اخبار العراق الان

التخيير الإلهي والتسيير البشري

التخيير الإلهي والتسيير البشري
التخيير الإلهي والتسيير البشري

2016-01-05 00:00:00 - المصدر: ساسة بوست


رباب رأفتFollow @rabab_raafat

” الله يعطينا حرية الاختيار الكاملة؛ لنختار ما نرغب، ونبتعد عما نكره، ونتقرب إلى من نحب، ونتجنب من نبغض، ووضع لكل شيء مركز واحدا؛ يعود إليه البشر، وهو: الوحي، وما دونه فهو زيف وباطل، ولكن نحن لسنا بمخيرين في عالم البشر، بل نحن مجبورون أن نختار”.

قالت لي إحدى زميلاتي هذه الكلمات وهي تبكي؛ لأنها لم تستطع أن تختار طريق حياتها الذي رغبته، والذي ظنت ورأت نفسها فيه، وما كان منها، إلا أنها أكملت ما أجبرت على اختياره؛ لأن الاختيار الآخر سيفقدها كل المقربين، وكل شيء حسبما تقول.

تفكرت كثيراً في معنى التخيير ومعنى التسيير: وهل نحن حقاً مخيرون كما نظن؟ وهل الاختيار الشخصي لشيء ما يلزم موافقة البشر علي ما نختاره وما نرغبه؟ وجُل ما وجدته: أننا ـ حقاً ـ لسنا مخيرين التخيير الذي جعله الله لنا؛ بل نحن نخير ونجبر على اختيار شيء ما ـ ربما ـ لا نرغب فيه، وهذا من أجل الانصياع لبعض الإلزامات المجتمعية والأسرية والبشرية عامة، لا من أجل الطاعة لله، أو البعد عن معصيته؛ لأنه تكون أمور بعيدة كل البعد عن الحلال والحرام، لكن إن خالفنا الإلزامات البشرية لدخلنا في دوامات كثيرة، منها: عقوق الوالدين، أو النفور المجتمعي الذي ـ ربما ـ لا يستطيع البعض تحمله، أو الفقر والعقبات التي تهدد الفرد، وتخبره أنه من أجل أن تكمل يجب أن تكون لديك عزيمة كالجبال، والبعض لا يجد ما يسانده فتخور قواه وتضعف عزيمته في منتصف الطريق، وغير هذا الكثير والكثير.

نظرت إلى المجتمع العربي تحديداً، والملابسات التي يوضع فيها الفرد منذ نعومة أظفاره حتى اللحد، وكيف تسير حياته ما بين التخيير الإلهي والتسيير المجتمعي أو البشري، ووجدت أننا نفهم التخيير بطريقة خاطئة، وأنه في كثير من الأحيان لا يكون للأسرة أو المجتمع حق الإلزام أو الإجبار على شيء، وكل ما عليهم هو التوعية فقط، دون التثبيط أو التحفيز لطريق معين يُرغِبون أولادهم أو ذويهم  في اختياره، وتحديداً في الأمور الشخصية البحتة التي تتعلق بالفرد فقط، دون أية تشعبات أسرية أو مجتمعية. فإن تضرر، فالضرر سيقع عليه وحده، لكن من خلال احتمالية ضرر ما يتم الحجب والاختيار الإجباري.

ومن الأمور الفردية البحتة، والتي يتم التحكم فيها، ولا تترك لحرية الاختيار، أنه حينما يرغب طالب في تغيير مسار تعليمه أو، يرغب عامل في تغيير مجال عمله، وأن يبدأ في مجال يختاره، ويحقق فيه ذاته، غير الذي أجبر عليه، فإنه يجد المعوقات الأسرية والمجتمعية والمادية التي تمنعه، ولو نظرنا من حيثية الاختيار لوجدنا أمامه طريقين: فإما أن يكمل في مساره الحالي، والذي هو مجبور عليه، أو أن يغير مسار دراسته أو عمله، والذي سيخسر فيه ـ ربما ـ أهله، وربما راحته؛ لأنه سيكد كي يجد المال، وغير ذلك من المعوقات، ولكن في حقيقة الأمر، إنه أجبر من البشر على الاختيار، في حين أن الله ترك له حرية الاختيار لأي من الطريقين. والطريقان في أصليهما بعيدان كل البعد عن الطاعة أو المعصية الإلهية.

هذه الفتاة التي رغبت في أن تتزوج من ارتضته خلقاً وديناً، وهي دون أب، ولها أخ يريد أن يزوجها من يذهب عنهم الفقر، وكما يقول البعض: “ينقلهم في المستوي الاجتماعي”، وتكون هي مخيره بين طريقين: طريق حرب؛ كي تتزوج من ارتضته. وطريق انصياع لأخ جشع يحب المال ويتاجر بأخته. ولو نظرنا لوجدناها مخيرة بين زواجها ممن ارتضته أو تركه، لكنها في حقيقة الأمر مجبرة على طريق واحد.

الفتاة في المجتمع العربي مخيرة في كثير من الأشياء في أصلها، ولها الترك أو الأخذ متى شاءت، لكن طبيعة المجتمع العقيمة، والتي ينتشر فيها الفكر الذكوري البحت الذي يجد الفتاة فيه تابعا، والأفراد الذين يرون كل شيء محرم لهم حِلٌ لغيرهم، فلو نظرنا لأصل الأمور من حيث الشرع والطاعة والمعصية لوجدنا أنها مخيرة في الكثير، لكنها أجبرت على اختيار أن تترك ما أبيح لها من أجل الحفاظ على نفسها وعلى سمعتها وعلى سمعها وبصرها وذاتها والكثير. فهي لم تختر أن تترك هذا بمجمل اختيارها، ولكنها أجبرت على الاختيار.

وهكذا من الأمثلة الكثيرة في المجتمع المحيط بنا: فنجد أن العبد قد أعطاه الله نواميس الحق ورزقه الرؤية والبصيرة وحرية الاختيار فيما يختاره، ولكنه يجبر في كثير من الأحيان على اختيار ما لا يرغبه فيجد فيها الإجبار، لا الاختيار، في حين أنها لا تتعلق بحق أو باطل أو حلال أو حرام. ولو تطرقنا لاختياره ما بين الحلال والحرام لوجدنا أن له أيضاً حرية الاختيار؛ لأن حسابه على الله ـ عزوجل ـ لكن لم أتطرق لهذا؛ لأنها مسائل شائكة ما بين أن الله له الحساب المطلق، وأنه أيضاً ترك لولي الأمر النهي، والنهر والمعاقبة في بعض الأمور إن لزم، وفي تطبيق الحدود التي تركت لولي الأمر، فهذا ليس منبر حديثنا، ولا موطنه، ولكن حديثنا عن الأمور المباحة دون أية مخالفات شرعية.

وإذا نظرنا إلى المسببات التي تجعل الفرد يجبر على الاختيار، وأنه أيضا ليس بمسير، ولكنه مخير مجبر فالمسببات منها: أهل يجدون أن الاصلح لولدهم أن يكمل في مجال ما؛ لأنهم رأوا، من خلال خبراتهم في الحياة، ونظرتهم بعيدة المدى، أن هذا أفضل لولدهم، في حين أنه ربما تكون هذه النظرة تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص. فلا يجزم أنه من لديه خبرات في الحياة له من الاختيارات المتوافقة مع غيره من الأشخاص، فربما خبراته في طريق ما لا تمت للطريق الذي يرغب الولد أن يسلكه بأي صلة، ومع ذلك فهم يرون الأفضل من وجهة نظرهم، ثم يتركون له الاختيار أن يختار بين المطرقة أو المقصلة!

فما رأيت من كل هذا إلا فردا وضع بين المطرقة والمقصلة، وقيل له: اختر: إما أن تَعق أبويك في موطنٍ ليس لهم فيه حق إجبارك على شيء، وليس لهم حق الرضي من عدمه، ولكنه يختار “بِرهما”. وفي حالات أخرى تتحدى المجتمع بكل فصائله، أو تكمل في طريق تعلم علم اليقين أنه ليس لك ولا يناسبك، ويأتيك من يقول لك هذا قدرك، فأكمل ما قدره الله لك، لكنه من حيث القدر فهو أمر له بديل، والقدر أمر يحصل لك ليس منه انفكاك أو فيه اختيار، بل هو أمر أوقعه الله عليك، وهذا ليس حادث هنا.

وما رأيت إلا ظلما بشريا وعدلا إلهيا، وما وجدت إلا تأليه بعض البشر لذواتهم، واتخاذهم لحقوق ومواطن ليست لهم، وما وجدت إلا فردا يكابد ويجاهد مفاهيم مجتمعية عقيمة؛ كي يكون. وأيقنت أن كل هذا لن يتغير بين يومٍ وليلة، ولكنه بوعيٍ المجاهد، وبتوعيته لمن حوله وبمجاهدته للموازنة بين ما يرغب وما يجبل عليه حتى يحقق ما يتمناه ويصل إلى الاختيار المطلق دون الإجبار على الاختيار.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

التخيير الإلهي والتسيير البشري