كلُّ جاهليةٍ يلزمها حلف فضول!
بسم الله أكتب في ذكرى مولد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وبعثه بالقرآن الكريم ليخرج به ذلك المجتمع من ظلمات الجهل والتخلف إلى نور العلم والرقي “يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ“ المائدة – 18.
ولولا علمنا يقينًا أنه صلى الله عليه وسلم كان خاتم الأنبياء والمرسلين لكنا أول من يبشر بأن الله سيبعث نبيًا، فما يبعث الأنبياء إلا في ظروف مشابهة لما نحن عليه اليوم من أكل القوي للضعيف وغياب لقيم العدل والمساواة وانتهاك للحرمات وضياع للحق وأهله.
لا أجد أبلغ من وصف حواري رسول الله “جعفر بن أبي طالب” لذلك المجتمع الذي بعث فيه نبينا عليه الصلاة والسلام، حين قال للنجاشي: “أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف“، فحين تفشى السوء والاستبداد في أوصال ذلك المجتمع اقتضت الحكمة الإلهية من إرساله صلى الله عليه وسلم ذلك أن الحضارة الرشيدة الرائدة في شتى مناحي الحياة ما كانت لتقوم على مثل هذا الظلم والانحطاط الأخلاقي.
تعال أخي القارئ أصور لك من هذا المجتمع مشهدًا اجتمع فيه الظلم والغدر وخيانة الأمانة وسكوت عن الحق، المشهد بين مستبد غاصب يحتمي بعصابة من أحط ما يكون وهو “العاص بن وائل”، وبين المعتدى عليه، تاجر من زبيد من خارج مكة ليس له نصير في هذا المجتمع، ولا يوجد من يُصدِّر قضيته حتى للرأي العام.
والأطراف المشاركة
* طرف “مغتصب” ومعتد على الحقوق ومصادر للحريات، طُلب منه المنعة ورد الحق لأهله فأبى بل ونهر صاحب الحق، وهذا الطرف يمثله الأحلاف لعقة الدم وهم: “عبد الدار” و”مخزوم” و”جمح” و”سهم” و”عدي”.
* وطرف “مصلح” تجسدت فيه معاني النخوة والإباء، لا تأخذهم في الحق لومة لائم حتى وإن لاقوا استهزاءً أو صدًا عن نشر أفكارهم السوية، فإنهم لا يكلَّون من رمي بذور العزة والإباء في نفوس المجتمع حتى وإن أدركوا أنهم لن يحصدوها بأنفسهم، لا يجدون فرصة لنصرة مظلوم إلا هبوا لنصرته، وهم بقيادة “عبدالله بن جدعان” ومعه “بنو هاشم بن عبد مناف” و”بنو المطلب بن عبد مناف” و”بنو أسد بن عبد العزى” و”بنو زهرة بن كلاب” و”بنو تيم بن مرة”.
فتخيل معي رجلًا ثريًا يملك الجاه والسلطة، تحيطه البطانة الفاسدة التي تقر ظلمه بل وتشجعه عليه، يأخذ البضاعة من هذا الرجل معلنًا بعدها تمرده على الأخلاق والعرف والقانون، ورافضًا إعطاءه حقه من المال أو حتى إعادة البضاعة إليه، أية خسة هذه! ترى ما الذي دفعه لذلك هل هي فطرة فسدت؟! أم ضمير ميت؟! أم عين لا تشبع؟! أم مجتمع منبطح وساذج لا يُنكر المنكر؟! أم ماذا؟!
ومثل هذا الذي يتلذذ بظلم الآخر وتتحكم فيه غرائزه وشهواته ويصير لها عبدًا، ألا يكون قد تردى إلى مرتبة الحيوان أو أقل؟ ذلك أن الشيء الذي ميزه عن الحيوان قد عُطِّل وغُيِّب. ولا عجب أن يكون “العاص” بعد ذلك واحدًا من صناديد الكفر، فرجل بمثل هذه المساوئ أنَّى له أن يهتدي فما يقف في طريق الحق إلا أمثال هؤلاء.
لكنِّي وإن أذم ذلك الظالم إلا أن حنقي على المجتمع أشد، ذلك المجتمع الذي وقف أمام نفوذ “العاص” متفرِّجًا لا يكاد يجرؤ أحدٌ منهم أن يعترض، ذلك المجتمع الذي أعطى لأمثاله تلك الفرصة وهيأ لهم ذلك المناخ الخصب لنمو الاستبداد،
مجتمع شاع فيه الجهل، كَثُر فيه العاطلون المتفاخرون بأنسابهم، الساهرون في الحانات ليلًا على موائد الخمر برعاية “العاص بن وائل” وأمثاله، فهو وليّ نعمتهم، وساقيهم شراب الذل والخنوع، وحائلٌ بينهم وبين الكرامة وعزَّة النفس.
ولا عجب أيضًا أن يكون هو “المجتمع” الذي ما إن بدأت تسري فيه روح الإسلام، روح التغيير حتى قابلوها بكل عنف متسلحين بالتخلف والجهل، ولست أرى مثلهم في ازدواج المعايير، فالصالح عندهم آمن على نفسه وماله حتى يثورعلى العرف الباطل هنا يستباح ماله وعرضه، وهم يعرفون المصلحين أكثر من غيرهم يعرفون صدقهم وأمانتهم وإخلاصهم ولكن حرية هؤلاء وأمنهم مرهونة بسكوتهم وعدم إبداء أية محاولة للتغيير، فهم ما إن يعلنوا الثورة على هذه العقول المتحجرة حتى يتم تخوينهم واتهامهم بالجنون، وتجند الألسنة للنيل منهم وإلحاق الأذى بهم.
نعود إلى ذلك الرجل المظلوم الذي لم يرتكب جرمًا سوى أنه طالب بحقه، وحين قوبل بهذا الاعتداء والتهديد آوى إلى ركن ندر وجوده في هذا المجتمع، فتوجه إلى من أتى لزيارته وتعظيمه “رب البيت الحرام”، آوى إليه شاكيًا وداعيًا ليس فقط على العاص وعصابته بل على كل من سكن هذا البلد، ولا عجب أن تقوده فطرته لذلك! فربه الذي خلقه إذا أراد أن ينزل العذاب على مجتمع بهذه الأوصاف عمهم كلهم حتى “الصالحين” فيهم الذين لم ينكروا المنكر ولم يجاهدوا أنفسهم لأن يرتقوا إلى مرتبة “المصلحين”!
وكان دعاؤه عليهم عند طلوع الشمس عند جبل أبي قبيس، دعاءً حرك النخوة في قلوب البعض وسرعان ما تناقل الخبر حتى وصل إلى رجل معه أيضًا المال والسلطة، ولكن لم تجرؤ أن تتخلل إلى فطرته لتفسدها أو إلى عقله لتغيبه، وصل الخبر إلى عبد الله بن جدعان الذي ما كان منه إلا أن دَعى لاجتماع فوري في دار الندوة لِيَبُتُّ في أمر ذلك المظلوم ويعلن التصدي الحاسم لعنجهية ذلك الأحمق.
فاتجهوا إلى دار الندوة دار الشرف آنذاك، التي كانت لها حرمة هي الأخرى، فلم تكن مجرد دار تعلن عن قلقها إذا حدث حادث! ذلك أن من يملكون صنع القرار وقتها لم يكونوا عبيد إحسان أحد ولم يكونوا يتقاضون راتبهم من أمثال العاص بن وائل أو غيره، بل كانوا أسيادًا آنذاك لهم شرعية مستمدة من عدلهم وأماناتهم وعقليتهم المتفتحة، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه، وعلى التأسي في المعاش، إلخ، وسمي بحلف الفضول حين قالت قريش: “لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر” الذي يقول عنه النبي عليه الصلاة والسلام: ” ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت”، وهنا قام الزبير بن عبد المطلب منشدًا:
إن الفضول تحالفوا، وتعاقدوا .. ألا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه تعــاهدوا، وتواثقوا .. فالجار والمعتر فيهم سالم
أعلن عبد الله بن جدعان النفير داعيًا من شاركوا في الحلف أن ينتدبوا رجالهم من كل قبيلة وكان على رأس ممن انتُدِب من بني هاشم “الصادق الأمين” عليه الصلاة والسلام ملبيًا ذلك النداء متوشحًا بسلاحه موقنًا أن الحق لا بد له من قوة تحميه، ذهب مغتنمًا فرصة لإحقاق الحق ودفع الظلم، وهناك دار حوارٌ لم يحمل في طياته خضوعًا ولا انكسارًا أمام سلطان أو جاه، وقف رجل متدرعًا بعزته وكرامته، وعصبة متسلحة بمبادئ الحرية والشرف، ومستعدة أن تبذل روحها فداءً لتلك المبادئ، بل وواثقة بأنه إن تم خذلانها من ذلك المجتمع أو سقطوا واحدًا تلوَ الآخر قتيلًا، فإن جينات العزة والثورة تلك التي نقلوها إلى أولادهم ستثأر لهم ولو بعد حين.
لم يجد العاص وحزبه بدًا من أن يرضخوا لهم ويردوا ما اغتصبوه صاغرين، وبسقوط هيبة الظالم وكسر شوكته أعلنوا انتصارهم بعد أن رسخوا لفكرة تلك المعاهدة التي غدت مجتمعاتنا في أمَسِّ الحاجة إليها، وإلى رجال مصلحين يحملون همَّ تبليغها وإقناع العامة بها، فما أشبه اليوم بالبارحة نفس الأشخاص ونفس الاستبداد ولكن بوجوه مختلفة وكلمات رنَّانة خدَّاعة، فبالأمس كان الطغاة يجاهرون بظلمهم وعدائهم للمصلحين، أما اليوم فالظلم هو ذاته، ولكن تحت مظلة حفظ الأمن أو محاربة الإرهاب أو تحت مبدأ (إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)!
انتصر الحلف الذي لو دُعينا إلى مثله للبيْنا الدعوة، مُغلِّبين مصلحة أمتنا وأمنها على كل سلطة أو منصب، ولكن من أين تخرج تلك الدعوة التي تجمع ولا تفرق؟! من المؤكد أنها لن تخرج من اجتماعات فارهة يجلس فيها القاتل نفسه ليشرع، ولا من منظمات يرعاها الظالم نفسه، ولن تخرج أيضًا من حكومات تنقصها القوة، ولا أشك للحظة أن تثمر الأحداث في عالمنا العربي عن مثل هذه التحالفات أو المعاهدات فالمصلحون العاقلون لا يعتمدون المواجهة التي تخسر فيها كل الأطراف بل يتفاوضون إلى آخر نفس، يتفاوضون ليس مداهنة للظالم أو غيره ولكن لحرصهم على أمن مجتمعاتهم، وحرصهم على وجود بيئة يخرج منها علماء وقادة ودعاة ينشرون دينًا سمحًا، وفكرًا وسطيًا متأسين بنبيهم الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست