الجيش العراقي... 100 عام بين الوجود والعدم
عقب 11 عاماً من إعادة تشكيله عام 2014 شهد الجيش انهياراً غير مسبوق نتج منه احتلال "داعش" لـ3 محافظات (أ ف ب)
في البدء جاءت الفكرة لتأسيس جيش من رحم الدولة العراقية الناشئة مطلع القرن الـ20، كانوا ثلة من الحالمين الهاربين من مدرسة الأستانة العسكرية في إسطنبول أيام كانوا رعايا الدولة العثمانية وجنود السلطان، وهكذا ولدت الدولة الجديدة ومعها جيشها.
على عتبات المغامرة
يروي الباحث اللواء مؤيد الونداوي قصة نشوء وانتهاء الجيش العراقي قائلاً "أنشئت مدارس عسكرية في بغداد بقسميها الرشدي والإعدادي مع مدرسة لتدريب نواب الضباط، وأُعد العراقيون في الكلية الحربية بإسطنبول وكان عددهم الأكبر من بين بقية الأقاليم العربية، حتى إنهم تقلدوا مناصب كبيرة وانضم الضباط العراقيون إلى جمعية العهد خلال عام 1913، وكان يتولاها عزيز علي المصري ونوري السعيد وياسين الهاشمي".
ويضيف "شهد عام 1914 الإنزال البريطاني في البصرة، وظل عزيز علي المصري يطالب بالعثور على نوري السعيد والتواصل معه، وعُرف نوري السعيد باشا مؤسس الجيش بذكائه وأعرب عن استعداده لتشكيل قوة عراقية مؤلفة من 40 ألف مقاتل عام 1915، تشمل العراقيين الموجودين في الجيش العثماني وأبناء العشائر، لتسهم في تحرير بلاد ما بين النهرين من العثمانيين".
ويتابع الونداوي "رفض برسي كوكس القائد الإنجليزي وقتها المقترح وأرسل الضابط نوري السعيد منفياً إلى الهند براتب شهري قدره 250 ليرة من موازنة واردات البصرة، ووضعه تحت مراقبة الشرطة البريطانية التي باشرت بتشكيل قوة عسكرية عراقية في الناصرية جنوب العراق بعد اجتياحه جلهم من العرب والكرد وآخرين، عرفت لاحقاً باسم (قوات الليفي) العراقي، ثم اندلعت الثورة الشريفية –نسبة إلى الشريف حسين بن علي الهاشمي- عام 1916، والتحق الضباط العراقيون بها في البداية ومنهم جعفر باشا ونوري السعيد وجميل المدفعي ومخلص باشا، مما تسبب في قيام بريطانيا عام 1916 بتكليف المقدم ليجمن بنقل الضباط العرب الأسرى من الهند إلى مصر لتنظيم التحاقهم بجيش الثورة العربية".
ويستطرد "التقى بهم نوري السعيد في ميناء ينبع ليحفزهم على الالتحاق بالثورة، غير أن بعضاً وافق وآخرين رفضوا، وتولى مولود مخلص عام 1916 مهمة تدريب المتطوعين وأسس اللواء الهاشمي الأول وكان نواة الجيش الهاشمي، وتقلد الضباط العراقيون المناصب المتقدمة فيه، وتولى نوري السعيد رئاسة أركان جيش الثورة العربية، وجعفر العسكري قيادة الجيش الشمالي، وأصبح جميل الراوي آمر لواء، وجميل المدفعي قائد سلاح المدفعية، وجندت بريطانيا ألفاً من الأثوريين (أصلهم الآشوريين) اللاجئين في معسكر بعقوبة، لتستخدمهم عام 1919 في تدمير مناطق الزيبار وبارزان الكردية شمال البلاد، وبهدف إحكام سيطرتها على الدولة الفتية عملت إدارة المندوب السامي في بغداد خلال العام نفسه على تأسيس دوائر الشرطة العراقية (دائرة التحقيقات الجنائية) ومديريات الشرطة في الألوية العراقية، وأوكلت مهمة إخماد ثورة مدينة تلعفر في شهر مايو (أيار) من ذلك العام لجميل المدفعي النينوي الذي يقود قوة "شريفية" ويدخل المدينة، ثم تولى بعدها إخماد ثورة دير الزور وجرى تعيين مخلص باشا حاكماً على المنطقة".
الجيش والنخبة السياسية
يضيف الونداوي بعداً آخر من حياة الجيش العراقي وعلاقته بالسياسة، فيقول "أما في شأن النخبة السياسية في بغداد عام 1920 والمتمثلة بآل السويدي وآل الصدر وعلاقاتها مع الضباط العراقيين في الشام، فقد تولت إدارتها مسؤولة الاستخبارات في بغداد الآنسة الإنجليزية غيرترود بيل التي كانت تسافر إلى سوريا وتلتقي ياسين باشا، وتعود لتدعو حكومتها إلى تعجيل عودة الضباط (البغادة) لأنهم لا يمانعون نظام الانتداب البريطاني على العراق الذي أقرته عصبة الأمم، وبموجبه تولت بريطانيا مهام السياسة الخارجية والدفاع عن العراق ضد العدوان الخارجي، إذ سيكون الجيش العراقي لأغراض حفظ الأمن الداخلي، وفي الـ11 من يوليو (تموز) 1921 بايع مجلس الوزراء فيصل بن الحسين الهاشمي ملكاً على العراق، وفي الـ23 من أغسطس (آب) عام 1921 تم تتويجه ملكاً".
ويتابع "لكن الأمور كلها انقلبت في يونيو (حزيران) 1920، وكان الدور للضباط العراقيين في قيام الثورة العراقية الكبرى (ثورة الـ20 وقرار 30)، مما اضطر الحكومة البريطانية لتأسيس الحكم الأهلي في العراق للمرة الأولى منذ الحكم العثماني وإزاحة العقيد ولسن وإعادة السير بيرسي كوكس والسماح بعودة الضباط (البغادة) من سوريا في عشرينيات القرن الماضي، عملاً بنصيحة المس بيل التي لعبت دوراً مهماً في برمجة السياسة العراقية الحديثة، وفي مارس (آذار) 1920 انعقد مؤتمر القاهرة ومن مقرراته تأسيس الجيش العراقي، وكان جعفر باشا مشاركاً فيه".
وخلال نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1920، وفق الونداوي، تشكلت الوزارة "الكيلانية" الأولى، إذ تولى فيها جعفر العسكري وزارة الدفاع وطالب النقيب للداخلية، وكانت خطوات جعفر باشا لتأسيس الجيش العراقي الجديد تتلخص في المباشرة بالتحاق رفاقه من الضباط للعمل معه، والقيام بترتيب القوانين والنظم العسكرية بدعم الضباط البريطانيين، ثم تحديد حاجة العراق من الأسلحة والمعدات.
الدور البريطاني
قامت بريطانيا بحل "قوات الليفي" العراقية وقوامها (7000 عنصر ودعتهم للانضمام إلى الجيش العراقي الجديد عام 1921 لتؤسس مقابلهم "قوة ليفي" جديدة (7500 مقاتل) غالبيتهم من الأقلية الأثورية لتستخدمهم لحاجاتها الأمنية والعسكرية. ويقول الونداوي "في السادس من يناير (كانون الثاني) عام 1921 تشكلت نواة الجيش العراقي من 10 ضباط ممن كانوا في الجيش الحجازي، وازداد العدد مع قدوم بقية الضباط الذين كانوا مع فيصل في سوريا حتى بلغ العدد 206 ضباط، والتحق بهم الضباط العراقيون الذين كانوا مع الجيش العثماني، وأيضاً الضباط العراقيون ممن أُسروا وكان العدد 313 ضابطاً، وهكذا أضحى عددهم 519 ضابطاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي أبريل (نيسان) 1921 أنشئت مدرسة تدريب الضباط الأقدمين، وخلال يونيو 1921 بوشر تسجيل المتطوعين، وشُكل الفوج الأول للجيش في بغداد خلال يوليو 1921 باسم "فوج موسى الكاظم" ومقره الكاظمية في بغداد بمنطقة خان الكابولي، ثم نقل إلى محافظة الحلة ليحل محل الحامية البريطانية، وشكلت كتيبة الخيالة الأولى ومن تشكيلاتها الحرس الملكي، وفي عام 1923 كانت الخطة الحكومية زيادة عدد القوة العراقية إلى 6 آلاف جندي لتأمين حدود العراق في مواجهة أخطار تركية محتملة وفرض الأمر.
وحين دخل العراق عصبة الأمم عام 1932 كان عدد الجيش 549 ضابطاً و9320 ضابط صف (جندياً) و794 تابعاً وهم الأشخاص المدنيون، ولديه 22 مدفعاً و9299 بندقية و1553 سيفاً و111 رشاشة نوع "فيكرس" و137 رشاشة نوع "لويس" و13 طائرة. ثم قامت بريطانيا عام 1932 بحل "قوات الليفي" الأثورية، والاحتفاظ بألف منهم وأسرهم لحراسة قواعدها الجوية في العراق، وفق الونداوي.
الجيش بعد الملك
خلال عام 1933 توفي أول حكام العراق الحديث الملك فيصل الأول بن الشريف حسين، مما فتح الباب على مصراعيه لتدخل الجيش في السياسة وبدأت صفحة الصراع بين قادته وأمرائه، فقد حدث أول انقلاب عسكري عام 1936 بقيادة الجنرال بكر صدقي وهو ضابط كردي متزمت، تسبب في مقتل وزير الدفاع جعفر العسكري ليسجل أول انقلاب عسكري في الشرق الأوسط، وسرعان ما قُتل هو الآخر بعد عام 1937 بعملية مدبرة من الجيش، ثم قُتل في ظروف غامضة نجل فيصل الملك غازي عام 1939، وبعد حركة رئيس الحكومة رشيد عالي وموالاته لألمانيا النازية عادت الهيمنة البريطانية وممارسة سياسة إضعاف الجيش.
وفي أبريل عام 1941 قاتل الجيش العراقي خلال الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء، وطلب العراق تسليحاً حديثاً لجيشه لمواجهة التحديات الدولية وتعزيز الجبهة الداخلية، لكن فشلت مفاوضات 1947 العراقية-البريطانية لتسليح الجيش العراقي، الذي أقحم نفسه في حرب فلسطين عام 1948 وشارك 18000 عسكري في الجبهة، وهناك شُكلت خلايا الضباط الأحرار في فلسطين عام 1949، وزاد غضب الجيش بعد قرار 1950 أو القرار الأميركي-البريطاني بمنع سباق التسلح، والاتفاق على صورة تسليح الجيش العراقي، تلاه إبعاد الفريق صالح صائب الجبوري رئيس أركان الجيش بناء على طلب بريطاني عام 1951، ثم إبعاد الفريق نور الدين محمود عام 1952.
لكن عاد الجيش إلى السلطة القوية من خلال "حلف بغداد" وانطلاق عمليات تسليح واسعة للجيش العراقي، ليسارع الضباط والساسة الذين يقودهم نوري السعيد باشا من الموالين لسياسة بريطانيا والغرب بإدخال العراق في الحلف عام 1955، وإطلاق عمليات تسليح واسعة للجيش العراقي، ليزيد دور العراق العسكري كدولة مقر لحلف دولي يستهدف تقويض الدور الشيوعي في المنطقة، مما أجج الصراع الداخلي في العراق حتى قيام الجيش بانقلاب يوليو 1958، حينها أطاح الجيش النظام الملكي وأعلن قيام الجمهورية وتورط بمقتل العائلة المالكة بطريقة دموية بشعة، مما أثار فتنة ما زالت حتى يومنا هذا.
زمن الانقلابات
تحول العراق الديمقراطي الملكي إلى ساحة انقلابات أبطالها مغامرو الجيش وحدث في انقلاب 1963، وانقلاب الأخوين عارف والجيش خلال العام نفسه، ثم انقلاب الجيش عام 1968 الذي جاء بحكم "البعث" مرة ثانية بواسطة الجنرال أحمد حسن البكر ومساعده صدام حسين، ثم إنهاك الجيش العراقي في الحرب العراقية-الإيرانية لثمانية أعوام متواصلة وفي جبهة حدودية طولها ألف و300 كيلومتر، تليه غزو الكويت الذي جلب جيوش العالم إلى المنطقة فخاضت حرب "عاصفة الصحراء" لكسر الجيش العراقي وكبدته خسائر جسيمة في الأنفس والمعدات، لتخسر الأمة جيشاً عربياً كانوا يطلقون عليه (دريئة العرب)، حتى طويت صفحته في الغزو الأميركي عام 2003.
مر الجيش العراقي بمحطات كثيرة على مدى أكثر من 100 عام، لكن أكثرها قسوة كانت قرار حله بإجراء من الحاكم المدني الأميركي بول بريمر بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، ثم أعيد تشكيله بسبب الفراغ الذي خلفه غيابه على الوضع الأمني، وتشكل الجيش الجديد من الفرقة 38 التي كانت نواته، وبرز جهاز عسكري أسسه الأميركان من قوات "سوات" التي أطلق عليها "الفرقة القذرة" توصيفاً للمهمة التي تؤديها في مكافحة الإرهاب، وارتبطت بعد انسحاب الجيش الأميركي من العراق عام 2011 بالقائد العام للقوات المسلحة الذي يشغله رئيس الحكومة وفق دستور 2005.
وعقب 11 عاماً من إعادة تشكيله عام 2014 شهد الجيش انهياراً غير مسبوق نتج منه احتلال تنظيم "داعش" المسلح ثلاث محافظات، هي نينوى وصلاح الدين والأنبار وأجزاء من محافظات كركوك وديالى وبابل، بسبب الفوضى داخل صفوف الجيش والتي خلفها أمر انسحاب اتهم بإصداره القائد العام للقوات المسلحة خلال ذلك الوقت.
بعد ذلك أعادت الحكومة هيكلة عدد من الفرق العسكرية عام 2015 وعملت على إعادة الروح المعنوية للجيش، ونجحت في تحرير المدن المحتلة مجدداً عام 2017. ويتألف الجيش العراقي حالياً من 538 ألف منتسب بين ضابط وجندي موزعين على القوات البرية والجوية والبحرية والدفاع الجوي والطيران.
تحديات الجيش الجديد
ويواجه الجيش العراقي تحديات داخلية أبرزها مكافحة الإرهاب والمخدرات، إضافة إلى تحديات أخرى خارجية على رأسها التهديدات التركية والإيرانية.
يؤكد الباحث العراقي إدريس جواد أن "الجيش الحالي يمتلك عدداً من الآليات العسكرية التي تعد مناسبة للعمل خلال الوقت الحالي"، ووفق الباحث في الشؤون الأمنية سرمد البياتي فإن "وضع الجيش خلال الوقت الحالي جيد من حيث العدد والعتاد، لكنه يحتاج إلى تطوير في مجال الدفاع الجوي وإضافة فرقة مدرعة إلى جانب الفرقة القائمة حالياً، وفرقة آلية وفرقتي مشاة".
ويضيف البياتي أن التسليح يندرج ضمن مناهج التعبئة الموجودة حالياً، مشيراً إلى عدم وجود أي تحرك في هذا الملف خلال الوقت الحالي، باستثناء ما يمكن أن يدخل من تسليح غربي وغالب التدريبات تكون على الأسلحة الشرقية مثل البنادق والمسدسات، متوقعاً دخول الأسلحة الغربية ضمن مشروع الاتفاق مع حلف شمال الأطلسي (ناتو) لتنويع مصادر التسليح.
أما رئيس خلية الإعلام الأمني اللواء تحسين الخفاجي فيقول إن كفاءة التسليح الحالي جيدة ومتطورة، لكنه أعرب عن أمله في امتلاك أكبر عدد من المعدات العسكرية المتطورة، وذلك يعتمد على التخصيصات المالية ورؤية القائد العام للقوات المسلحة.
ويذهب الباحث العراقي محمد صادق جراد إلى القول "لابد ألا نتغافل عن فترة مهمة وخطرة من تاريخ الجيش العراقي وهي مرحلة تسلط الحاكم الديكتاتور، واستخدام الجيش كأداة بيد السلطة لقمع الشعب بمختلف مكوناته، مما جعلنا أمام جرائم إبادة جماعية، إضافة إلى القيام بمغامرات غير محسوبة العواقب مع دول الجوار تمثلت بدخول الكويت ووضع الجيش العراقي في مواجهة أكبر آلة عسكرية وهي جيش الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها، مما أسفر عن تدمير كبير في الجانب المادي والمعنوي".
ويضيف "هذه التحديات مر بها الجيش العراقي قبل مرحلة التغيير عام 2003 حتى جاء الاختبار الأصعب عندما صدرت الأوامر بحل الجيش العراقي وتأسيس وحدات جديدة تتناسب مع مرحلة ما بعد سقوط الديكتاتور، لنصبح أمام جيش جديد وطني ومؤمن بوحدة أرضه وملتزم بمفاهيم وقيم حقوق الإنسان، وتكون تلك نهاية مرحلة من سيطرة السلطة على الجيش واستخدامه لقمع الشعب".
ويصف الباحث عملية تأسيس جيش جديد بقوله إنها "لم تكن سهلة أبداً، بل واجه الجيش الجديد تحديات كبيرة تمثلت بحرب إعلامية من قبل أعداء العراق والعصابات الإرهابية، بدأت بتحريم الانخراط في صفوفه واتهامه بالولاء لأطراف معينة على حساب أخرى، مما جعل الجيش في مواجهة شريحة كبيرة من أبناء الشعب كانت تعتقد مخطئة أن الجيش العراقي يمثل طائفة معينة. ولابد من الإشارة هنا إلى تحد آخر واجه الجيش العراقي وما زال، ويتمثل بوجود عصابات مسلحة في الساحة العراقية بعضها يعمل ضد الجيش والدولة والآخر يعمل معهما، وبغض النظر عن جنسية تلك العصابات المسلحة فإن وجود السلاح خارج إطار الجيش والدولة هو تحد كبير لم ينته حتى الساعة، وخلاصة القول إن الجيش العراقي هو جيش كل العراقيين بمختلف انتماءاتهم، وهو الضامن الوحيد لوحدة وأمن وسيادة واستقلال العراق".