ضرب "نووي إيران" بين مقامرة بايدن وجرأة ترمب
لقاء جمع بايدن وترمب عقب فوز المرشح الجمهوري في انتخابات الرئاسة (أ ف ب)
بعد الكشف عن أن إدارة الرئيس جو بايدن بحثت أخيراً خيارات توجيه ضربة أميركية محتملة لمواقع إيران النووية قبل الـ20 من يناير (كانون الثاني) الجاري إذا اتخذت طهران خطوات نحو تخصيب اليورانيوم إلى درجة نقاء 90 في المئة التي تكفي لصنع قنبلة نووية، سارع الإيرانيون للإعلان عن استعدادهم لاستئناف المفاوضات النووية مع الغرب، فهل أخذت إيران التهديد الأميركي على محمل الجد؟ وإلى أي مدى يمكن لإدارة البطة العرجاء في واشنطن التي تتهم بالتساهل مع طهران سياسياً واقتصادياً وعسكرياً أن تعكس سياساتها وتفاجئ الجميع بما لم يكن في الحسبان؟
تحول كبير
طوال فترة رئاسته الولايات المتحدة تعهد جو بايدن بأنه لن يسمح لإيران بتطوير سلاح نووي، لكنه اكتفى فقط بمراقبة نشاطها النووي الذي تزايد بصورة كبيرة خلال أعوام رئاسته الأربعة، حتى أنه لم يعقب حينما قال رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي في ديسمبر (كانون الأول) 2024 إن إيران تمتلك الآن ما يكفي من اليورانيوم المخصب بـ60 في المئة لصنع أربع قنابل نووية إذا خصبتها بـ90 في المئة من الدرجة اللازمة لصنع الأسلحة، وهو ما يمكن لأجهزة الطرد المركزي التي رُكبت حديثاً في إيران إنجازه خلال أيام.
وفي دليل آخر على متابعة واشنطن الأنشطة الإيرانية النووية، تعاونت الولايات المتحدة وإسرائيل خلال يونيو (حزيران) 2024 في تقييم معلومات استخباراتية حول أبحاث مشبوهة بدا أن العلماء الإيرانيين يقومون بها لتقليل وقت الاختراق النووي، ومع ذلك رفض بايدن في أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل لقصف المنشآت النووية الإيرانية، حينما كانت حكومة بنيامين نتنياهو تدرس الرد على القصف الصاروخي الإيراني المكثف لإسرائيل.
غير أن إماطة اللثام عن طرح خيارات مدروسة بعناية لشن هجوم أميركي محتمل من إدارة في فترة البطة العرجاء على المنشآت النووية الإيرانية إذا تحرك الإيرانيون نحو سلاح نووي قبل تنصيب الرئيس المنتخب دونالد ترمب، كان بمثابة تحول بـ180 درجة على رغم أن اجتماع مجلس الأمن القومي الذي ناقش في البيت الأبيض السيناريوهات المختلفة، لم يكن مدفوعاً بمعلومات استخباراتية جديدة أو استهدف اتخاذ قرار نهائي في شأنها من الرئيس بايدن خلال الأيام المقبلة.
سبب التغير
لكن يبدو أن السبب الأول وراء طرح هذه السيناريوهات المحتملة يعود إلى مخاوف الأميركيين من أن تكون طهران قد سعت بالفعل إلى تسريع برنامجها النووي في ضوء مخاوف مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، التي عبر عنها في مؤتمر بمدينة نيويورك قبل أسبوعين من تصريحات عامة لمسؤولين إيرانيين تساءلوا فيها عما إذا كان يتعين عليهم تغيير عقيدتهم النووية. كما عبر سوليفان عن قلقه من أن الضربات الاستراتيجية التي تلقتها إيران ووكلاؤها على مدى عام 2024 من المحتمل أن تدفع طهران إلى خيارات خطرة للغاية مثل السعي إلى الحصول على سلاح نووي، ولهذا يتعين على الولايات المتحدة اليقظة للغاية.
أما السبب الثاني فيعود إلى أن بعض مسؤولي الإدارة الأميركية ومنهم سوليفان يقدرون أن إضعاف إسرائيل للوكلاء الإيرانيين الإقليميين مثل "حماس" و"حزب الله"، إلى جانب الغارات الجوية الإسرائيلية في الـ26 من أكتوبر 2024 التي استهدفت الدفاعات الجوية الإيرانية، ربما يمثل الآن لحظة مناسبة لضرب المنشآت النووية التابعة لطهران من دون توقع مقاومة جدية أو ردود فعل وتصعيد خطر مثلما كانت عليه الحال في الماضي، مما حسن فرصة توجيه ضربة أميركية ناجحة تقلل من خطر الانتقام الإيراني والتصعيد الإقليمي، التي من دونها لن تستطيع إسرائيل وحدها إحداث التدمير الكامل للمنشآت النووية الإيرانية المنتشرة في أماكن عميقة تحت الأرض وفي سفوح الجبال.
تردد وشكوك
ومع استمرار تردد بايدن في اتخاذ هذه الخطوة وتركيزه على مدى الإلحاح في توجيه الضربة خلال الأسابيع المنتهية من ولايته، وما إذا كانت إيران قد اتخذت خطوات تبرر توجيه ضربة عسكرية ضخمة، بحسب ما نقل موقع "أكسيوس" عن مسؤولين أميركيين، يبدو أن الشكوك تحوم حول مدى قدرته على المضي قدماً في اتخاذ هذا القرار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى الباحث المتخصص في الشأن الإيراني رويل مارك غيرشيت أن الحديث عن تفكير بايدن بجدية في شن ضربات لإيران ليست ذات صدقية، بسبب نفوره الواضح من استخدام القوة ضد طهران، وأمل إدارته على مدى طويل في أن تنتظم الجمهورية الإسلامية في ضبط النفس النووي مقابل تخفيف العقوبات، مما أسهم في صعود إيران إلى دولة على عتبة إنشاء أسلحة نووية.
ويراهن الرئيس التنفيذي لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطية، وهي مؤسسة مؤيدة لإسرائيل في واشنطن، مارك دوبويتز، على دونالد ترمب وليس بايدن ليكون عام 2025 هو العام الذي تفكك فيه الولايات المتحدة وإسرائيل بصورة حاسمة برنامج الأسلحة النووية الإيراني، مشيراً إلى أن معظم توسع طهران في أنشطة التخصيب النووي حدثت منذ انتخاب الرئيس بايدن وقراره التخلي عن أقصى قدر من الضغط لمصلحة استرضاء القادة الإيرانيين، بينما من المرجح أن يعيد ترمب فرض هذا الضغط ويضمن سحق طموحات إيران النووية مرة واحدة وإلى الأبد.
الضربة غير مستبعدة
وعلى رغم أن إيران أنكرت باستمرار سعيها إلى امتلاك أسلحة نووية، على اعتبار أنها وقعت على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وأنها تريد فقط الطاقة النووية السلمية، كما يحق لها قانوناً، تتصاعد مخاوف اقترابها من اكتساب القدرة على امتلاك سلاح نووي لدى فريق من مجلس الأمن القومي الأميركي الأكثر موالاة لإسرائيل. كما أن اللوبي الإسرائيلي في واشنطن الذي يؤثر إلى حد بعيد في السياسة الخارجية الأميركية بالشرق الأوسط يضغط بشدة من أجل تنفيذ هذه الضربة.
وبالنظر إلى تعدد أماكن المنشآت النووية الإيرانية ووجود بعضها في أماكن حصينة تحت الأرض بما فيها منشأتا التخصيب الرئيستان في نطنز جنوب طهران التي تقع تحت الأرض بطوابق عدة، و"فوردو" التي حُفرت في جبل، مما يجعلها محمية بصورة فضلى، فضلاً عن مركز التكنولوجيا النووية على مشارف أصفهان ثاني أكبر مدينة في إيران، ومنشأة أخرى حديثة تحفرها إيران في جبل على عمق 100 متر قرب نطنز بحسب صور الأقمار الاصطناعية، فإن مشاركة الولايات المتحدة في عملية القصف المحتملة لا غنى عنها.
لماذا تتدخل أميركا؟
السبب وراء ذلك هو أن إسرائيل، وإن كان لديها قنابل (بي أل يو 109) الأميركية الصنع القادرة على اختراق المخابئ حتى عمق 35 متراً واستخدمها الإسرائيليون لاغتيال زعيم "حزب الله" حسن نصرالله في الضاحية الجنوبية ببيروت، فإن تدمير العدد الكبير من المنشآت النووية الإيرانية في أعماق بعيدة تحت الأرض يتطلب قنابل خارقة للتحصينات بعمق 60 متراً، ولا توجد سوى لدى الولايات المتحدة وتعرف باسم (جي بي يو 57) التي ناقش مسؤولو "البنتاغون" استخدام قنبلتين متتاليتين لضمان تدمير أي موقع نووي في إيران، ومع ذلك فإن النجاح غير مضمون بالكامل.
لقطات بالأقمار الصناعية لأحد المواقع النووية في إيران (أ ف ب)
ومن المرجح أن يتم حمل قنبلة (جي بي يو 57) على متن القاذفة الاستراتيجية الشبح "بي 2" لأن القنبلة ضخمة للغاية (نحو ستة أمتار طولاً ووزنها 12 طناً) واستخدمت الولايات المتحدة طائرات "بي 2" لضرب خمسة منشآت حوثية في اليمن خلال أكتوبر 2024 في رسالة لإيران عبر عرض فريد لقدرة الولايات المتحدة على استهداف المنشآت المحصنة في الجبال، بغض النظر عن مدى عمقها تحت الأرض، أو مدى تحصينها، بحسب ما قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن.
النهج البديل
ومع ذلك لا تزال بعض وجهات النظر الليبرالية تؤثر في صنع قرار الإدارة الديمقراطية الحالية التي تحزم حقائبها الآن لمغادرة البيت الأبيض، إذ تشير هذه الدوائر إلى أنه حتى في أفضل السيناريوهات التي تنجح فيها الضربات العسكرية في تدمير المرافق النووية الرئيسة، فإن قاعدة المعرفة المحيطة بتخصيب اليورانيوم وتكنولوجيا المفاعلات ودورة الوقود اللازمة لاستدامة الانشطار النووي ستظل سليمة، بينما يتطلب القضاء على هذه المعرفة عمليات سرية مستمرة داخل المجتمع العلمي الإيراني وهو مسعى شاق يصعب تنفيذه، كما تقول كبيرة الباحثين في مشروع القضايا النووية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن العاصمة دورين هورشيغ.
وعلى سبيل المثال، تعتمد إيران بصورة أساسية على أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم، وهي صغيرة، يبلغ قطرها 20-30 سم وارتفاعها من متر إلى مترين، ويمكن بناؤها في مجموعة متنوعة من المواقع، وإذا شنت الولايات المتحدة وإسرائيل ضربات قوية ضدها، فستكون إيران قادرة نظرياً على إعادة بنائها ووضعها في أعماق أكبر تحت الأرض.
والأكثر أهمية من استمرار المعرفة التقنية هو التصميم على السعي إلى الحصول على الأسلحة النووية، وعلى رغم العمليات السرية الإسرائيلية بما في ذلك الهجمات الإلكترونية والاغتيالات، رفعت إيران من مخزون اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزي التشغيلية. وفي عام 2021 خصبت إيران اليورانيوم إلى 60 في المئة للمرة الأولى في استجابة مباشرة لعملية التخريب الإسرائيلية ضد منشأة نطنز النووية الإيرانية في العام نفسه، مما يعني أن العمليات السرية الإسرائيلية لا توقف الطموحات النووية الإيرانية إلا موقتاً، ولا تنجح التدخلات العسكرية إلا عندما يكون تهديد الانتشار النووي في مراحله الأولى بينما تجاوزت طهران هذه العتبة بكثير.
ويرى الفريق المعارض لاستخدام القوة العسكرية أن إيران حتى الآن استغلت برنامجها النووي كوسيلة تحوط وليس كقدرة هجومية وأنها لم تعبر العتبة النووية مما يشير إلى نافذة ممكنة للدبلوماسية على رغم أنها لم تكن فعالة بصورة خاصة ولا تشكل مصلحة لإسرائيل، ومع ذلك ربما يكون من المفيد متابعة الجهود الدبلوماسية التدريجية بدلاً من السعي إلى التوصل إلى اتفاق شامل كبير مثل اتفاق العمل الشامل المشترك لعام 2015.
هل تؤجَّل الضربة إلى ترمب؟
لكن إذا قرر بايدن ترك قرار قصف إيران للرئيس المنتخب دونالد ترمب فقد تكون هناك عوامل كثيرة واعتبارات مختلفة تحكم قرار سيد البيت الأبيض الجديد، فعلى رغم نصح ترمب نتنياهو بضرب البرنامج النووي الإيراني أولاً والقلق في شأن الباقي لاحقاً رداً على قصف إيران إسرائيل بالصواريخ الباليستية، فإنه قال بعد ذلك كثيراً من الأشياء المتناقضة.
وفي حين يكره ترمب القادة الدينيين الإيرانيين ويخشى من قدرة طهران النووية، كذلك تشكل الاستراتيجية الجديدة الصارمة ضد إيران هدفاً رئيساً للسياسة الخارجية الأميركية التي تشمل العمل العسكري المحتمل، وإرسال مزيد من القوات الأميركية إلى منطقة الشرق الأوسط وبيع إسرائيل أسلحة أكثر تقدماً، لا يزال ترمب متردداً أيضاً في إطلاق حرب جديدة تجر الجيش الأميركي، كذلك فإنه يقدم نفسه دائماً على أنه أفضل من يعقد الصفقات.
وبحسب كبير الباحثين في مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن جيمس ليندسي، فإن ترمب سيعود إلى سياسة إدارته الأولى وهي "الضغط الأقصى" على إيران من خلال توسيع العقوبات الأميركية ضدها وتشديد فرض العقوبات المعمول بها بالفعل من أجل إجبارها على الحد من برامجها النووية والصاروخية الباليستية وكبح الدعم للميليشيات الإقليمية التي شكلت ما يسمى محور المقاومة.
القوة العسكرية كحل نهائي
ومع ذلك فإن استراتيجية الضغط الأقصى تستغرق وقتاً حتى تنجح، ومن المحتمل أن تقوض القوى العظمى الأخرى هذه السياسة، إذ تجاهلت الصين وروسيا العقوبات الأميركية والمتعددة الأطراف القائمة على إيران. ومن غير المرجح أن تمتثل بكين وموسكو لها الآن ما لم تحصلا على شيء مهم من الولايات المتحدة في المقابل وهو ما قد لا يكون ترمب راغباً أو قادراً على تقديمه، ولكن إذا اعتقدت طهران أن الصين وروسيا تدعمانها، فإن المقاومة تصبح استراتيجية أكثر جدوى، بل إنها قد تستخدم المفاوضات كوسيلة لكسب الوقت لمعالجة نقاط ضعفها.
وإذا لم تسفر حملة الضغط الأقصى عن نتائج سريعة، فمن المرجح أن تتزايد الدعوات إلى شن الولايات المتحدة هجوماً على المواقع النووية الإيرانية، ومن المتوقع أيضاً أن يسمع ترمب دعوات تطالبه بتشجيع إسرائيل على مهاجمة إيران، على رغم افتقار إسرائيل إلى القدرة على تدمير المنشآت النووية تحت الأرض.
في المقابل ستقيم طهران أثناء تفكيرها بالمفاوضات مدى استعداد ترمب لاستخدام القوة العسكرية، فضلاً عن القدرات العسكرية الإسرائيلية، بخاصة أن القادة الإيرانيين يعلمون أن ترمب أمر باغتيال زعيم فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني عام 2020، وتحدث أثناء الحملة الانتخابية عن تمزيق إيران واستهداف مراكزها الدينية. وقال إن إسرائيل يجب أن تضرب المواقع النووية الإيرانية، لكنهم يعرفون أيضاً أنه خاض حملته ضد ما يسمى الحروب الأبدية الأميركية في الشرق الأوسط بينما كان يتفاخر بصورة خاطئة أنه الرئيس الوحيد على مدى 72 عاماً الذي لم يخض حروباً.
وفي النهاية سيكون اللجوء إلى القوة العسكرية بمثابة ضربة حظ، قد تنجح بما يتجاوز أحلام مخططيه ويبشر بعصر جديد أكثر سلمية في الشرق الأوسط، أو كما حدث مع غزو العراق فقد يفتح الباب لكثير من المشكلات التي ستطارد المنطقة والولايات المتحدة لأعوام مقبلة.