عملية إنقاذ كنوز مالي الإسلامية بمساهمة دير مسيحي -
تمكن متطوعون يعدون بالمئات من إنقاذ كنوز مالي الثقافية عبر دروب محفوفة بالمخاطر، وذلك بمساعد من قبل عبد القادر حيدرة.
بدأت عملية التهريب ليلاً. وأُخفيت كتب قديمة في صناديق معدنية حُملت كل ثلاثة أو اربعة صناديق منها في سيارة واحدة لتقليل الخطر على السائق ومن الخسائر المحتملة قدر الامكان. وكان مهربو المخطوطات يمرون بنقاط تفتيش وحواجز أقامها الإسلاميون المتطرفون على طريق الرحلة عبر الصحراء من تمبكتو الى العاصمة باماكو. وحين قُطع الطريق لاحقا أخذوا ينقلون شحناتهم الثقافية عبر نهر النيجر بالقوارب.
وكانت البضاعة المهربة جزء من مجموعة نفيسة من كنوز الأدب الاسلامي التي نجت من الفيضانات وحرارة الشمس والغزو على امتداد قرون في تمبكتو. ولكن المتمردين الطوارق احتلوا المدينة في نيسان/ابريل 2012 وسرعان ما طردهم حلفاؤهم في تنظيم القاعدة في المغرب الاسلامي.
وإزاء حقد المتطرفين على الثقافة عموما كما يتضح من تدميرهم المكتبات والآثار في ليبيا بدأت عملية تهريب المخطوطات الاسلامية في تشرين الأول/اكتوبر من ذلك العام. وطُرد "الجهاديون" من تمبكتو بمساعدة القوات الفرنسية في مطلع 2013 وتمكن الصحافيون من رؤية جناح في مكتبة تمبكتو كانت النار لم تزل مشتعلة فيه. ولكن غالبية المخطوطات النفيسة هُربت قبل اضرام النار في المكتبة.
العقل المدبر
كان العقل المدبر لخطة تهريب هذه الكنوز الثقافية عبد القادر حيدرة المولود في تمبكتو عام 1965 حيث نشأت وسط هذه المخطوطات. فان والده الخبير بالمخطوطات القديمة ورث مجموعة منها تعود الى القرن السادس عشر وأمضى سنوات حياته في توسيع المجموعة. وكانت طموحات ابنه الاكاديمي حتى اكبر. فهو يرأس منذ عام 1996 منظمة لصيانة المخطوطات النفيسة اسمها "سافاما". وفي مكتبه في باماكو تزين الرفوف نسخ مجلدة تجليدا جميلا من المصحف. وكانت المخطوطات مكدسة في اكوام على الطاولة وفي اركان المكتب حيث اصبح الباحث حيدرة حارسها وحاميها من التلف والضياع.
يصف حيدرة مدينة تمبكتو بأنها عاصمة الصحراء لدراسة المخطوطات. ولكن المدينة كانت مركزا واحدا من مراكز عديدة ازدهرت فيها العلوم الاسلامية بالتزامن مع عصر النهضة في اوروبا. وكان يجري تبادل الكتب خلال مرور القوافل بالمدينة، وفي أواخر القرن السادس عشر كانت تُنسخ هناك. وكان محبو العلم يبنون أو يشترون مكتبات عامرة بالمؤلفات والأعمال الفكرية في النحو والمنطق وعلم الكلام وبلاغة القرآن وتعاليمه والفلك والطب والموسيقى. وترك احمد بابا احد مقتني هذه النفائس الثقافية ثروة من الكتابات والفهارس حتى ان المؤرخين يصفون تلك الفترة بأنها كانت ذروة حضارية.
ولكن الدكتور حيدرة وجه نداء يناشد فيه العالم تمويل عملية انقاذ هذه الدرر الثقافية بعد ان احكم "الجهاديون" قبضتهم على المدينة في عام 2012.
صفحة جديدة
ساهمت في تمويل العملية، من بين جهات أخرى، الحكومة الألمانية واليانصيب الهولندي ومانحون افراد بلغت تبرعاتهم مليون دولار فيما جمعت 700 الف دولار اخرى على الانترنت.
كانت السيارات المحملة بالمخطوطات المهربة تنطلق ليلا على طرق وعرة بقيادة سائقين اقسموا بأن يحافظوا على سرية العملية. وبعد رحلة تستغرق اكثر من 12 ساعة محفوفة بالمخاطر الى باماكو كان الدكتور حيدرة يستقبلهم ويتسلم منهم المخطوطات لتوزيعها على اصدقاء موثوقين بهدف حفظها في بيوتهم. وكان السائقون يعودون ادراجهم لنقل شحنة اخرى في رحلة خطيرة اخرى. وكان كل من المتطوعين الذين يعدون بالمئات أقدم على هذه المخاطرة بارادته ومرات عديدة. وتوجد الآن اكثر من 370 الف مخطوطة محفوظة في بيوت آمنة في باماكو، أو نحو 95 في المئة مما كان محفوظا في تمبكتو بحسب تقديرات الدكتور حيدرة.
وبهدف الحفاظ على المخطوطات للأجيال القادمة طلب الباحث حيدرة في عام 2013 المساعدة على رقمنتها. وتلقى الرد من دير في النصف الآخر الكرة الأرضية.
في مكان ما من الشمال المتجمد
قال الأب كولومبا الذي يدير مكتبة المخطوطات في قبو دير سانت جون في ولاية منيسوتا الاميركية ان المكتبة تعتبر مركز المخطوطات الأوروبية. مشيرا الى نحو 100 الف لفة من الميكروفيلم صورت عليها مخطوطات من سائر انحاء اوروبا.
وكان الأب كولومبا يعرف بمخطوطات مالي منذ فترة. وابدت مكتبته اهتماما بما تضمه مدينة تمبكتو من نفائس ثقافية وتراثية. ولكنها لم تدعم هذه الاهتمام بخطوات ملموسة لأن المدينة كانت متخمة بالمانحين. وقال الأب كولومبا لمجلة الايكونومست "انهم لم يكونوا بحاجة الينا". ولكن الوضع تغير في عام 2012 بوقوع المدينة تحت سيطرة عناصر القاعدة.
وحين طُردوا منها كانت مكتبة دير سانت جون أول الجهات التي وافقت على رقمنة المخطوطات بتمويل من مؤسسة الأمير كلاوس الهولندية التي تهدف الى مد جسور بين ثقافات الشعوب وساهمت في تمويل عملية تهريب المخطوطات من تمبكتو ايضا. وهكذا اصبح نسخ المخطوطات الاسلامية في مالي أكبر مشروع من حيث الحجم ناهيكم عن المفارقة المتمثلة في رهبان من القرن الحادي والعشرين يسترشدون بقديس من القرن السادس يقومون بأرشفة نصوص عن نبي عربي من القرن السابع.
كانت العاصمة المالية باماكو آمنة حين التقى الأب كولومبا بالدكتور حيدرة في آب/اغسطس 2013. ورافقه في زيارته مدير المعلومات وفريق من الفنيين لبناء استوديو يمكن فيه تصوير المخطوطات. فنُصبت انوار كاشفة وكاميرات وجرى تدريب مصورين محليين لتصوير الصفحات بسرعة ودقة. ونُقلت من الولايات المتحدة ذاكرات صلبة ذات قدرة استثنائية على تصوير المخطوطات بنوعية عالية وارسالها الى الدير في منيسوتا. ويقول الأب كولوميا مازحا ان العملية كلها تدار بخدمة دي اتش ال للشحن. وتحفظ نسخ اضافية من المخطوطات المصورة تحت جبل من الغرانيت في ولاية يوتا.
كتاب مفتوح
في الاستوديو الذي فُتح في مكاتب منظمة "سافاما" لصيانة المخطوطات جلس احد زملاء الدكتور حيدرة تحت مصابيح قوية مع حزمة من المخطوطات المكتوبة بالعربية القديمة. وجلست بجانبة زميلة اخرى كانت تصور المخطوطات بكاميرا مجهزة بفلاش يحيل بوميضه غرفة الاستوديو الى فضاء ابيض ناصع. ويستطيع الفريق التقاط 600 صورة ذات نوعية عالية في اليوم. ولدى مكتبة المخطوطات التابعة لدير سانت جون ستة استوديوهات تنتج 3600 صفحة يوميا. وبهذا المعدل يُقدر ان يستغرق تنفيذ المشروع 30 عاما. ولكن الدكتور حيدرة يأمل بانجازه في اربعة اعوام. وأكد الأب كولومبا لمجلة الايكونومست ان اعضاء فريقه سيعملون في مالي ما داموا موضع ترحيب.
وقال الدكتور حيدرة ان اعضاء الفريق الاميركي لتصوير المخطوطات يسكنون في بيوت تقليدية من الطراز الشائع في مدينة تمبكتو. ورفع حيدرة كتابا رشيقا من صندوق خشبي صغير وفتحه ليكشف عن سطور زاهية الألوان بالخط العربي البارز. وقال الباحث حيدرة ان بعض الصناديق تحوي عشرات المخطوطات وبعضها مئات وهناك صناديق تحوي اكثر من ذلك. ويعمل جهاز لامتصاص الرطوبة من جو الغرفة بمشقة في هواء باماكو المشبع بالرطوبة.
واشار حيدرة الى احد الصناديق قائلا انه يحوي المصحف كاملا كُتب في القرن السادس عشر بخط اليد ولم يُرقمن حتى الآن. وتقول ملاحظة على الكتاب انه رقم 4969. وفتح حيدرة المصحف المزين باللونين الأحمر والأصفر ليقرأ "باسم الله الرحمن الرحيم".
تتألف غالبية مخطوطات مالي من القرآن والحديث ودراسات في النحو وعلم الكلام. ولكن اجهزة المسح الاشعاعي تصور كل شيء بما في ذلك مخطوطات عن حقوق الانسان والصحة والقانون. وكان الورق بضاعة غالية ولهذا السبب من الممكن تكوين فكرة عن الحياة اليومية من ملاحظات مكتوبة على الهوامش قبل ان يعرف الاوروبيون بوجود مدن صحراوية.
تشترك في ملكية المخطوطات عائلات مختلفة. وقال حيدرة "ان كنوزنا موجودة في هذا المكان وسنبقيها مخبأة الى ان تعود المخطوطات الى أهلها". ولاحظ حيدرة ان من بين 35 عائلة تملك المخطوطات لم تطلب اي عائلة منها اعادتها اليها. فعلى الرغم من طرد المتطرفين، ما زالوا يتربصون بالمدينة. وقال حيدرة ان المخطوطات ستعاد الى المدينة حين يعود السلام الى مالي ولكن ليس هناك موعد لاعادتها.
في النصف الأخر من الكرة الأرضية فتح الأب كولومبا على كومبيوتره صورة قصيدة تتغنى بالنبي محمد قال إن عمرها قد يكون 300 سنة. وقبل ثلاثة اعوام كانت القصيدة مهددة بالضياع الى الأبد، واليوم توجد منها نسخ احتياطية في خمسة اماكن على الأقل حول العالم. وسأل الأب كولومبا "أليس هذا جميلا؟"