اخبار العراق الان

من يحجر على الله؟

من يحجر على الله؟
من يحجر على الله؟

2016-01-05 00:00:00 - المصدر: ساسة بوست


كنت كمعظم المسلمين من كارهي نظرية التطور وكان رد فعلي الأساسي عندما يبدأ أحدهم الحديث عنها هو السخرية منها ومن هذا الرجل المجنون داروين، إذ كيف أصدق أن الإنسان أصله قرد؟ أقنعت نفسي كثيرًا أن سبب رفضي هذا هو ديني بحت قائم على أدلة لا تُدحض من القرآن والسنة ولكني الآن أعرف أن الغرور البشري الذي لا حدود له والذي لا يقبل أي تقارب بين الإنسان وبين أي مخلوق آخر كان جزءًا أساسيًا – حتى لو كان خفيًا – من أسباب هذا الرفض.

ظللت على هذا اليقين سعيدًا براحة البال التي جلبها إلى حياتي سنين طويلة حتى سقط بين يديّ كتاب لد. عمرو شريف، أستاذ الجراحة في جامعة عين شمس، اسمه “كيف بدأ الخلق؟” استفزّني العنوان فقرأته، ثم تغيرت حياتي. لتوضيح اتجاه د. عمرو الفكري فهو من أنصار ما يُسمّى “التطور الموجه”، أي أنه يتبنى فكرة التطور في الخلق ولكنه ليس تطورًا عشوائيًا كما يدّعي الداروينيون، بل هو موجه عن طريق الله.

لم أستسغ هذه الفكرة في البداية وظننتها محاولة التفاف من نوع ما ولكني واصلت قراءة الكتاب، كنت أقرأ متسلحًا بجعبتي التي لا تخلو من السخرية والتهكم ولكن د. عمرو لم يعطني الفرصة لاستخدامهما، فأسلوب كتابته وهو عالم كان أشبه بأسلوب كتابة الأبحاث العلمية من حيث الترابط والإحكام وتسلسل الأفكار، هذا الأسلوب الذي يختلف جذريًا عن طريقة كتابة معظم رجال الدين الذين قرأت لهم من قبل والتي تتميز بالإسهاب المبالغ فيه، المهم أني لم أيأس وظللت أبحث عن السقطة التي لن أحتاج أن أكمل الكتاب بعدها.

لم أجد سقطة الرجل ولكني وجدت سقطتي أنا عندما تحدث د. عمرو عن فرانسز كولنز، وهو مدير مشروع الجينوم البشري الذي يعتبر أهم مشروع بيولوجي في التاريخ، فهذا الرجل الذي بلغ من العلم حدًا لا يضاهيه سوى حفنة قليلة من العلماء هو مسيحي يؤمن تمامًا بوجود الله، بدا لي هذا غريبًا إذ كيف يجمع بين هذا وذاك؟ حيرتي هذه كانت نابعة من الاعتقاد السخيف الذي كان مترسخًا لديّ والذي توارثناه للأسف الشديد نتيجة أخطاء تاريخية لا تغتفر عن التنافر الحتمي بين العلم والدين.

لم أكن الوحيد بالطبع الذي حيرته هذه النقطة بل حيرت الكثيرين الذين جرؤ بعضهم على سؤاله شخصيًا عن السر وكان رده الذي كان نقطة التحول في معتقداتي عبارة عن سؤال: “من الذي يحجر على الله أن يستخدم التطور كوسيلة للخلق؟” لطمني هذا السؤال ليفيقني فشعرت وكأني أستيقظ من غيبوبة، نعم، من الذي يجرؤ على هذا؟ أنا؟ الشيوخ؟ من هؤلاء بالمقارنة بالله؟ الله الذي خلق كل شيء ولم يشاركه أحد، أليس من حقه إذن أن يختار وسيلته في هذا الخلق سواء كانت بالخلق المباشر أو التطور؟ ثم كأحجار الدومينو عندما تتساقط الواحدة تلو الأخرى نقلني التفكير في هذا السؤال إلى سؤال آخر وهو: لماذا تهمّنا أصلًا وسيلة الخلق طالما خُلقنا؟ هنا صار عنصر الغرور البشري واضحًا لي للمرة الأولى.

صدمتي عند هذه النقطة هزت كياني فتابعت القراءة بنهم طالبًا المزيد من الصدمات، لجأ د. عمرو بعد الكلام عن الأدلة العلمية التي تؤيد نظرية التطور إلى الإتيان بآيات قرآنية دالة على هذا المفهوم فشعرت كأني أقرأ هذه الآيات للمرة الأولى، مثلا آية: “خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ” (الرحمن: 14)، وآية: “الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ” (السجدة: 7)، احتج مناصرو الخلق المباشر بأن هاتين الآيتين وآيات أخرى شبيهة هي دلائل قاطعة على أن الإنسان خُلق بصورة مباشرة لأنهم كانوا يشبهونها بأعمال صنع الأواني الفخارية، ولكن الرد على هذا من د. عمرو كان أن الله يختلف عن البشر وعندما يتحدث عن أشياء يفعلها هو، علينا أن نتجرد من مفاهيمنا البشرية قدر الإمكان حتى لا نسيء فهمها، بالإضافة إلى أن العلم أكد أن خلق الخلية الأولى تم في تربة رطبة تحت سطح مائي حتى تتفاعل المركبات مع بعضها البعض، أي أنها خُلقت من “الطين”.

يعودون للاحتجاج أن لا، طريقة الخلق هي بالفعل تشبه صنع الأواني الفخارية بدليل الآية: “قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ” (ص: 75) والتي تؤكد أن الخلق تم بيد الله، وهنا يتضح قصر الفهم للمعاني المجازية والذي واجهه د. عمرو بأن قال أن اليد دليل القدرة، إذن فهي “القدرة” التي خلق بها الله بدليل أن الآية الأخرى تقول: “وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ” (الذاريات: 47)، فهل سوّى الله السماء من صلصال كالإنسان؟ المعنى هنا واضح أن المقصود بـ “اليد” هي “القدرة” التي خلق بها الله الإنسان كما خلق بها السماء.

بقي الجزء الشائك المتعلق بآدم وحواء، فكيف يتوافق أن الإنسان خُلق عن طريق التطور التدريجي من مخلوقات أرضية ونحن نعرف أن آدم وحواء كانا يسكنان الجنة عندما خُلقا بدليل الآية الصريحة: “وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ” (البقرة: 35)؟ تصدّى د. عمرو لهذه الإشكالية بأن نبّه أن لفظة “جنة” ذكرت في القرآن ثلاثة عشر مرة بمعنى الحديقة الأرضية مثل آية: “واضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا” (الكهف: 32)، إذن فمن الممكن أن تكون الجنة التي سكنها آدم وحواء هي جنّة أرضية وليست سماوية، يظهر احتجاج جديد أن الجنة المعنية في قصة آدم هي سماوية بدليل الآية: “قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا” (البقرة: 38)، فلفظ “اهبطوا” هنا معناها أنهم كانوا بالأعلى في السماء ثم هبطوا، الرد أن “اهبطوا” ليس معناها بالضرورة النزول من أعلى إلى أسفل ففي الآية: “اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ” (البقرة: 61) تعني مجرد الذهاب إليها.

الأدلة السابقة تقودنا بالتالي إلى استنتاج أن آدم لم يكن أول إنسان بل هو وُلد لأبوين كالباقين ومثله حواء، وهذا يتماشى مع آية: “إنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ” (آل عمران: 33)، فالآية تقول أن الله “اصطفى” آدم مما يعني بالضرورة أنه كان هناك آخرون موجودين بالفعل حتى يصطفي الله آدم من بينهم.

الحقيقة أن هذا الاستنتاج أجاب عن سؤالين أرقاني لفترة طويلة من حياتي فكنت أتفادى التفكير فيهما وهما:

  1. كيف وسوس الشيطان لآدم وحواء وهما في الجنة بعد أن طُرد هو منها؟ إذا قبلنا بتفسير أن آدم وحواء كانا يعيشان في جنة أرضية غير الجنة السماوية التي طُرد منها الشيطان تصبح الإجابة سهلة جدًا.
  2. كيف عرفت الملائكة أن الإنسان سوف يفسد في الأرض ويسفك الدماء قبل أن يُخلق طبقًا للآية: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ” (البقرة: 30)، مع العلم أن الغيب لا يعلمه إلا الله؟ مرة أخرى نجد الإجابة واضحة إذا سلمنا بأن آدم لم يكن أول إنسان بل كان هناك آخرون يفعلون هذه الأشياء ومن هنا عرفت الملائكة.

هكذا، وبالحجة والمنطق، غيّر د. عمرو مفاهيمي بشكل جذري وتغير موقفي تمامًا من نظرية هي الأسوأ سمعة بين المسلمين بل المتدينين عمومًا، فقد حفزني على تحطيم الجدار الذي احتميت داخله سنين لأشتمّ أخيرًا رحيق المعرفة.

بالتأكيد أنا لا أتوقع أن كل من سيقرأ هذا المقال سوف يخرّ انبهارًا ويسلم قناعاته عن طيب خاطر، بل سيقاوم المعظم كما قاومت أنا في وقت من الأوقات، ولكن كل ما أتمناه أن يكون هذا المقال على الأقل بمثابة الجذوة التي تشعل فتيل التفكير خارج الحدود الآمنة التي بنيناها لأنفسنا، وأن يسأل كل مقاوم نفسه هذا السؤال: “من يحجر على الله؟”.

         

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست