هل هذه أزمة «أنا الغارم على أي جنب أميل»، أم هو التأسيس الرابع للإخوان؟!
أنا الغارم، هذا هو حال الصف الإخواني، لا قياداته فحسب، أزمة قاصمة لا شبيه لها في تاريخ الجماعة بما فيها فترة ما بعد انقلاب عبد الناصر، وفترة الستينات بمرارتها، وسجونها، ودمائها، حتى اجتهاداتها.
لا أحد ينكر ما تحمله رياح تلك الأزمة العاتية من ضراوة وشدة؛ فلا شبيه لها في صفحات التاريخ القديم ولا الحديث سوى في مشهد واحد أو مشهدين على الأكثر.
فما أشبه البارحة باليوم!
بعد يوليو 52 نادت الجموع الغفيرة برجوع العسكر إلى ثكناته وأكدوا على هذا المطلب وأهميته وخطورة تجاوزه، ذلك قبل أن يخرج إليهم عبد القادر عودة ويرجوهم العودة إلى بيوتهم، وقد كان! هذا ما اهتدت إليه القيادة قديمًا مدعين أنه عن دراية وحكمة، ولعل حينها العامة من الشعب كانوا من الحكمة والدراية أقرب.
ستون عامًا مرت مرور اللئام، تتشابه الأحداث في واحدة وتختلف في أخرى، فبالأمس القريب خرج من العامة من ينادي بصوت العامة السابح قليلا بموازاة التيار لا معه أو ضده، فيعتبرونه قائدًا بصوت الشعب مناديًا بما في صدورهم مكتومًا منذ زمنٍ، ولا سيما بعدما أخبرهم أننا سنحيا كرامًا، ولكنّا ما فطنا ما كان بالأمس البعيد ولا حتى القريب، فما السبب إذن؟
على خط موازٍ من التاريخ الحديث دعوني أستعرض ما يلمس الجانب الأكثر بروزًا في الأزمة المستعصية، اجتهادات قيادية! تأسست دعوة الإخوان على يد عبقري عصره آنذاك؛ حيث أنه جمع بين مقومات القيادة والإدارة في نفس الوقت فأسس الدعوة وخط لها الخط الواضح الذي أوله بناء الفرد المسلم إلى الخلافة الراشدة وأستاذية العالم ومن بين أضلعه إزالة الطاغوت، فقد وضع الخط ورسم الطريق وأبان المنهج وربى جيلًا وجاهد من أجل إعلاء كلمة الحق مناديًا بالجهاد في سبيل الله فشارك الإخوان في حرب فلسطين بكتائب الجهاد التي كاد عددها أن يصل إلى عشرة آلاف مجاهد لولا تعنت الحكومة المصرية آنذاك. ويعد هذا التأسيس الأول للإخوان!
التأسيس الثاني
لم يكن منارة هذه الفترة للدعوة مرشدها الثاني الذي أتى بعد محنة شديدة استمرت قرابة العام، وإنما كان صاحب الرؤية والبصيرة، ذو الفكر النوراني موظفًا ذي ثقل في وزارة المعارف قبل أن يكتب كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) الذي غير مسار حياته وجعله عضوًا في جماعة الإخوان عام 1953 واعتقل بعد عام تقريبًا من انضمامه للجماعة، لكن ما استطاعت أسلاكهم وقضبانهم أن تمنعه من أن يكون مصباحًا يبث روحًا جديدة تنير دروب السالكين خارج العتبات، فكان مسؤولًا عن التربية والدعوة لعدة سنوات من داخل القضبان، بالرغم من الحكم عليه بخمسة عشر عامًا ثم الحكم بإعدامه وتنفيذ الحكم في أقل من أسبوع.
فاضت روح صاحب الظلال تحلق في السماء و صوتها يهتف في القلوب (لا، بموتي لن يموت الحق بل خابت مساعيكم)!
التأسيس الثالث
اختلفت معه أم اتفقت في ترحمه على من قتل منارة التأسيس الثاني وكاد أن يقتل معه فكرة الخلافة الاسلامية وجماعة الإخوان المسلمين برمتها.
إلا أنه احتضن الشباب وبايع الإخوان في أكثر من ثلاثين دولة، ومن كثرة ترحاله دعوني أناديه (الشيخ المسافر) بدلا من عمر التلمساني.
منهج واحد تعددت وسائله وأدوات إسقاطه بين ثلاثة تأسيسات متباينة؛ فقد تكون سلمية التلمساني التي نحته جانبًا عن مواجهة الظالمين والطواغيت استطاعت أن تعيد جسد الدعوة المتناثر وتلملم الجراح بعدما عانت جماعة الإخوان مرارة عبد الناصر والستينات.
أما ما شهده سيد قطب وأقرانه من ادعاءات فهي ملفقة، لم يبذلوا لها من النظرية الجهادية سوى كتاباتهم وأقلامهم المسنونة، في حين أن البنا المؤسس الأول لهذه الدعوة أعد العدة حقيقةً؛ فأقام فكرة الجوالة بمصر وأرسل كتائب الجهاد إلى فلسطين؛ فلم يكن سلميًّا بالصورة الباهتة التي يصدرونها لنا اليوم أصحاب الحكمة والدراية.
ثلاثة تأسيسات انقضى عهدها.. فهل حان عهد التأسيس الرابع للجماعة أم سقوطٌإلى الهاوية؟
بطبيعة الحال لا أصور الصراع الداخلي على أنه صراع على القيادة فحسب، إنما هو صراع أيديولوجي استراتيجي يتنقل عبر الأجيال باختلاف أوجهه لأقطاب تباينت بينها تطبيقات المنهج وإسقاطه (البنا وقطب والتلمساني)، واختلاف الرؤى حول القضايا المعاصرة وطرق التعايش معها.
صراع فكري بين جيل قضى عمره في غياهب السجون، ولا غضاضة عنده أن يعود إليها مجددًا؛ فيقضي ما بقي من أعماره – التي أوشكت أن تنقضي – بداخلها مرةً أخرى، وجيل آخر نشأ وترعرع وذاق طعم الحرية قبل أن يذوق مرارات الأسر، والتصفية الذهنية، والجسدية.. ولكنه يأبى إلا أن يسترد حرية، جيل الشيوخ يرى أن أي صدام مع الدولة ستكون المواجهة خاسرة بكل المقاييس وستؤدي لعواقب جسيمة على المدى القريب والبعيد، من هنا فإنه على الجماعة أن تتعايش مع الدولة؛ وأن الدولة لا بد لها أن تعود وتجلس مع الإخوان على دائرة المفاوضات يومًا ما.
الشباب يرون أن ربابنة السفينة القدامى لن يرسوا بها على شاطئٍ يرجونه؛ فلن يديروا الدفة إلا كما أداروها من قبل، فيرحلوا بها بعيدًا عن الأمواج العاتية، باحثين عن شاطئٍ آمنٍ، ولن يجدوه! سفينة حائرة وسط الأمواج، تكاد فوهة البركان أن تحرقها من قبل أن تحسم أمرها على أي شاطئ تميل!
ما السبيل إذن؟
كل أزمة مرت بها الجماعة كانت تعد هي الأشد في حينها! ثم يتضح أن التي تليها أشد منها؛ ومع ذلك تعود الدعوة وتخرج إلى النور من جديد بفضل ربها؛ بعدما يلهم عز وجل أحد أفردها صفات القيادة ويجري القول الحق والفعل الحق على لسانه ويهدي به الطريق فتنقلب المحنة إلى منحة.
تلك الدعوة التي وصفها صاحبه بأنها “دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية وثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية” ووضع لها أساس البيت وحول هذا الأساس الموضوع والفكرة الأم تولدت الأفكار، وولد القادة الصغار والكبار، منهم من نشأ في أحضان الجماعة من صباه، ومنهم من شب وترعرع خارجها ثم أتاها بفكره، فأضاف إليها، ومنهم من شاخ وكبر سنه ونضج عقلة خارجها فأنار بعلمه دروب الحرية.. هكذا كانوا قادة الدعوة والقيادة في كل وقت، كانت شابة حتى بشيوخها.
فبعد أزمة الستينات، أغلب من قادوا كانوا قد اعتقلوا لفترة ليست بالقصيرة وحين خرجوا تقلدوا مناصب قيادية وهو الأمر نفسه في التسعينات، ولكن اختلف في شيء أن القادة أنفسهم من اعتقلوا مجددًا! وغيبوا لفترة وحين خرجوا عادوا لمناصبهم القيادية! ومن هنا بدأ مسلسل “القيادة التاريخية”، وحكمة الشيوخ وهم أدرى بالأمر منكم.
تتواتر أفكار الشباب حول حلول لواقع مؤلم لا يختلف كثيرًا عن ماضيه فتلتقي في بؤرة تاريخية واحدة، يستشرفون من خلالها المستقبل، فيرون أن نظرية المؤسس الأول للجماعة لابد أن تكون شاملة كما الإسلام.. فهؤلاء شباب اختلفت أقطارهم، توحدت لحظات ملاقاتهم ولقائهم. وتجمعت أفكارهم وتبلورت حول “هيا بنا نأسس للشورى المعلنة الملزمة” ولكن بطريقة صحيحة!
بأن تكون الشورى للصف بأكمله وتعاد هيكلة الجماعة من جديد من الشُعب والمناطق والمكاتب الإدارية والقطاعات ومكتب الإرشاد ومجلس شورى الجماعة، علينا ألا ننتظر قرارًا إداريًّا من القيادة الحالية سواء أكانت متمثلة في د. محمود حسين، د. محمود عزت أو محمد منتصر وصحبته، إنما يجب أن يكون القرار بيد الصف ويختارون من بينهم من هو أهلٌ للقيادة سواء أكان شيخًا أم شابًا، وعلينا أن نتذكر كلمات الإمام المؤسس: “إن الوسائل العامة للدعوات لا تتغير ولا تتبدل ولا تعدو هذه الأمور الثلاثة: الإيمان العميق، التكوين الدقيق، العمل المتواصل”.
علينا أن نعمل في ضوء هذه الكلمات المبينات لكي لا ننحرف عن الخط الواضح الذي أوله الفرد المسلم وآخره أستاذية العالم ومن بين أضلعه إزالة الطاغوت في شتى بقاع الأرض.
أيها الإخوان الصادقون: أركان بيعتنا عشر فاحفظوها (الفهم والإخلاص والعمل و الجهاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخوَّة والثقة).
من منطلق هذه الأركان علينا أن نبدأ بفهم ونخلص العمل لوجه الله وأن نجاهد أنفسنا ونضحي بالغالي والنفيس ونداوم على طاعة الله وأن نثبت على المبدأ ونتجرد ونكون أخوة في الله واثقين في نصره، لا علينا أن نقدم الثقة والثبات على الفهم، إنما علينا أن نجعل الكفاءة ملازمة للثقة. إن عدم أحدهما بطل الآخر.
تثور النار إن اختنقت بالحطب لتحرق كل من للحق اغتصب، فقليل من التفاصيل، ضروري لإدراك الكثير من الحقائق، وقليل من الخيال، ضروري لفهم الكثير من الواقع.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست