فترة التفكك الإسلامي وموقعة الحربية «Le Forbie»
ينظر البعض باستنكار إلى ما يحدث في منطقتنا العربية من وجود علاقات مختلفة الأشكال سواء اقتصادية أو سياسية أو أمنية بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية وصلت إلى حد وجود تنسيقات عسكرية ضد دول وكيانات عربية وإسلامية.
وكما يقول الدكتور قاسم عبده: “والمدهش حقًا، أننا ما نزال في الغالب الأعم “نقرأ” التاريخ على أنه نوع من قصص الماضي تُحكى في مجالس السمر، كما أن البعض يظنه “حلية” تزدان بها الرؤوس الفارغة، كما لو كان نوعًا من “التاريخ المعلب” الذي يمكن استخدامه في المناسبات و”حسب الطلب”، وقليلون هم الذين أدركوا أهمية التاريخ باعتباره علمًا ذا وظيفة، بيد أنه يرتبط بالحاضر والمستقبل من حيث هدفه ودوره في خدمة الجماعة الإنسانية”.
وفي مقالنا هذا نوضح أحداثًا في حقبة تاريخية قديمة تتشابه فيها الأحداث والظروف مع وضعنا الحالي.
بعد موت صلاح الدين يمكن اعتبار عصر خلفائه فترة توقف للمد الإسلامي، فقد كانت فتوحات صلاح الدين والتصدي للحملة الصليبية الثالثة، قد استلزمت جهدًا كبيرًا منه رحمه الله وسعى خلفاؤه من أسرته إلى تجنب مثلها مرة أخرى، وذلك بسبب ما دب بين أفراد الأسرة الأيوبية من نزاعات، ولولا بروز العادل شقيق صلاح الدين لضاع كل ما حققه صلاح الدين من إنجازات وبفضله أعاد الوحدة إلى الدولة الأيوبية.
بعد موت العادل دب النزاع بين أبنائه الثلاثة الكامل والاشرف والمعظم، الذين كان اتحادهم هو العامل الرئيسي وراء اندحار الحملة الصليبية الخامسة وحماية ما حققه صلاح الدين من مكاسب جعلت ميزان القوى في المنطقة لصالح المسلمين.
سلم الملك الكامل مدينة القدس إلى الصليبيين صلحًا بمقتضى الاتفاقية التي وقعها مع فريدريك الثاني إمبراطور ألمانيا، وذلك نظير مساعدته له في قتاله ضد أخيه المعظم.
“لكي يضمن الكامل ملكه فرط فيما بذل فيه المسلمين دماءهم من أجل استرداده من يد الصليبيين”.
جاءت وفاة الملك الكامل نذيرًا بتفكك الدولة الأيوبية وانهيارها، فقد وقعت الخلافات بين أمراء البيت الأيوبي واشتعلت الحروب بينهم، وانتهى الأمر بتركز النزاع بين الصالح أيوب الذي استولى على مصر وعمه الصالح إسماعيل الذي استولى على دمشق.
وصلت إلى عكا قوات الحملة الصليبية التي يقودها تيبالد ملك نافار في عام 1239 وقامت القوات الصليبية بمهاجمة أملاك الصالح أيوب في غزة وعسقلان لكن حلت الهزيمة بهذه القوات بالقرب من غزة على يد جيش الصالح أيوب، واستغل الناصر داوود صاحب الأردن والكرك خرق الصليبيين لمعاهدة الكامل مع فريدريك وبنائهم سورًا لمدينة القدس ودخل القدس بجيشه وطرد منها الصليبيين.
تحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين ومع بعض أمراء الشام الأيوبيين ضد الصالح أيوب وحليفه الناصر داوود واستطاع الصالح إسماعيل والصليبيين هزيمة قوات الناصر داوود، وزحف الحلفاء باتجاه غزة ليواجهوا قوات الصالح أيوب، وانهزم الحلفاء بعد أن قامت قوات الأيوبيين الشامية بالانضام لجيش الصالح أيوب، لكن من عجائب التاريخ عقد الصالح أيوب صلحًا مع الصليبيين والصالح إسماعيل تم منحهم فيه عسقلان وصفد التي أخذها فرسان الدواية، وفي نوبة غضب للناصر داوود صاحب الكرك قام بتسليم القدس مرة أخرى للصليبيين.
لكن سرعان ما دب الخلاف مرة أخرى بين الغريمين الصالح أيوب والصالح إسماعيل، وتحالف كل أمراء الشام الأيوبيين مع الصالح إسماعيل، وسعى الغريمان إلى التحالف مع الصليبيين.
“كانت وما زالت المصالح الخاصة للحكام هي الدافع وراء طلب المساعدة وعقد التحالف حتى وإن كان مع الشيطان نفسه دون النظر لأي اعتبارات دينية أو إستراتيجية”.
وعرض كل من الصالح إسماعيل والصالح أيوب على الصليبيين التنازل نهائيًّا عن القدس بما فيه الحرم الشريف وكل إقليم الجليل بما فيه من حصون وزاد الصالح إسماعيل بأن عرض أن يمنح للصليبيين جزءًا من أراضي مصر بعد الانتصار على الصالح أيوب، ووافق بارونات وأمراء الصليبيين على التحالف مع الصالح إسماعيل وأمراء الشام.
ولم يجد الصالح أيوب إزاء هذا الخطر الذي يتهدد دولته وملكه إلا الاستنجاد بحلفائه القدامى من الخوارزميين، وفي عام 1244 اندفع جموع الخوارزميين باتجاه الشام مدمرين كل ما يصادفهم في طريقهم حتى وصلوا إلى فلسطين، واقتحموا مدينة القدس بعد أن بذلوا السيف فيمن فيها من الصليبيين وقاموا بتدمير مقابر ملوك القدس.
استطاع الصليبيون جمع أكبر قوة قتالية في معركة منذ حطين وتصل الرواية الإسلامية بالجيش إلى أكثر من 30000 مقاتل، تحركت قوات الصليبيين ومعها قوات دمشق وحمص والكرك من عكا إلى غزة، بينما تجمعت قوات الصالح أيوب ومعها الخوارزميون بقيادة الأمير المملوكي ركن الدين بيبرس الكبير عند قرية الحربية بغزة.
كانت قوات الصليبيين في ميمنة الجيش ووضعت قوات حمص ودمشق في القلب وقوات الكرك والأردن في ميسرة الجيش، قام الصليبيون بهجوم قوي على ميسرة جيش الصالح أيوب الذي ثبت واستطاع صد الهجوم، في حين قام الخوارزميون بتوجيه ضربة عنيفة إلى ميسرة وقلب القوات الأيوبية الشامية، وأصاب الذعر هذه القوات وفرت من ميدان المعركة وحاولت قوات حمص بقيادة المنصور إبراهيم الثبات لكنها تكبدت خسائر عنيفة.
دفع الهجوم الخوارزمي قوات حمص والقوات الصليبية إلى أحضان فوج المماليك البحرية الذي كان تسليحه الأساسي الأقواس والفؤؤس والقضبان الشائكة، كانت أول معركة يشارك فيها هذا الفوج، والذي أعمل القتل والذبح في الصليبيين.
انتهت المعركة بانتصار قوات الصالح أيوب والخوارزميين وفرار قوات الأيوبيين الشامية وتدمير كل قوة الجيش الصليبي، وكانت هذه الهزيمة تعد أسوأ كارثة حلت بالصليبيين بعد حطين لما تكبدوه من خسائر في الأرواح والمعدات وضياع غالبية أملاكهم في فلسطين.
فبمجرد انتهاء المعركة استولى الصالح أيوب على كل ما أعطاه الصالح إسماعيل للصليبيين، وفي عام 1247 استولى الصالح أيوب على دمشق من الصالح إسماعيل واسترد مدينتي عسقلان وطبرية من الصليبيين، وفي عام 1249 سلم أبناء الناصر داوود حصن الكرك وأملاك أبيهم للصالح أيوب.
كانت الهزيمة المدوية للصليبيين في موقعة الحربية وكذلك دخول الخوارزميين بيت المقدس واستردادها للأبد من يد الصليبيين هي العامل الذي أدى إلى خروج حملة صليبية ضخمة من أوروبا يقودها ملك فرنسا لويس التاسع إلى الشرق وعرفت باسم “الحملة الصليبية السابعة”.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست