الإعلام مرآة الأمم وقلبها النابض
الإعلام مرآة الأمم التي تعكس حضارتها وثقافتها، والإعلام الناجح هو الناطق بهموم المجتمع، وهو قلبه النابض ولسانه الناطق، وحارس هويته.
وحين يصاب الإعلام بآفاته يتحول إلى معول هدم ناعم يقود الأفكار ويصوغ العقول إلى حتفها، حيث يقوم بخفاء وخبث بخلط متعمد بين التحديث والتغريب، والحرص الدائم على إيهام الأغلبية الصامتة بأن أي تفكير أو مبادرة تنافي منظور «الغالب» وتصوراته وأطره المرجعية هو بمثابة تراجع عن المكتسبات! وإعاقة فرص التقدم والنمو!.
أما أبرز تجليات هذا الخلط فتكمن بالأساس في إضفائه طابع العالمية والكونية على قضايا وتحديات تؤرق المجتمع المتقدم وحده، وتهدد وجوده وانفراده بالصف الأمامي.
وعن الخصائص العامة للإعلام، يقول الأستاذ عادل الماجد:
- جمهوره غير متسق، فهو منوّع في الأعمار والثقافة والمنطقة الجغرافية، فالتعليم يخاطب فيه المعلم جمهورًا متسقًا في أعماره وخلفيته الثقافية، والواعظ يخاطب منطقة جغرافية محدودة بمسجد أو مجلس؛ لذا احتاج الإعلام العام لخطاب يتكيف مع طبيعة الجمهور المنوع.
- دافعية غير متوائمة، فيتابع الإعلام المحب والمبغض والمستفيد والمترصد والمقتنع والمستكبر، في حين تكون دافعية التعليم رفع الجهل والحصول على الشهادة؛ لذا يستمع للمعلم والواعظ من يريد الفائدة ويجتهد في استيعاب الألفاظ، بينما على الإعلام أن يخاطب تنوع دافعية جمهوره.
- أسلوبه غير مباشر في عرض الأفكار والآراء، فالمعلم والواعظ غير المباشر يتهم بالغموض وضعف إيصال المعلومة، في حين أن الإعلام المباشر يضعف الرسالة والتأثير، وكلما كانت الرسالة الإعلامية بعيدة عن الأساليب المباشرة كان تأثيرها أكبر؛ لذا تعد الدراما من أنجع أساليب التأثير الإعلامي.
- مرجعيته غير ثابتة، حيث يعتمد الإعلام على العرض العام الذي لا يضع مرجعية غير التأثير بخلاف التعليم والوعظ والقرار الإداري وغيره، التي تعتمد على المرجعية ودقة العبارة، ومجال الرأي فيها ضيق جداً؛ لذا يصطبغ الإعلام دائمًا بأنه وجهة نظر لكنها مؤثرة.
الإعلام المعاصر
التأثير الإعلامي تنبثق قوته وسطوته من أن معظم الأفراد عالة على وسائل الإعلام في إشباع احتياجاتهم العديدة، ومنها الحاجة إلى التعرف على مجريات البيئة المحلية والعالمية ومظاهرها، والحاجة إلى التوجيه، والحاجة إلى التعليم للقيام بدورهم في البيئة المحيطة بهم.
ومن سمات الإعلام المعاصر أن المعلومة صارت أقوى من معايير الصورة، وصارت قوة وكالة الأنباء أو القناة الإعلامية أو ضعفهما تعتمد بالأساس على التواجد الآني في قلب الحدث، وتبني سياسة «الحصرية» فضلاً عن المصداقية والتحليل الجيد لمجريات الأمور.
كما أن الإعلام بجاذبيته وتنوع قنواته صار رافدًا ثقافيًا مهمًا في حياة الطبقة الثقافية الوسطى، وزادتهم ثقافة واطلاعًا ومواكبة لمجريات الأمور، فمواقع التواصل الاجتماعي –مثلاً- مكنت البسطاء من تملك صفحة إعلامية شخصية، وصار لهم ساحة إعلامية خاصة تتضمن المشاركة اليومية في بث آرائهم وأطروحاتهم والتفاعل مع ثقافة الغير تأييدًا وتحليلاً وتجاوبًا وتعارضًا، وأدى هذا الحراك الثقافي بصرف النظر عن محتواه الصحيح أو الفاسد، أدى إلى الانخراط في أتون الثقافة والاستزادة من معينها حتى ولو عن طريق المعلومة الخفيفة والسريعة، بعدما كان دور الفرد إعلاميًا قاصرًا على التلقي فقط لا غير.
والإعلام مشروع اقتصادي غير فعّال، فهو مرتفع التكاليف، بالغ المخاطرة، بطيء الربحية، لا يقدم عليه إلا صاحب هدف غير اقتصادي غالبًا، وإن كان اقتصاديًا فهو مشروع يخدم مشاريع اقتصادية أخرى وليس لذاته، يقول الأستاذ أحمد دعدوش: “لعبة الإعلام الفضائي ليست تجارية بحتة كما يُروج لها دائمًا، بل يمكن القول بأن كثيرًا من الفضائيات تقوم على أساس تشكيل الوعي وفقًا لرغبات أساطين الإعلام، عبر الترويج لسياسات ومذاهب وأفكار معينة، سواء من خلال الإعلان المباشر- وهو أقل الطرق استخدامًا- أو من خلال البث المبطن لأفكار ورؤى يتم تمريرها من خلال البرامج والأخبار والتغطيات والأعمال الدرامية التي تُصنف غالبًا ضمن فئة الحياد”.
معركة شرسة
لكن الإعلام المعاصر تشكل بروح عصره، وطور من فنونه التقليدية عبر التاريخ، مما يعد نقلة جوهرية فرضتها التقنية الحديثة وسهولة التواصل والانتشار المذهل وأيضًا شراسة المعركة الإعلامية، فنجد -على سبيل المثال- أن الإعلام همش الدور الفردي في التأثير للرموز أو النجوم، وصار التأثير الإعلامي لا يرتكز على هذا الشخص المشهور أو ذاك النجم المتألق بمفرده، بل صار التأثير الإعلامي أو حتى التضليل -في أحد أهم وسائله- معتمدًا على سياسة نشر الزخم الفكري بل الفوضى الفكرية عن طريق دس كتائب من المتسرعين أو المتأولين أو المستأجرين، وقد يدخل فيه -بحسن نية- بعض الفضلاء ليكونوا جزءًا من صراع مفترض وهم أبعد الناس عنه أصلاً، كل هذا لتصوير القضية المطروحة على أنها قضية رأي عام، وأن المخالفين مجرد شرذمة قليلة، فضلاً عن سياسة الانتشار والتكرار في أكثر من رافد إعلامي، الأمر الذي يوقع المتلقي تحت ضغط طوفان هادر لا فكاك منه إلا لمن له وعي ذاتي صحيح وتفهم للخطط الماكرة للإعلام المضلل، وقليل ما هم.
ومن تجليات الصراع الإعلامي الانشغال بالهدم وعدم التركيز على البناء، فما أسهل أن ننتقد ونرصد ونقيم ونحلل، لكن ما أصعب أن نقدم أطروحة بناءة وحل جذري، فضلاً على أن هذه السياسة الإعلامية تنمي الصراعات الفكرية والشخصية وتثري القناة أو الموقع الإعلامي بحضور كثيف مما يغري المعلن ليدفع أكثر حيث تتدفق حصيلة هذه الأموال في جيوب مالكي القناة، ويخرج المتصارعون السذج بلا شيء يذكر.
لذلك من الحصافة الإعلامية تجنب الخلاف وتلاشي حلبات الصراع خاصة أن المتأمل في مسائل الناس واهتماماتهم وآرائهم يدرك أن مساحة الخلاف ضيقة جدًا، وأن مساحات الاتفاق هي قضايا مشتركة ككليات الشريعة أو معايش الناس المشتركة مثل: توحيد الله والنبوة والآخرة والصلاة والزكاة والصيام والحج والموقف من الصدق والوفاء والتسامح والكذب والخيانة والغدر وتربية الأولاد والنجاح الأسري وتطوير دخل الأسرة وأمور تحسين المعيشة والتدريب والتطوير وعلاج الأمراض وإصلاح الأراضي والطرق والبناء، وقضايا كثيرة يجمع عليها الناس.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست