الرقة السورية من الواقع إلى قوى الأمر الواقع
"قوات سوريا الديمقراطية" في الرقة (رويترز)
الرقة والموصل مدينتان بين سوريا والعراق تتشابهان، بيد أن التشابه بينهما كان في صوره السلبية فحسب، فكلاهما سيطر عليهما تنظيم "داعش"، وكلاهما تعرضتا للتدمير من قبل قوات التحالف الدولي خلال معارك مكافحة التنظيم الإرهابي الذي سيطر على المدينتين بطرق بالغة السهولة، حتى إن اتهامات وجهت للجيشين السوري والعراقي بالتخلي عنهما مع بدء هجوم "داعش"، أو عدم مقاومته في أقل تقدير.
في مارس (آذار) 2011 انطلقت الثورة السورية لتعلن بداية النهاية لحكم عائلة الأسد في سوريا، وكباقي المدن تحركت محافظات شرق سوريا، وبعد مواجهة النظام المتظاهرين السلميين بالرصاص الحي، تحولت الثورة السورية إلى مسلحة، لكن العنف في شرق سوريا تركز بداية في محافظة دير الزور، بينما كانت الحسكة والرقة مناطق تعد أكثر أمناً، لذلك نزح إليها آلاف من أهالي دير الزور، إلا أن الهدوء في الرقة لم يدم طويلاً، فعلى رغم القبضة الأمنية للنظام على المدينة خرج أهاليها في تظاهرة ضخمة يوم الرابع من مارس 2013، وأمام عناصره حطموا تمثال الرئيس الراحل حافظ الأسد في ساحة الإطفائية وسط المدينة، وما هي إلا أيام حتى خرج النظام من المدينة فدخلت إليها فصائل مسلحة من بينها "جبهة النصرة" آنذاك، وفي الوقت ذاته سيطر تنظيم "داعش" على أجزاء من مواقع انسحب منها النظام السوري.
مقاتلو "قسد" في الرقة في الـ20 من أكتوبر 2017 بعد استعادة المدينة من مسلحي "داعش" (أ ف ب/ غيتي)
السواد يخيم على الرقة
وعلى رغم أن "جبهة النصرة" كانت تنظيماً منبثقاً من تنظيم "القاعدة"، فإنه كان يسعى منذ البداية للاستقلالية والعمل فقط ضمن الأراضي السورية، وذلك على خلاف ما يعتقد أن زعيم "هيئة تحرير الشام"، حالياً، أحمد الشرع غير أهداف تنظيمه ليعمل ضمن الأراضي السورية فحسب، بل حصل ذلك في التاسع من أبريل (نيسان) 2013، عندما كانت "جبهة النصرة" تسيطر على أجزاء واسعة من الرقة، في ذلك اليوم أصدر زعيم تنظيم "داعش" أبو بكر البغدادي تسجيلاً صوتياً يعلن فيه أن "جبهة النصرة" امتداد لتنظيم "دولة العراق الإسلامية"، وتم دمج التنظيمين تحت مسمى "داعش"، وبعد يوم ونصف اليوم من هذا التسجيل أعلن أحمد الشرع (كنيته حينها أبو محمد الجولاني) رفض قرار البغدادي، مؤكداً أن تنظيمه "سيبقى مستقلاً يعمل في الأراضي السورية لتحريرها من نظام الأسد"، وهذا الرفض أغضب تنظيم "داعش" حينها فوسع سيطرته في الرقة قبل أن يحكم عليها السيطرة لاحقاً مطلع عام 2014، باستثناء بعض المواقع العسكرية التي بقيت تحت سيطرة النظام مثل "الفرقة 17"، و"اللواء 93"، ومطار الطبقة العسكري، ليشن هجوماً واسعاً على هذه المقار ويسيطر عليها، كما حاولت "جبهة النصرة" مواجهة "داعش" في الرقة، إلا أنها هزمت أمامه، وفي الـ14 من يناير (كانون الثاني) 2014 أعدم تنظيم "داعش" ما يقارب 100 مقاتل من فصيلي "جبهة النصرة" و"حركة أحرار الشام"، بسبب رفضهما الانضمام للتنظيم، وبعد ذلك باتت الرقة كاملة في قبضة "داعش" بما في ذلك سد الفرات الاستراتيجي، وأعلنها التنظيم الإرهابي عاصمة له.
معركة التحرير والعروض التركية
في أكتوبر (تشرين الأول) 2016، بدأ التحالف الدولي بمساندة قوات عراقية وأخرى كردية في معركة ضخمة لاستعادة مدينة الموصل من تنظيم "داعش"، وبعد أيام من بدء معركة الموصل، دعا وزير الدفاع الأميركي، آنذاك، آشتون كارتر إلى بدء معركة مشابهة في الرقة لطرد "داعش" منها، مؤكداً استعداد قوات بلاده لدعم معركة "تحرير الرقة"، وكان التوجه الأميركي لأن يكون هناك غطاء جوي يقوم به التحالف الدولي تزامناً مع عمليات برية تقوم بها الجماعات المسلحة الكردية وعلى رأسها تنظيم "وحدات حماية الشعب"، وأثناء التحضير للمعركة المرتقبة، أجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اتصالاً بنظيره الأميركي باراك أوباما، مقدماً له عرضاً تركياً يشمل أن "لا تشارك وحدات حماية الشعب الكردية في معركة تحرير الرقة مقابل أن يرسل الجيش التركي قوات برية تطرد داعش"، لكن لم يكن هناك ترحيب أميركي بالعرض التركي.
ومن جانب آخر أبدى وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون تحفظ بلاده على فكرة مشاركة قوات غير عربية في تحرير الرقة، مطالباً بأن تكون القوات عربية بحتة.
في الأثناء كانت المعارك في أشدها بالموصل (العراق)، كما فر آلاف من مسلحي "داعش" من الموصل إلى الرقة، مما جعل معركة الرقة المنتظرة قد تكون أصعب لكون التنظيم قد بدأ يزيد تحصيناته فيها، وفي السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، أعلنت "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، رسمياً بدء معركة الرقة، ودعت قوات التحالف الدولي لتوفير غطاء جوي، وعلى الفور أعلنت واشنطن ترحيبها بالإعلان وانطلقت المعارك على الأرض من جهة منطقة عين عيسى بريف الرقة الشمال، قبل التوجه إلى المدينة.
بعد نحو أسبوع من المعارك أعلنت "قسد" أنها حققت المرحلة الأولى من العملية، وسيطرت على عشرات القرى والبلدات في ريف الرقة، واستمرت المعارك في أرياف الرقة أشهراً عدة من دون أن تتمكن "قسد" من الوصول إلى المدينة، فيما حاول تنظيم "داعش" الإرهابي شن هجمات مضادة وتفجير سيارات مفخخة، ما أسهم في تباطؤ تقدم "قسد"، وتزامناً مع هذه المعارك شنت قوات التحالف الدولي غارات جوية مكثفة تسببت في دمار هائل لا تزال آثاره حتى اليوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خطر انهيار سد الفرات
كان سد الفرات الاستراتيجي آنذاك، تحت سيطرة "داعش"، ومع تقدم "قسد" نحو السد في الـ23 من يناير 2017، قام التنظيم بفتح توربيناته بهدف رفع منسوب مياه نهر الفرات، مما هدد بغرق مناطق بأكملها، وارتفع، بالفعل، منسوب المياه إلى أعلى مستوى له في القرن الـ 21، وما زاد الأمر تعقيداً تنفيذ الطيران الحربي الأميركي غارة جوية قرب السد، ومع ازدياد خطر الفيضانات الكارثية واحتمال انهيار السد انسحبت "قسد"، وأوقف التحالف الدولي عملياته في منطقة الطبقة، حيث يقع سد الفرات، كما أغلق "داعش" توربينات السد، وتوقف جزئياً خطر الفيضانات أو الانهيار.
عطشى على ضفاف الفرات
في الثالث من فبراير (شباط) 2017، شنت قوات التحالف الدولي غارات جوية عنيفة جداً داخل مدينة الرقة، دمرت خلالها عدداً من الجسور الرئيسة في المدينة، كما دمرت جميع الأنابيب الأساسية للمياه، فانقطعت مياه الشرب عن جميع مناطق الرقة مع وجود مئات آلاف المدنيين فيها، إلا أنه تم على وجه السرعة إصلاح أنابيب المياه، واستمرت المعارك في أرياف الرقة الغربية والشرقية، وسيطرت "قسد" على كامل أوتوستراد الرقة - دير الزور، قبل أن تجهز حملة ضخمة خاصة بمهاجمة منطقة الطبقة وسد الفرات مرة ثانية، وبالفعل بدأت الهجمات نحو السد في النصف الثاني من مارس، وسيطرت "قسد" على مناطق عدة محيطة به، تزامن ذلك مع غارات جوية في ظل تقارير تفيد بأن السد يتعرض لأعطال بالغة بسبب الغارات الجوية، وأن خطر الانهيار عاد مجدداً، لذلك تم وقف الغارات الجوية موقتاً للسماح لمهندسين متخصصين بالدخول إلى السد وتقييم الأضرار وإصلاحها، وأثناء عمليات الإصلاح شنت طائرة أميركية غارة على السد قتل خلالها أحد المهندسين وفق بيانات المرصد السوري لحقوق الإنسان، ومع نهاية مارس 2017 أعلنت "قسد" فرض سيطرتها على كامل سد الفرات.
الرقة بلا "داعش"
وبحلول مايو (أيار) 2017، تمكنت "قوات سوريا الديمقراطية" والتحالف الدولي من فرض طوق على مدينة الرقة، ومحاصرة "داعش" الذي تعرض تزامناً مع ذلك لهزائم كبيرة في دير الزور والعراق، وفي الـ11 من يونيو (حزيران) تمكنت من الدخول إلى حيي الرومانية والصناعة، وفي اليوم التالي سيطرت على حي حطين، وبعد معارك عنيفة جداً وصلت إلى حي البريد وسط المدينة، كل هذا التقدم كانت تسبقه غارات جوية تستهدف كل مكان من المحتمل أن يوجد فيه مسلحو "داعش" الذي كان يستخدم المدنيين دروعا بشرية، إذ أسفرت الغارات الجوية على الرقة عن مقتل مئات المدنيين، فضلاً عن تدمير البنى التحتية في غالب مناطق المحافظة، كما تعرضت أحياء بأكملها للتدمير، وعلى رغم محاولات إنشاء مشاريع التعافي، فإن الرقة لا تزال حتى اليوم تعاني تداعيات معارك تنظيم "داعش"، وبعد طرده منها تم تأسيس "جمعية مدنية" كإدارة موقتة لتسيير أمور المدينة، ثم تم لاحقاً إنشاء قوات أمن داخلي تابعة لـ "قسد" اشتهرت لاحقاً باسم قوات "الأسايش"، وانتشرت بصورة واسعة في شمال شرقي سوريا.
هل لا يزال "داعش" موجوداً في الرقة؟
على رغم هزيمته في الرقة، والفاتورة الباهظة التي دفعها أهالي المدينة، بقي لتنظيم "داعش" وجود محدود في أرياف المدينة تحت ما يسمى "الخلايا النائمة"، التي كانت تشن هجمات في بعض الأحيان على قوات "قسد"، أما أسرى التنظيم فتم نقلهم إلى سجون أشهر عدة سجن الصناعة في حي غويران بمدينة الحسكة، فيما تم نقل عائلات مسلحي "داعش" إلى مخيمات محصنة مثل مخيم الهول قرب الحدود السورية - العراقية، وبعد سقوط النظام السوري في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024 صدرت تحذيرات عدة من عودة "داعش" إلى الرقة ومناطق أخرى في سوريا، لكن ميدانياً لم يتم حتى الآن تسجيل نشاط ملموس للتنظيم المصنف على قائمة الإرهاب العالمية.
ومنذ طرد "داعش" من الرقة، بقيت المدينة بالكامل تحت سيطرة "قسد" حتى لحظة إعداد هذا التقرير، لكن بعد أيام من سقوط النظام، أعلنت رفع العلم السوري الجديد (علم الثورة السورية)، على المؤسسات الحكومية في مناطق سيطرتها، بما في ذلك الرقة، إلا أن إدارة العمليات العسكرية أو "هيئة تحرير الشام" لم تدخل إلى المدينة حتى الآن، وسط محادثات وصفت بـ"العسيرة" تجري حالياً لحل قضية المنطقة الشرقية من دون عمليات عسكرية.