بين الإلحاد والإيمان (2)
قد تحدثنا في المقال السابق عن معنى الإلحاد وعن أسبابه ونبذه مختصره عن تاريخه، والآن حان الوقت لنبدأ رحلتنا، رحله الشك واليقين، ولكن قبل أن نبدأ هذه الرحلة يجب أن يتطرق إلى أذهاننا ما أسباب تلك الرحلة؟ وهل لنا الحق في أن نخوض تلك الرحلة على ما بها من صعاب؟! وهي الأدوات اللازمة لتلك الرحلة؟!
فكما سبق وذكرنا أن هُناك غالبًا عاملًا نفسيًا وراء الإلحاد، ولكن الحقيقة أن هذا العامل النفسي هو بمثابه الوقود المُحرِك للثورة والصراع النفسي والعقلي، وقبل هذا العامل يكون هناك مُقدمات كثيرة!!
لنتذكر أيام طفولتنا عندما كان العقل في بدايه تكوينه، وفي تلك الفترة التي كانت تُدخَل كثير من المعلومات إلى عقولنا عن طريق الأب والأم والمَدرسة و وسائل الأعلام المرئية والمسموعة عن ديننا وثقافتنا، فكل منا وُلد ليجد نفسه على دين أبويه سواء أكان مسلمًا أم مسيحيًا أم على أي دين آخر.
وفي تلك الفترة يتم حشو عقولنا التي لم تتكون بعد ببعض الأفكار الصحيح منها والخطأ، ولكن هناك كثيرًا من الأطفال يكون لديه من الطفولة ذلك العقل الناقد!!
فكلنا تعلمنا بأن الله خلقنا وخلق الملائكة والحيوانات وكل ما في هذا الكون ويبدأ عقل الطفل الناضج في أول سؤال بديهي ليسأله داخل نفسه أولاً، إذا كان الله قد خلق كل هذه الكائنات إذن فمن خلق الله؟!
ويبدأ هذا الطفل في البحث عن سؤاله بحدود إمكانياته المتاحة فيتجه إلى أبويه ليسألهُما هذا السؤال (فمن منا لم يسأل أبويه هذا السؤال؟!)، ويكون رد فعل الأبوين إما بصد الطفل عن هذا السؤال أو بالإجابة بأن يستعذ بالله وأن هذا مدخل من مداخل الشيطان وأنه لا يصح أن يفكر في هذا الأمر وأن الله هو الإله ولم يخلقه أحد.
ولكن الطفل صاحب العقل الناقد لن تُشبعه هذه الإجابة ليكبر ويظل الشك والسؤال في داخله، وهنا يبدأ الطفل يكبُر وهو في مرحله تكوينه لينتهي تكوينه العقلي بأحد الشيئين، إما بأن يستسلم للإيمان الفطري الذي وُلد عليه أبويه ولقنوه إياه، وإما أن يبدأ أن يتبع هذا العقل النقدي الذي يبدأ في الشك المنهجي فيبدأ يسأل ويبحث ليجد إجابة عن تساؤلاته.
وهناك نوعان من الشك في الفلسفة، هما شك مذهبي دائم، وشك منهجي مؤقت.
النوع الأول: هو الشك المذهبي، ويتصف بالخصائص التالية:
1- مذهبي: لأن صاحبه يتخذه مذهبًا لنفسه في التفكير والحياة.
2- دائم: لأن صاحبه يظل معتنقًا له عن اقتناع بصحته دون التفكير في تغييره، خاصة بعد أن أصبح مذهبًا عند صاحبه.
3- هدف في ذاته: إذا كان هذا الشك عند صاحبه مذهبًا محددًا وكان أيضًا دائمًا لا يتغير فهذا يعني أن الشك يصبح حينئذ هدفًا مطلوبًا في ذاته.
4- يؤدي إلى الشك: مادام الشك هدفًا في ذاته، فإن ذلك يعني أن ممارسة هذا الشك لا يؤدي إلى نتيجة جديدة خلاف الشك نفسه.
5- هدام: وتعتبر هذه الخاصية نتيجة حتمية للخصائص السابقة، حيث لابد أن يتصف هذا النوع من الشك بالهدم فقط دون البناء.
النوع الثانى: هو الشك المنهجي، ويتصف بالخصائص التالية:
1- منهجي: لأن صاحبه يتخذه منهجًا فقط للتفكير، دون أن يتمسك به مذهبًا.
2- مؤقت: إن كل منهج للتفكير لابد أن يكون استخدامه مؤقتًا لحين تحقيق أهدافه المرجوة منه، أما المذهب فيبقى دائمًا لأنه مطلوب في ذاته.
3- وسيلة: كل منهج يعتبر في الوقت نفسه وسيلة، مؤقتة فالشك هنا وسيلة مؤقتة لتحقيق أهداف أبعد منه وأعلى.
4- يؤدي إلى اليقين: يعتبر هو الهدف الأساسي الذي نسعى إليه من استخدامنا لوسيلة الشك المؤقت.
5- بناء: هذه نتيجة حتمية مترتبة على الخصائص السابقة، إذ طالما الشك المنهجي يستهدف اليقين، فهو إذن شك بناء نافع للفرد والمجتمع معًا
وبالتالي فالشك المنهجي هو شك محمود؛ لأنه يسير بصاحبه إلى الحقيقه أما الشك المذهبي فهو شك يدل على جحود صاحبه وتعصبه.
ولكن هل لنا الحق في الشك؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال لابد أن نتأمل ونتعمق في فلسفه خلق الإنسان.
لماذا خلق الله الإنسان؟!
ستجد من يجيبك الإجابة المعتاده وهي لكي نعبد الله لقول الله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )* ولكن ألمْ يكُن هناك الملائكة قبل أن يخلُقنا الله؟ وكما ورد في الكتاب والسُنة أن الملائكة هي كائنات مُطيعة لله لكل منهم مقام معلوم ولا يعصون الله فهناك مَلَك ساجد دائمًا وهناك حملة العرش وهناك من يُسبح بحمد الله وغيرهم، إذن لماذا يخلق الله الإنسان؟!
يقول الله تعالى : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)**
فعندما أراد الله أن يستخلف الإنسان في الأرض كان الله يعلم أن الإنسان سيعصيه وسيُفسد في الأرض ويقتل، ولكن الله كان يريد نوعًا آخر من العبادة (وهو الغني عن العالمين) فإذا نظرنا إلى الملائكة نجد أنها كائنات مُبرمجة لا تعصي الله، حيث كلَّف الله لكل منهم مهمة ووظيفة فمنهم حامِل الوحي ومنهم مسئول الرزق ومنهم من يذكر الله ومنهم من يحمل العرش، لكن الملائكة كائنات كاملة ليس بها نقص، فالمَلَاك لا يأكل ولا ينام وليس له شهوات تُثنيه عن مهمته المُكلّف بها، ولذلك فإنه لا يُدرك معنى الألم لأنه لا يمرض ولا يتألم، لا يُدرك معنى الجوع لأنه لا يأكل، لا يُدرك معنى النجاة لأنه ليس عنده احتمال لوجود خطر، لا يُدرك معنى الحياة لأنه لا يموت، وبالتالي لن تجد الملاك يعرف معنى المعصية لانه لم يذُق إلا الطاعة!
فأراد الله أن يخلق الإنسان ويجعله خليفة في أرضه (وإنه لفخر كبير) وخلق للإنسان ما لم يخلُقه للملاك، فعلى الرغم من أن الإنسان مخلوق ناقص إلا أنه صاحب الإدراك، فالإنسان يُدرك معنى الألم لأنه يمرض، ولكنه لا يقف عند هذا الحد بل إنه يجتهد ليقهر هذا المرض عن طريق الأدوية، يُدرك معنى الجوع لأن لديه شهوة الأكل ولذلك تجده عبر كل القرون يبحث عن طعامه ويُسخر الأنهار للزراعة، يُدرك معنى النجاح لأنه ذاق مرارة الفشل، وبنعمة الإدراك استطاع هذا الإنسان الذي يبلُغ طوله في المتوسط مترًا ونصف أن يتسلق جبل إيفرستْ الذي يُقارب ارتفاعه تسعة كيلو مترات، نعم إنها نعمة الإدراك.
وإنما بنعمة الإدراك أراد الله أن نستدل على وجوده ونعبده، وأن نختاره بحرية الاختيار التي منحنا إياها، فقد ترك الله علامات وآيات تدُل على وجوده وأرسل الرسُل والأنبياء ليستخدم الإنسان إدراكه فيصل إلى الله.
ولذلك كان من حقنا أن نشك شكًا منهجيًا بحثاً عن الحقيقة، وفي سبيل الحقيقة وحدها نُقاتل شهواتنا وجحودنا.
ولكن هل الشك المنهجي هو شك لأصحاب الإيمان الضعيف كما يعتقد بعضهم؟!
بلى هناك من الأنبياء من كان لديه هذا الشك المنهجي وكثير من أكبر العلماء كالإمام أبو حامد الغزالي وهذا ما سنتعرف عليه في المقال القادم.
———————————————————————————————————————————————-
*[سوره الذاريات الآيه 56 ]
**[سوره البقره الآيه 30 ]
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست