في ذكرى الأنفال.. كردستان ومفارقة الدعم الانتقائي

ثمة أصوات التضامن عاليةً مع قضايا شعوب مضطهدة تناضل من أجل حقها في الوجود والحرية، وهناك من كان ولا يزال يطالب بتحرير فلسطين، ودعم استقلال كشمير، والتعاطف آنذاك مع محنة الشيشان، والتنديد بمآسي الإيغور والروهينغا، وهذه قطعاً كلها قضايا عادلة، تشترك في خيط رفيع من الشعور بالظلم والرغبة في نصرة المستضعفين، كثيراً ما يكون دافعها الأخوة في الدين أو العروبة أو الإنسانية.
ولكن، في خضم هذه المساجلات، هناك صمتٌ مُطبق، أو ربما همسٌ خافت يكاد لا يُسمع، حين يتعلق الأمر بقضية شعبٍ آخر، مسلمٌ في غالبيته الساحقة، ذاق مرارة القمع والاضطهاد على مرّ عقود، ويمتلك من مقومات الهوية والخصوصية ما يؤهله لتقرير مصيره بنفسه: إنه الشعب الكردي. هنا تكمن المفارقة المؤلمة، والتساؤل المرير الذي يفرض نفسه بإلحاح: لماذا هذا الدعم الانتقائي؟ ولماذا تُستثنى كردستان من قائمة القضايا التي نتبناها بحماس؟
إن الناظر بعين الإنصاف ليتعجب من هذه الازدواجية في المواقف. فنحن، كعرب ومسلمين، نرفع لواء العدل ونُعلي من شأن حق الشعوب في تقرير مصيرها. نرى في قضية فلسطين جرحاً نازفاً في قلب الأمة، وفي كشمير قضية شعب مسلم يُراد له الذوبان في محيط مغاير، وقبلها في الشيشان وتركستان الشرقية وأراكان صرخات استغاثة من شعوب مسلمة تواجه القمع والتطهير. نتعاطف مع مسلمي مورو وباتاني وآتشيه وأوغادين، وندعم، ولو بشكل معنوي، تطلعاتهم نحو حكم ذاتي أو استقلال يحفظ هويتهم وكرامتهم.
وفي المقابل، نقف موقف الصامت، أو المتحفظ، أو حتى المعارض في بعض الأحيان، تجاه الطموحات الكردية. نتجاهل أن الأكراد، وهم إخوة لنا في الدين، قد تعرضوا لحملات إبادة وقمع ممنهج في دولٍ أربع، وأنهم قدموا تضحيات جسام في مواجهة قوى الإرهاب، وفي مقدمتها تنظيم "داعش"، دفاعًا عن أرضهم وعن المنطقة بأسرها. نغض الطرف عن امتلاكهم لغة وثقافة وهوية ضاربة في جذور التاريخ، وعن تجاربهم في بناء نماذج سياسية تسعى للتعددية والديمقراطية، كما في إقليم كردستان العراق.
يُقال إن دعم استقلال كردستان سيؤدي إلى تفتيت دول قائمة كالعراق وسوريا. عجباً! وهل كنا نتردد في دعم تفتيت الهند أو الصين أو روسيا أو ميانمار حين تعلق الأمر بكشمير أو تركستان الشرقية أو الشيشان أو أراكان؟ أليست وحدة أراضي تلك الدول ذات سيادة مصونة كغيرها؟ أم أن "وحدة الأوطان" تصبح مقدسة فقط عندما تكون هذه الأوطان عربية أو ذات غالبية مسلمة، وتُهدد مصالح قائمة؟
نبرر دعمنا لقضايا معينة بكون شعوبها مسلمة، لكننا نتجاهل أن الأكراد مسلمون أيضاً. فهل الدين هو المعيار الحقيقي، أم أنه مجرد غطاء لتمرير مواقف تخدم أجندات أخرى؟
ولعل الخوف من إغضاب دول إقليمية كتركيا وإيران، التي تضم أعداداً كبيرة من الأكراد وتناهض بشدة أي كيان كردي مستقل، هو ما يُلجم الألسنة ويُقيّد المواقف الرسمية والشعبية في كثير من الدول العربية والإسلامية. وهنا، تُضحى المبادئ قرباناً على مذبح المصالح السياسية والعلاقات الدبلوماسية الهشة.
أحيانًا، يُنظر إلى الطموح الكردي من زاوية القومية العربية الضيقة، التي قد ترى في أي كيان غير عربي ضمن "الفضاء العربي" تهديدًا للهوية أو نُقصانًا من النفوذ، متناسين أن الإسلام كان دومًا مظلة جامعة لمختلف القوميات والأعراق تحت راية الأخوة الإيمانية.
إن هذه المفارقة تدعونا لطرح أسئلة جوهرية، قد تكون محرجة لكنها ضرورية لمراجعة الذات وتصويب المسار:
- هل نقف مع العدالة كمبدأ مطلق، أم نجعلها رهينة للهوية والانتماء؟
- إذا كنا حقًا أنصار المظلومين والمضطهدين، فلماذا نصم آذاننا عن أنين الأكراد؟
- هل حق تقرير المصير مكفولٌ لجميع الشعوب، أم أنه يصبح حقًا فقط عندما يكون موجهاً ضد من نعتبرهم أعداءً أو خصومًا؟
- هل يمكن للعدالة أن تتجزأ وتُفصّل على مقاس المصالح السياسية الآنية؟
إن الصدق مع المبادئ يتطلب منا وقفة تأمل ومراجعة. لا يمكن أن نرفع شعار نصرة المستضعفين في مكان، ونتجاهلهم في مكان آخر لمجرد أن قضيتهم لا تتوافق مع حساباتنا السياسية أو تصوراتنا القومية. إن دعم حقوق الشعب الكردي المشروعة، بما في ذلك حقه في تقرير مصيره، لا يعني بالضرورة الدعوة الفورية لتقسيم دول قائمة، بل هو اعتراف بمبدأ أساسي من مبادئ العدل والإنصاف.
علينا أن نتعلم كيف نوازن بين دعم الحقوق الإنسانية والسياسية للشعوب، وبين السعي للحفاظ على الاستقرار ووحدة الصف قدر الإمكان، دون أن يكون أحدهما ذريعة لإلغاء الآخر. فإما أن تكون مبادئنا عالمية، تنطبق على الجميع بلا استثناء، وإما أن نعترف بأننا نكيل بمكيالين، وأن بوصلتنا الأخلاقية قد ضلت الطريق بفعل الرياح السياسية والمصالح الضيقة.
إن قضية كردستان هي مرآة نرى فيها تناقضاتنا، واختبار لمدى صدقنا مع القيم التي ندعي الإيمان بها. فهل نجرؤ على النظر في هذه المرآة بصدق وشجاعة؟
حمدون سعيد
كاتب من بغداد