ما يجب ان تفعله الحكومة لتتجه بالعراق ليكون دولة متقدمة

الدكتور عبدالحميد عبدالمجيد البلداوي
"وفي تجربة مهاتير بماليزيا قدوة حسنة"
تمهيد
تمر العقود والأزمان ويبقى توصيف دولنا بأنها نامية، والأصح متخلفة، ولكن من باب اللياقة تُسمى نامية، رغم أن أغلب هذه الدول النامية هي من ناحية الإمكانات المالية والطبيعية والكفاءة البشرية تُكافئ ما عليه بعض الدول المتقدمة.
وفي المقابل، يبقى توصيف العديد من الدول بالمتقدمة كما الحال مع الدول الغربية وأمريكا وبعض دول غرب آسيا التي انتقلت بعد الحرب العالمية الثانية من نامية إلى متقدمة كاليابان وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ بعد إدراكها للواقع كنتيجة لما حصل لها من مآسي الحروب.
ولكي نستفيد من تجربة بعض الدول كاليابان مثلاً، التي التحقت بركب الدول المتقدمة بعد الحرب العالمية الثانية، فقد رصدت الأموال بسخاء لأغراض الأبحاث باتجاه استمرارية تطوير كافة مجالات الحياة والتركيز على الصناعة وتحسين جودة الإنتاج والخدمات والتوسع فيها وتمسكهم بكل بادرة تأخذ بهم نحو التطور. فعلى سبيل المثال، بادر اليابانيون بتقديم كافة الإغراءات لعلماء تحسين جودة الإنتاج ورفع مستوى الخدمات وتركيزهم على مستوى الأداء. وعندما وصلت أنباء عن وجود علماء أمريكيين يبشرون باكتشاف أساليب للجودة، أسرع إمبراطور اليابان وأعلن بمنح أرفع الأوسمة لهؤلاء العلماء في حالة المجيء لليابان رغم أن حجم الطلب على المنتج في اليابان آنذاك كان يفوق العرض إلا أنها كانت تنظر للمستقبل. وعلى حين غرة، بدأ غزو المنتج الياباني للعالم لجودته، وعند تشخيص الأمريكيين لتجربة اليابان، أسرعوا باتجاه تكثيف الدراسات والبحوث لرفع جودة المنتج ونوعيته للتمكن من المنافسة الحادة التي سبقتهم إليها اليابان.
ماهية العوامل الفاعلة التي تأخذنا باتجاه التقدم:
على فرض توفر مصادر طبيعية ومالية وكوادر بشرية متمكنة في البلد وتقوده نخبة حاكمة كفؤة على غرار رئيس الوزراء الحالي تسعى بإخلاص لتحقيق تقدم وتطور المجتمع.
وآخذين بنظر الاعتبار تجربة الدول المتقدمة وما هم عليه الآن، فإن هذه العوامل تتلخص بما يلي:
-
اعتماد الحكومة في اتخاذ كافة قراراتها الاستراتيجية على نتائج بحوث علمية رصينة مع وجوب الإنفاق على مثل هكذا بحوث بسخاء: والمقصود هنا تلك الاستراتيجيات التي تخص:
- التصنيع بأوجهه المتعددة والاهتمام به كالاهتمام بالأمن الغذائي لأنه يحفظ أموال البلد ويكون مصدرًا لجذب الأموال من الخارج.
- الشؤون العسكرية والأمنية.
- الزراعة.
- بحوث الرقي بمستوى الخدمات ورفاهية المجتمع.
- تكييف التدريب وتكثيفه والتخطيط لمخرجات التعليم لما يتوائم ومتطلبات هذه الاستراتيجيات.
إن هذا العامل هو السبب الأبرز الذي جعل هناك دولاً ما متقدمة وأخرى متخلفة أو نامية، ففي الدول المتقدمة يرصدون الأموال الطائلة للبحوث والدراسات لتشخيص الأولويات والاهتمام الحقيقي باتجاه التميز المستدام في مجال التصنيع والتوسع فيه سعيًا لتدفق الأموال لبلدانهم بدلاً من خروجها مما يساعدهم على توفير ما تحتاجه مجتمعاتهم من الخدمات اعتمادًا على ما تنتجه مصانعهم وليس لاستيراد حاجاتهم.
ففي عصرنا الراهن، أصبحت عملية البحث العلمي والتطوير سمة تقترن بقوة الدول وتقدمها. وتشير التقارير السنوية الصادرة عن منظمة اليونسكو إلى أن دولاً متطورة مثل اليابان وأمريكا تنفق أكثر من 3% من إجمالي ناتجها المحلي على مجال البحث العلمي والتطوير، ويعمل بهذا المجال ما معدله 5000 باحث لكل مليون نسمة.
كما وتشير تقارير البنك الدولي إلى أن إسرائيل وكوريا الجنوبية تنفق ما نسبته 6% من إجمالي ناتجها المحلي، وأن المعدل العالمي للإنفاق على البحث والتطوير يصل عند 2.3% في حين لا تتجاوز نسبة الإنفاق على البحث العلمي والتطوير في العالم العربي ودول منظمة الأقطار الإسلامية عن 0.34%.
ولهذا، وعلى فرض سلامة الأنظمة الحاكمة في تسيير أمور مجتمعاتها، يصبح العامل الأبرز بتخلف الدول ومنها العربية والإسلامية عن مواكبة ركب الدول المتقدمة هو العوز في الإنفاق الكافي على البحث العلمي والتطوير وكما هو واضح من التقارير الدولية المشار إليها أعلاه.
-
الاهتمام بالجودة واستدامة التميز لكافة مفاصل الحياة: فمع اشتداد المنافسة على الأسواق التي عززها ظهور ظاهرة العولمة والاهتمام بالمنتج المحلي لتقليل الاستيراد، أصبح تحقيق الجودة حلمًا يراود جميع المنظمات سواء للقطاع الحكومي أو الخاص وأصبحت الجودة تعني الوجود (ممثلة في تغطية التكلفة وتحقيق الربح) وإن التراجع عنها (المتمثل في عدم رضا العملاء) يعني نهاية هذا الوجود. عليه: فالجميع يحتاج إلى تحقيق الجودة والتميز، وأصبح لزامًا توسع البحث عن أنجع الطرق للوصول لهذا الهدف وخاصة من خلال توظيف النمذجة لما توفره من مرونة في استدامة الجودة والتميز وما تضعه أمام متخذ القرار من سيناريوهات مختلفة تساعد على اختيار ما يتناسب والإمكانات المتوفرة لدى الجهة المعنية.
-
تكثيف عملية التدريب والتأهيل ورفع كفاءة الأداء بما يتماشى ومستجدات التغيرات التكنولوجية وطبيعة الحاجة الحقيقية لسوق العمل، بجانب التخطيط للمواءمة بين مدخلات ومخرجات القوى العاملة على مختلف المستويات والاختصاصات مع أخذ التوجه المستقبلي وفقًا للاستراتيجيات موضوع الفقرة (1) في أعلاه.
ويمكن إجمال أبرز المجالات التي يجب أن يستهدفها الإنفاق على البحث العلمي والتطوير بما يلي:
أولاً: الابتكار ومواكبة التطورات السريعة والشاسعة للعلوم والتكنولوجيا ومواجهة آثارها. على أن يشمل هذا المحور المساهمة الفعالة للذكاء الصناعي AI وصناعة الروبوتات وأن تُسهم بفعالية عالية بوضع استراتيجيات التنمية الاقتصادية - العسكرية والأمنية - الاجتماعية والتربوية.
ثانيًا: تهيئة مدخلات التعليم لتكون مخرجاته متوائمة وقادرة على إدراك الحاجة الحقيقية للوعي بالتغيير وتقدير الأفكار المحتملة والاستعداد لها، وما يطرأ من مستجدات. على أن يشكل هذا المحور القاعدة التي تستند عليها وزارتي التعليم العالي والتربية في مدخلاتها ومخرجاتها.
ثالثًا: إيجاد الحلول والبدائل الجديدة المبتكرة في معالجة ومواجهة المسائل العسكرية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية الناتجة وفقًا لما تأتي بها استراتيجيات المحور أولاً مع وضع التصورات العلمية للآثار التي يمكن أن تحدثها القرارات على المستقبل. بكلمة أخرى، يكون اتجاه عملها التكيف لتنفيذ استراتيجيات ما جاء في المحور أولاً.
رابعًا: تطوير أساليب وطرق إنتاج وتوزيع السلع والخدمات كما ونوعًا بالاعتماد الذاتي ولأجل مواجهة المنافسة المتزايدة في غزو الأسواق الحاد، وإن البحوث الأبرز في أنشطة هذا المحور هو ينصب على تحسين الأداء واعتماد الجودة والتميز في كافة المجالات.
خامسًا: اقتراح التشريعات والقوانين التي تنظم شؤون المجتمع وتوفر الرفاهية كـ:
- تسوية ظروف من هم في سن العمل وغير الحاصلين على عمل باقتراح معونات مؤقتة لحين الحصول على عمل منتج فعلي وليس مقنع واقتراح مشاريع منتجة لاستيعابهم وليس توظيفهم لترهيل العمل بهم.
- تسوية شؤون أولئك من هم خارج سن العمل وبدون دخل، واقتراح المشاريع التي توفر الراحة والمواءمة لهم من عناية طبية وترفيهية وتنقل وغيرها لإعطاء صور لائقة عن الاهتمام بأفراد المجتمع.
- تناول شؤون الأسرة ومتطلبات تنظيم العلاقة بين أفرادها وكذا الحال لمختلف مجالات الحياة وعلى الأخص نشر ثقافة الاستعانة بالمحاكم في أية مشكلة أو قضية كبيرة كانت أم صغيرة لتصبح سياقًا عامًا في حل النزاعات وتأهيل قوى الشرطة والأمن لتكون عونًا للأفراد في حل إشكالات التعاملات اليومية في حالة حصولها.
- العمل الجاد للوصول بالموظف من أن وجوده وقبوله للوظيفة هو للتعامل اللائق مع المراجع ومعاونته في إنجاز متطلباته لخلق مناخ ملائم لبناء ثقة متبادلة بين الحكومة والمجتمع.
ولأجل اللحاق بركب الدول المتقدمة من خلال تحقيق ما تقدم من أهداف، تبرز الحاجة الماسة لتأسيس هيئة عليا مستقلة للبحث والتطوير تتكون تشكيلاتها من المحاور الخمس المشار إليها وأن يتم الإنفاق عليها بما يوازي أهميتها وعلى أن لا يقل عن معدل 2.3% من إجمالي الناتج المحلي ولو بالتدريج أي بما يتماشى والمعدل العالمي رغم أنه يقل عن معدل ما تنفقه أغلب الدول المتقدمة كما هو واضح من المقدمة مع ضرورة الإشارة على أن يتميز عمل الهيئة بالخصائص التالية:
- أن يتولى الهيئة كوادر علمية مؤهلة والابتعاد عن التأثيرات الشخصية والحزبية.
- أن تستند البحوث إلى الحقائق مع القدرة على تعميمها وتطبيقها.
- أن يكون هناك توافق بين الاستنباط والاستقراء.
- القدرة على مزج البحوث بين النظرية والتطبيق وعلى بناء التنبؤات.