العراق وسوريا ينهيان مرحلة الفتور السياسي بينهما

أسعد الشيباني وزير خارجية سوريا (يسار) يزور بغداد ويلتقي نظيره العراقي فؤاد حسين، العراق، 14 مارس 2025 (أ ف ب)
بين سوريا والعراق طرق سالكة جغرافياً ممتدة على مدى ما يقارب 600 كيلومتر، ووشائج تاريخية طويلة من الأحداث التي شغلت عالمنا العربي أكثر من 1500 عام، والتي لا يمكن أن تطوى برغبة زعيم سياسي أو حتى نظام أراد أن يقطع الوشائج بين البلدين الجارين اللذين تربطهما مصالح مشتركة، لا غنى للبلدين عنها، بدءاً من نهر الفرات الذي ينبع في سوريا ويصب في العراق قاطعاً 2800 كيلومتر حتى يلتقي توأمه دجلة عند القرنة العراقية (تتبع محافظة البصرة)، ليكون شط العرب الذي يسقي أراضي أغنى منطقة في العالم وهي البصرة، إلى مصالح مصيرية يمثلها النسيج الاجتماعي والثقافي الطويل الذي لا يخلو من شعور بالمنافسة بين أخوين احترفا الصراع من الأزل، لكن ضلا السبيل للتوحد أو الاتفاق على قاعدة مصالح لا تعد أو تحصى، تأتي بالنفع للشعب المنقسم قسراً تحت مطرقة السياسة والمصالح الضيقة والسلطة الغاشمة والأيديولوجيا التي بدأت منذ القرن الأول الهجري، حين لم تحصل مبايعة الأمويين للعلويين، وخلفت تاريخاً من الدم والثارات التي يؤججها الولاة والغلاة، وأذكتها هيمنة الآخر، العثماني حيناً والأوروبي أحياناً والإقليمي حتماً، لكن ظلت أعواد الثقاب ما إن تشتعل حتى يتسارع الحريق بين البلدين اللذين يفضل ساستهما تسميتهما "القطرين".
شدد السوداني (يمين) خلال استقباله الشيباني على حرص العراق على أمن واستقرار سوريا (مكتب رئيس الوزراء العراقي الإعلامي/ رويترز)
صراع عراقي داخلي
وها هو الانقسام يعلن عن نفسه بين العراق وسوريا، حال الإعلان عن زيارة أسعد الشيباني وزير خارجية سوريا بغداد، من دون إعلام مسبق، انقسام اللادولة على الدولة العراقية، المتمثلة بحكومة محمد شياع السوداني، فقد استنكرت قوى اللادولة الزيارة، وهددت الحكومة وأخرجتها عما تسميه المصالح العليا والتوافق السياسي الذي عملت به طوال عامين من عمرها تحت عباءة "الإطار الشيعي" الحاكم، من دون مراعاة الظرف الدولي الذي يحيطها، وباتت تلك القوى تكبل الحكومة وتحول دون أي تسوية ومحاولة لتصفير مشكلاتها مع الآخر، حتى وإن كان حليف الأمس السوري. وبعد التغيير الجذري في سوريا تعرضت حكومة محمد شياع السوداني إلى نقد مرير، وهي تفرغ من مراسيم استقبال الضيف السوري الرفيع القادم من دمشق عاصمة الأمويين، ليمد يد المصافحة لبغداد عاصمة العباسيين، وهو الذي يأتي هذه المرة لحلفاء الأمس مع نظام بشار الأسد، في تحالف "الإطار الشيعي".
الشيباني: مستعدون للتعاون
رغم تأكيد الوزير السوري أسعد الشيباني مبعوث الرئاسة السورية على ما سماه "خطوات حاسمة سنتخذها لتطوير العلاقات بين البلدين، ونحن مستعدون للتعاون مع العراق في محاربة داعـش، وأن الشراكة القوية مع العراق وسوريا ستسهم في بناء المنطقة، وعلى البلدين أن يقفا معاً لمواجهة التحديات لمنع أي تدخل في شؤونهما الداخلية، والتعاون لرفض أي تدخل خارجي تمليه علينا قوى خارجية، وعلينا الشراكة القوية مع العراق التي ستسهم في بناء المنطقة، واثقون أن دمشق وبغداد ستخرجان من هذه المرحلة أقوى".
السوداني: سنسهم في إعمار سوريا
وأكد رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني للشيباني أثناء استقباله له في بغداد مرحباً به "استعداد العراق للمساهمة في دعم سوريا وإعادة إعمارها، وتقديم جميع التسهيلات اللازمة في هذا الشأن، مع تأكيد أهمية التنسيق لمواجهة أخطار الإرهاب، لتحقيق الاستقرار الداعم لإعادة إعمار سوريا والعمل على مواجهة الخطاب الطائفي"، وشدد على حرص العراق على أمن واستقرار سوريا، الذي ينعكس على أمن واستقرار المنطقة، وتأكيد أهمية استمرار المشاورات السياسية من خلال المضي بعملية سياسية شاملة، تحفظ التنوع والسلم الاجتماعي، مشيراً إلى أهمية احترام معتقدات ومقدسات كل فئات وشرائح الشعب السوري، وعدم القبول بأي اعتداءات أو انتهاكات تحصل ضد أي مكون منهم، "وأن موقف العراق واضح وثابت في احترام خيارات الشعب السوري، بكل مكوناته وأطيافه، وتأكيد الحرص على أمن واستقرار سوريا، مما ينعكس على أمن المنطقة"، ودعا إلى أهمية التنسيق لمواجهة أخطار الإرهاب لتحقيق الاستقرار.
وصلت الحال إلى إعلان نوري المالكي الذي أمضى وقتاً طويلاً من حياته في دمشق قبل 2003 إلى الإعلان عن استعداده لإرسال الجيش العراقي للقتال في سوريا دفاعاً عن نظام الأسد (رويترز)
صورة متناقضة
لكن للمتخصص في العلوم السياسية بجامعة "إكستر" البريطانية هيثم الهيتي رأياً في جدوى هذا التقارب قائلاً، "شكلت زيارة وزير خارجية سوريا العراق صوراً سياسية متناقضة، فطريقة الترحيب والاستقبال وحفاوة الاستقبال تدل إلى رغبة دبلوماسية عراقية جديدة لبناء علاقات ثقة وتجاوز الخلافات أو البعد الأيديولوجي في الصراع، أما التصور الثاني فقد تكون هناك رغبة سورية في فتح مجال سياسي جديد يطلب من بغداد أن تمارس دورها في لجم جماح القوى العراقية الرافضة للتغير في سوريا، من أي محاولات قد تضر بالاستقرار السياسي والأمني السوري، وبكل الأحوال فإن العلاقة السورية - العراقية تاريخياً كان دائماً يشوبها التصادم رغم التقارب الاجتماعي بين الشعبين الشقيقين، والحاجة الاقتصادية للبلدين، فسوريا منفذ مهم جداً على البحر المتوسط، والعراق يمتلك الطاقة التي تحتاج إليها سوريا، وتعاون البلدين في المجال التجاري والاقتصادي يمكن أن يخلق مناخاً فريداً في تحسين وضع البلدين".
أضاف الهيتي، "لا يمكن الجزم بأن هذه الزيارة يمكن أن تنهي الصراع، لكنها من المؤكد سترطب الأجواء وستفتح قنوات التواصل لتجنب أي مشكلات محتملة في ظل تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترمب بنوع من أنواع الضغط الاقتصادي على العراق".
انعكاس البعد التاريخي
وعزا الباحث السياسي المتخصص في العلاقات الدولية مؤيد الونداوي الصراع المتواصل بين العراق وسوريا إلى أبعاد تاريخية "إذ اتفق بموجب معاهدة سايكس - بيكو سنة 1916 على تقسيم منطقة المشرق العربي بين الحلفاء، وعندما انسحبت منها الجيوش العثمانية، باتت منطقة هيمنة ونفوذ تقاسمته بريطانيا وفرنسا، مما أسهم في تثبيت الحدود بين بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين التي كانت تعيش حال تواصل اقتصادي وتجاري وثقافي مشترك لوقت طويل، وهكذا حددت حركة السكان وحدة من التجارة الحرة عبر الفرات نحو المتوسط حيث كانت غالبية التجارة بين بلدان المنطقة تمر عبر ذلك الخط ومع بروز الدول العربية الحديثة شهد الواقع الإقليمي حالاً من عدم تقارب بين بلدان المشرق العربي لا سيما بين العراق وسوريا لأسباب كثيرة منها الحرب الباردة فضلاً عن مخاوف أطراف أخرى إذ إن أي تقارب بين البلدين قد يكون على حسابها".
وتابع الونداوي "آمن نوري السعيد (سياسي عراقي شغل منصب رئاسة الوزراء في العراق 14 مرة من عام 1930 إلى 1958) والنظام الملكي أن مصلحة العراق الوطنية والقومية تكمن في حصر تصدير نفطه عبر الأراضي العربية حصراً، فأنشأ خطاً جديداً لتصدير النفط العراقي عبر سوريا، بعد توقف خط كركوك - حيفا عام 1948، لكنه اكتشف بعد قليل قيام الضباط السوريين بتفجير هذا الخط عام 1956 بدعوى معاقبة بريطانيا وحليفها النظام في بغداد إثر العدوان الثلاثي على مصر".
قطيعة الـ40 عاماً
لم يتمكن البلدان من التقارب الحقيقي خلال 40 عاماً من حكم "البعث العراقي" و"البعث السوري"، صاحبي الأيديولوجيا القومية الواحدة، بل شهدت العلاقات قطيعة وعداء وتآمراً وصل إلى الحد الذي ساندت فيه سوريا إيران ومدتها بالسلاح والدعم خلال حرب الأعوام الثمانية في الثمانينيات (1980-1988)، وتابع الباحث السياسي الونداوي "شكل عام 2003 مفترق طريق بعدما تدفق أكثر من مليون لاجئ عراقي نحو الحدود السورية، هربوا جراء الغزو الأميركي لبلادهم وما رافقه من احترابات داخلية استمرت بضعة أعوام وشهدت أعمال تطهير عرقي وطائفي، وكان هؤلاء اللاجئون يمثلون الشرائح الاجتماعية العراقية واستقبلتهم سوريا واندمجوا في المجتمع السوري وتعايشوا، وبعد حين اتهم العراق الحكومة السورية بتصدير الإرهاب للعراق".
ومع اندلاع الثورة السورية شهدت العلاقات العراقية - السورية تحولاً حاداً في مسارها، وبسرعة، تحول النظام السياسي في بغداد إلى داعم رئيس لنظام الأسد، وتحت شعارات طائفية تم إرسال ميليشيات عراقية كبيرة لحماية المراقد الشيعية في سوريا، وانكرت بغداد علاقتها بتلك الميليشيات، حتى تحول الأسد من متهم وداعم للإرهاب إلى حليف للنظام العراقي الذي مده بالدعم المالي والسياسي والمقاتلين، حتى وصلت الحال إلى إعلان زعيم كتلة "الإطار الشيعية" الحاكمة نوري المالكي الذي أمضى وقتاً طويلاً من حياته في دمشق قبل 2003، إلى الإعلان عن استعداده لإرسال الجيش العراقي للقتال في سوريا دفاعاً عن نظام الأسد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انقسام الموقف العراقي
ورأى الونداوي أن "الموقف العراقي قد انقسم بين موقف الدولة الرسمي وموقف الميليشيات (محور المقاومة المدعوم إيرانياً)، رافض النظام الجديد بصورة قاطعة وأيضاً استقبال الرئيس السوري أحمد الشرع في بغداد مشاركاً في مؤتمر القمة العربية القادم، نهاية أبريل (نيسان) المقبل، وساند موقف الحكومة الرسمي كل من الأكراد والسنة لأسبابهم المعروفة، وازداد رفض الميليشيات التي لم ترحب بالنظام الجديد في سوريا، حتى تفجرت الأزمة، الفتنة الكبرى بعد التصادم بين العلويين في الساحل السوري وقوات الأمن السورية التابعة لدمشق، بصورة مفاجئة بعد استتباب الأمن خلال شهرين ونصف الشهر التي سبقت تلك الصدامات العنيفة التي راح ضحيتها مئات السوريين من كلا الطرفين، مما سينعكس حتماً على العراق ويعطي ذرائع لقوى اللادولة للحيلولة دون علاقات طبيعية وتعاون بين البلدين رغم النيات السورية المعلنة للتوصل لعلاقات طيبة وتعاون مشترك، وهي نيات تم التعبير عنها بوضوح في الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية السوري إلى بغداد".
الزيارة محطة انتقالية
لكن رئيس المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية غازي فيصل رأى أن "الزيارة شكلت فعلاً محطة لنقلة نوعية في العلاقات العراقية - السورية ومع دول الجوار، إن العراق مطالب بتطوير وتوسيع الاستثمارات في الموارد المشتركة في البلدين، والعمل لبناء علاقات وثيقة مع سوريا كدولة. أما النظام السياسي، فيرتبط بإرادة الشعب السوري وحقه في تقرير مصيره واختيار نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي طبقاً لميثاق الأمم المتحدة"، وقال فيصل، إن تشكيل غرفة عمليات مشتركة بين دمشق وبغداد لمحاربة تنظيم "داعش" سيفضي لتوثق العلاقات بين البلدين لكنه حذر من أن بقاء مخيم الهول، الذي يضم آلاف العائلات من "داعش"، "لا يزال يشكل تهديداً للأمن والاستقرار في المنطقة، إلى جانب سجون تضم عناصر من التنظيم تتطلب ضمانات أكبر لمراقبتها"، ودعا فيصل الحكومة العراقية "إلى تبني سياسة واقعية على صعيد العلاقات مع دول الجوار، وكذلك استراتيجية للانفتاح والتفاعل والتكامل الاقتصادي للتعاون على صعيد مختلف المشكلات: كالمياه والأمن، إلى جانب الحرب على الإرهاب وغيرها من المشتركات بين البلدين الكفيلة بتصفير المشكلات بينهما".
وقف إيجابي
ووصف الباحث السياسي فلاح المشعل اللقاء المفاجئ بين العراق وسوريا بزيارة وزير خارجيتها بغداد بأنه "موقف إيجابي يحسب للحكومة العراقية وللسوداني، مصالح العراق فوق الخلافات الطائفية ورضا هذه الدولة أو تلك من دول جوار العراق، وإن كسب الآخر المختلف أفضل من معاداته، تلك شروط السياسة الرشيدة".
لا خيار سوى الاستقبال
من جهته، قال الباحث السياسي ناجي الغزاوي "يبدو أن الحكومة العراقية لا تملك خياراً سوى استقبال وزير الخارجية السوري"، وقد تجد نفسها مضطرة أيضاً للتعامل مع الرئيس السوري أحمد الشرع واحتمال مشاركته في القمة والعربية والإقليمية المقبلة في بغداد "باعتبار سوريا عضواً في الجامعة العربية، إلى جانب الضغوط الدولية، مما يجعل من الصعب على العراق رفض ذلك".
لعبة المصالح
ودعا الكاتب السياسي علي رضا الحكومة إلى "تغليب المصالح الوطنية التي يجب أن تكون فوق الانقسامات الطائفية والتجاذبات الإقليمية. السياسة الرشيدة تقوم على بناء الجسور لا هدمها، وكسب الآخر المختلف بالحوار والتفاهم بدلاً من مواجهته بالصراع".
ورجح مراقبون عراقيون أن تسهم زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في فتح مسار جديد للعلاقة بين بغداد ودمشق، بعد أسابيع من حال التردد التي طبعت العلاقة بين البلدين عقب إطاحة نظام بشار الأسد وصعود إدارة جديدة يترأسها أحمد الشرع.