليست معزولة عن خريطة المنطقة، بالتالي فإن اللعب بها ليس عملية مغلقة على اللعب بالخرائط الأخرى، ولو كان اللاعبون محليين وإقليميين ودوليين.
وقد تعلمنا من درس لبنان ثم العراق، أن خرائط سايكس- بيكو لا تزال منذ أكثر من مئة عام عصية على نجاح المساعي القومية للتوحيد والمساعي الفئوية للتقسيم. فلا وحدة بين بلدين نجحت. ولا تقسيم تحقق. إذ هي متشابكة ومترابطة، بصرف النظر عن الروايات حول جهل السير مارك سايكس وفرنسوا جورج بيكو بالمنطقة والاعتباط في رسم حدود تضم مجموعات غير متجانسة لأسباب تتعلق بالخيارات الاستراتيجية البريطانية والفرنسية والتسابق بين البلدين المنتدبين على النفط وأمور أخرى.
وبكلام آخر، فإن تغيير الخريطة في سوريا يفرض تغيير الخرائط في لبنان والعراق وفلسطين وتركيا وإيران. شيء من الفرز، وشيء من الضم. فرز البلدان الضعيفة بما يأخذ منها. والضم إلى البلدان القوية التي تريد الحصول على ما تحلم به. من أحلام السلطنة العثمانية ولا سيما بالنسبة إلى ضم حلب والموصل إلى أحلام "ولاية الفقيه" حول ضم كل شيء عند "ظهور الإمام الغائب وتأليف حكومته" وحكم العالم. فضلاً عن أحلام "إسرائيل الكبرى" وبعضها في الجولان السوري وقمة جبل الشيخ ومساقط المياه والضفة الغربية وبالطبع غزة وحتى الجنوب اللبناني حتى نهر الأولي.
ولا أحد يجهل كيف يكون المشهد في المنطقة إذا تحققت بالفعل معادلة الفرز والضم. وهو بالتأكيد ليس مشهد سلام وتنمية وتعاون بين البلدان التي تخسر من أرضها والبلدان التي تضم إليها أرضاً ليست لها. إنه مشهد صراعات وحروب. لا فقط مئة عام أخرى من الصراع العسكري مع إسرائيل لتحرير الأرض بل أيضاً استعادة لقرون من الصراع مع السلطنة العثمانية والإمبراطورية الفارسية، والصراع بينهما على ما هو أكثر من النفوذ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا مجال للتصور أن اللعبة الإقليمية مقتصرة على تركيا وإيران وإسرائيل، سواء في إطار الصراع العنيف أو في إطار التفاهم على النفوذ في مناطق خاصة بكل قوة إقليمية، بالتالي ترتيب نظام أمني إقليمي جديد. فاللعبة الدولية أكبر. والدور مفتوح لظاهرة القوى غير الدولتية التي جاءتها فرصة في ما سماه العالم السياسي الفرنسي برتران بادي "دخول زمن تتلاشى خلاله التحالفات تدريجاً لمصلحة سيولة شديدة تسم الواقع الحالي، بحيث أضحى الحليف الذي يحظى بالحماية أو الوكيل يتمتع بهامش استقلالية حيال الأصيل".
وإذا كانت روسيا مشغولة بحرب أوكرانيا، فإنها تعمل بكل نشاط للحفاظ على قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية في سوريا. وحتى في حرب أوكرانيا، فإن ما يخوضه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو حرب أكبر بكثير من أوكرانيا، حرب "إعادة تصحيح" ما يسميه التغول الغربي على روسيا بعد الحرب الباردة، وإثبات أن موسكو محور قوة عظمى.
وإذا كانت أميركا "فشلت في ضمان أمن البحر الأحمر وتوقفت أمام سؤال عن قدرتها على أمن المحيطين الهندي والهادئ"، كما يقول مارا كارلين في مقال عن "الحرب الكلية"، فإنها مصرة على اللعبة الكبيرة في الشرق الأوسط والشرق الأقصى. وإذا كانت الصين شديدة الاهتمام باستعادة تايوان المحمية أميركياً، وكثيرة الراحة حيال مشروع "الحزام والطريق" الذي تشارك فيه 130 دولة، فإنها تبني قوة بحرية وجوية هائلة تفرض البحث عن مناطق نفوذ لها. والشرق الأوسط ليس كله تجارة.
ومع حديث الفرز والضم، يتحدث مارك لينش أستاذ العلوم السياسية والقضايا الدولية في جامعة جورج واشنطن عن "نهاية الشرق الأوسط". لماذا؟ لأن "خريطة قديمة تشوه واقعية جديدة" فالشرق الأوسط لم يعد العالم العربي وإسرائيل وتركيا وإيران كما هو على خرائط الجامعات والخارجية الأميركية. هو يشمل الآن أفغانستان وجيبوتي وإريتريا وإثيوبيا وكينيا وباكستان والصومال، بحسب خريطة القيادة الوسطى الأميركية. و"كل حياة هي سباحة في بحر اللايقين" كما يقول إدغار موران.