«كارنيغي»: مقاربة أمريكية جديدة للأمن الخليجي في أعقاب الاتفاق النووي
تشكل المعضلة الأمنية أحد أهم وأكبر الإشكالات في منطقة الخليج العربي، وهو ما يسلط الضوء عليه الباحثان: فريدريك ويري، ريتشارد سوكولسكي من معهد كارنيغي للسلام الدولي، في دراستهما التي جاءت تحت عنوان: “تصور نظام أمني جديد في منطقة الخليج“.
ويشير الباحثان إلى أن الصراع الجوهري في هذه المنطقة يتركز بشكل كبير على وجود القوات الأمريكية، ففي حين تسعى إيران إلى إخراج الولايات المتحدة من المنطقة، فإن دول الخليج العربية ـ وفي مقدمتها السعودية ـ تسعى إلى إبقاء القوات الأمريكية لموازنة القوة الإيرانية.
ويرى الباحثان أن الاتفاق النووي يمكن أن يمثل فرصة لإنشاء نظام أمني جديد يحقق توازن القوى في منطقة الخليج يساعد على الحدّ من الالتزام العسكري الأمريكي، ويحسن علاقات إيران ودول الخليج العربية.
(1) الحاجة إلى نظام أمني جديد
تشير الدراسة إلى أن 30% من تجارة النفط البحرية تمر عبر مياه الخليج، وقد تورطت الولايات المتحدة في المنطقة، إما بشكل مباشر كما حدث في العراق، أو بشكل غير مباشر، عبر تعهدها بدفع الأسلحة إلى دول الخليج العربية. وبهذا تسفر هذه التدخلات الأمريكية عن نتائج حاسمة على مستوى تعزيز الأمن في المنطقة.
وأشارت الدراسة إلى الاتفاق النووي بين إيران، ومجموعة دول 5+1، بوصفه بداية لمقاربة أمنية جديدة في منطقة الخليج، ورغم أن هذا الاتفاق من شأنه أن يزيد الأدوار العسكرية التي تلعبها إيران في جميع أرجاء المنطقة، إلا أنه من المنتظر أيضا أن الاتفاق سوف يزيد من مساحات الاتصالات الثنائية بين إيران والولايات المتحدة، ويشير الباحثان إلى أن إدارة هذا التوازن بين إعادة دمج إيران، مع الاحتفاظ بالقدرة على تقييدها، سيكون هو التحدي الدبلوماسي الأصعب أمام هذه المقاربة الأمنية.
وتشير الدراسة إلى أن مجلس التعاون الخليجي يعاني من خلل كبير لا يؤهله للقيام بهذه الوظيفة، وذلك نظرا لأن المجلس ـ من ناحية ـ ليس أكثر من تحالف دفاع جماعي ضد إيران بحكم الأمر الواقع، وهو يستبعد إيران والعراق من بين صفوفه، إضافة إلى كون المجلس لا يشمل في تشكيله الدول الفاعلة في القضايا الأمنية في المنطقة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي إلى الصين، ولذا فإنه لا يوفر آلية للمناقضة الصريحة للاحتياجات الأمنية.
وتؤكد الدراسة أن هناك مخاوفا من أن هذا الانفتاح ربما يزيد من سلوك إيران العدائي في المنطقة، إلا أنها تعود لتؤكد أن هناك محفزات متجذرة في سلوك طهران تتجاوز بشكل كبير آثار الاتفاق، وأهمها الحماس الأيديولوجي والردع الاستراتيجي. وتنصح الدراسة الولايات المتحدة برعاية حوار خاص ما بين إيران ودول الخليج العربية؛ حول قضايا الخلاف الأمني في سوريا والعراق واليمن، كخطوة أولى لتأسيس مقاربة أمنية شاملة في المنطقة، ولطمأنة دول الخليج حول احتياجاتها الأمنية في الوقت الذي تقلص فيه الولايات المتحدة من تواجدها.
(2) ملامح استراتيجية جديدة
أشار الباحثان إلى 4 أولويات أمنية للولايات المتحدة في المنطقة عددها الرئيس الأمريكي باراك أوباما في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر من العام 2013. وجاءت الأولويات كما عددها أوباما: مواجهة العدون ضد حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، والحفاظ على تدفقات الطاقة، ومنع تطوير أسلحة الدمار الشامل، وتفكيك شبكات التنظيمات المتطرفة. وأشارت الدراسة إلى مجموعة فرضيات ينبغي أن تستند عليها المقاربة الأمنية الجديدة في منطقة الخليج:
أولا: تقليص مشاركة الولايات المتحدة في المنطقة إلى الحد الأدنى، لكن مع ضمان استمرار هذه المشاركة على المدى الطويل، على أن تتحمل بلدان منطقة الخليج المسئولية الأولى في الدفاع عن نفسها، وتنسيق التعاون متعدد الأطراف في مواجهة التحديات العابرة للحدود.
ثانيا: النظر إلى الضغوط والمشاكل الداخلية، وليس إيران، بوصفها التهديد الأكبر في مسار النظام الأمني الخليجي، مع الاعتراف بدور إيران في إذكاء هذه الاضطرابات وتضخيم ردود الأفعال الناجمة عنها، وهذا يتطلب دفع هذه الدول إلى إجراء إصلاحات داخلية لتحقيق مقاربة أمنية أكثر استدامة لمواطنيها، والحد من جاذبية الأيديولوجيات الأكثر تطرفا وقطع الطريق مع التدخل الإيراني.
ثالثا: التزام الولايات المتحدة بدور أكثر حيادا في التنافس الطائفي والجيو/سياسي بين إيران والمملكة العربية السعودية، والسعي إلى تأسيس أطر عمل مشتركة لحفظ التوازن بين البلدين.
(3) الملامح الأساسية
تشير الدراسة إلى وجود عدة تجارب تاريخية لمحاولات تأسيس هياكل أمنية فاعلية يمكن أن تقدم دروسا لبناء النظام الأمني الجديد مشيرة إلى أن منطقة الشرق الأوسط ظلت عصية بشكل خاص على إقامة الهياكل الأمنية منذ مؤتمر مدريد للسلام. أحرزت المجموعات المكلّفة بالعمل على قضايا المياه، والحدّ من التسلّح، والأمن الإقليمي، تقدّماً متواضعاً قبل أن تنهار العملية في نهاية المطاف بعد وصول مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية إلى طريق مسدود. ومن ساعتئذ فإن أي مناقضات حول تأسيس بنية أمنية إقليمية غالبا ما كانت تنتهي إلى لا شيء.
العضوية:
تشير الدراسة إلى أنه من أجل التغلب على عقبات التجارب السابقة، فإن أية بنية أمنية جديدة ينبغي أن تشمل إيران والعراق، بالإضافة إلى دول الخليج العربي ـ دول الخليج + 2 ـ إضافة القوى الخارجية الكبرى التي يمكن أن تسهم في حل النزاعات، على أن يحوي المنتدى على أقل عدد ممكن من الأعضاء المؤسسين، إلا أن انضمام القوى الكبرى إلى هذا المنتدى سوف يطرح إشكالات أكبر بين أعضائه الرئيسيين حول هوية هذه القوى المنضمة الدور الذي يمكن أن تقوم به. على سبيل المثال: فإن إيران سوف تعترض على انضمام الولايات المتحدة إلى أي منتدى أمني خليجي، ويقترح البحثان كنمط من الحلول الوسطى أن تقتصر عضوية الدول الكبرى على منتدى فرعي موسع يعنى بمناقشة تدابير الأمن وبناء الثقة، وتدابير الرقابة على الأسلحة.
جداول الأعمال:
تأتي قضية الأمن الإقليمي والصراعات بالوكالة الممتدة بطول المنطقة وعرضها على رأس قائمة القضايا ذات الأولوية. إضافة إلى التحديات المشتركة، وعلى رأسها أمن الممرات البحرية والقرصنة والإرهاب، وبالأخص أمن مضيقي هرمز وباب المندب.
تأتي في قائمة الأولويات أيضا التعاون في مصادر الطاقة وزيادة فرص الاقتصاد والتجارة للدول الريعية التي تعاني أزمات اقتصادية إثر انخفاض أسعار النفط.
(4) التحديات الكبرى
أولا: ويخلص الباحثان إلى أن الصراع السعودي الإيراني يبقى التحدي الأكبر أمام تنسيق أي نظام أمني يجمع البلدين معا، وبخلاف حروبها بالوكالة الممتدة عبر المنطقة فإن كلا من إيران والمملكة العربية السعودية تحملان رؤى مختلفة بشأن الأمن الخليجي. لا تزال السعودية ودول الخليج العربية تؤمن بأهمية وجود دعم عسكري خارجي لموازنة الوجود الإيراني، ولتأكيد أحقيتها الشرعية في القيادة، في الوقت الذي تتمسك فيه الرؤية الإيرانية بأن تكون منطقة الخليج خالية من الولايات المتحدة وجميع القوى الأجنبية، حيث يرى الإيرانيون هذه القوات كأدوات استراتيجية تهدف إلى تطويق إيران.
وأشارت الدراسة إلى سعى المعتدلين في طهران إلى انخراط إيراني مع الدول الخليجية الأصغر، للوقيعة بينها وبين كل من المملكة العربية السعودية، وذلك تزامنا مع جس نبض النخبة الحاكمة في السعودية، كما فعل جواد ظريف في إبريل/نيسان 2015 حين اقترح في مقال له بصحيفة نيوروك تايمز إقامة حوار حول تدابير بناء الثقة والأمن، ومكافحة الإرهاب والتطرّف والطائفية، وضمان حرية الملاحة وحرية تدفّق النفط والموارد الأخرى، وحماية البيئة، على أن يضمن اتفاقات عدم الاعتداء، وأن يقتصر على دول المنطقة.
في المقابل فإن المملكة العربية السعودية تقابل هذه الإشارات بتشكك كبير؛ لخوفها من أن تلعب دور الشريك الأصغر للولايات المتحدة في المنطقة بعد إيران، ونظرا لوجود قناعة في المملكة أن المتشددين في إيران هم من يتحكمون في اتجاه سير الأمور في النهاية مهما كانت إشارات المعتدلين. وفي المقابل فإن السعودية تدافع أن وجود مجلس تعاون خليجي أكثر قوة وحزما من شأنه أن يُغني عن الحاجة إلى قوة خارجية موازنة ضد إيران، حتى إنها اقترحت ضم اليمن (24 مليون نسمة) من أجل إعطاء المجلس قوة ديموغرافية في مواجهة إيران.
ثانيا: يشكل الانقسام داخل دول مجلس التعاون الخليجي عقبة أخرى، إلا أن هذا الانقسام قد تجاوزه ـ ولو بشكل مؤقت ـ كرد فعل على تزايد تهديد إيران لدول الخليج. كما ساهمت التحديات الأمنية من التعاون الأمني والاستخباراتي بين هذه الدول وبعضها البعض، حيث تتعاون مخابرات دول مجلس التعاون فيما بينها بمستويات غير مسبوقة، وتتبادل القوائم السوداء بأسماء المعارضين، وترفض منح التأشيرات للأجانب الذين ينتقدون أنظمة دول مجلس التعاون، وتقوم بالاعتقالات لحساب بعضها البعض، سوى سعيها لزيادة الترابط الثقافي والعلاقات الاقتصادية فيما بينها. لكن تبقى الإشارة إلى عدد من التطورات المنتظرة، والتي قد تسهم في زيادة الاختلافات من جديد وفقا للدراسة.
أول هذه التطورات هي أن العديد من هذه الدول تواجه تحدّيات الخلافة التي قد تغري الأنظمة الحاكمة في بعض الدول بالتدخّل في عمليات انتقال القيادة عند جيرانها من أجل الاستفادة منها. وثاني هذه العوامل هو أن تحوّل دول الخليج في المستقبل عن النماذج الاقتصادية الريعية وسعيها لإقامة علاقات تجارية خارجية واسعة يمكن أن يسهم في نشوء حالة من تعارض المصالح والانقسام بينها.
ثالثا: تشهد العلاقات بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون تضاربا كبيرا في الآونة الأخيرة. لا تقنع دول الخليج كثيرا بالتطمينات الأمريكية تجاه أمنها، لذا فإنها تنتهج مسارا مزدوجا في الحصول على التزامات أميركية، في الوقت الذي تسعى فيه لضمان استقرارها بطريقتها الخاصة.