الحالة المصرية وتأصيل الصراع
الحالة المصرية فريدة من نوعها من حيث الأسباب الحقيقية للصراع الدائر منذ الربيع المصري، وحتى الآن، بخلاف ما قد تم تصديره وشاع نشره وتلقته أوساط العامة والمختصين؛ وكأنه مسلمة يتناولها المهتمون بالشأن المصري داخليا وخارجيا بالتحليل والتفسير، فبالرغم من أنها تتشابه مع كثير من دول الربيع العربي، سواء تلك التي تحول ربيعها إلى صيف شديد الحرارة ملتهب حارق للمكون – كما هي الحالة في سوريا وليبيا واليمن – أو تلك التي بدأ جليد الشتاء يجمد حراكها وتحولاتها نحو تحقيق أهداف ربيعها التي قام من أجلها، محاولا العود إلى عرين الدكتاتورية القديمة.
كما هي الحالة التونسية، لولا الوعي الواضح الذي أبدته القوى ذات التأثير في المشهد السياسي التونسي، برغم خلافاتها الأيدولوجية للحقت تونس بالمحرقة الملتهبة في دول الربيع الراحل عن أهلها، إلا أن الحالة المصرية رغم تفردها فيما آل إليه حال ربيعها، حيث إنه لم يتحول إلى صيف شديد الحرارة، حارق لكل مكوناتها كما سبق، ولا إلى شتاء قارص متجمد؛ فهي لا إلى هؤلاء جنحت ولا إلى هؤلاء وصلت.
فقد توقف ربيعها بين هؤلاء وهؤلاء واقتصرت محرقتها في رابعة، وما تلاها، وثبت جمودها إلى الرجوع عند بداياتها عند الخامس والعشرين من يناير، كأنه لم يكن في مصر ثورة ولا مر على مصر ربيع.
عند النظر والتأمل لأسباب الصراع الحقيقي في الحالة المصرية، والتي تمثل الإشكالية الحقيقية التي باستمرارها يستمر الصراع؛ وبحسمها أو تسويتها ينحسم، وتلحق مصر بربيعها الخاص بها؛ لينتشر مؤثرا في كل ملفات المنطقة والإقليم، نجد أن الأسباب الحقيقية للصراع في الحالة المصرية يمكن إجمالها في أربعة أسباب أساسية حقيقية غير فرعية.
يأتي على رأسها الأفكار التي يجب أن تحكم الدولة ونظامها وعلاقاتها الداخلية، وثانيها المحافظة على المصالح الغربية في مصر والمنطقة، وعلى رأسها أمن إسرائيل، ثم تأتي محاولات الحفاظ على مصالح المكونات الفكرية والطائفية والرأسمالية التابعة للقوى الغربية والمتوافقة معه، ثالث هذه الأثافي. وآخرها الفئة الأولى بالسلطة، والمؤهلة للحفاظ على أهداف القوى الداخلية والإقليمية والدولية صاحبة المصالح في مصر.
من أهم الإشكالات، وأكثرها تعقيدا في الحالة المصرية؛ الأيديولوجية التي يجب أن تحكم الدولة والنظام والمكونات المصرية، فهي تمثل حقيقية الخلاف بين تصور المكونات المصرية الوطنية، والتي يمكن إجمالها في ثلاثة مكونات من حيث قبولها لتلك المراد لها الهيمنة أو رفضها أو محاولة الوقوف في الوسط بين هؤلاء وهؤلاء، فبينما تنادي وتطالب التيارات الإسلامية وجمهورها بأن تكون الشريعة الإسلامية هي الحاكمة المهيمنة – حسب رؤيتها الخاصة بها – نجد على الطرف الآخر تحالفا يضم الكنيسة وشعبها والقوى الليبرالية واليسارية والرأسمالية والطبقة الحاكمة والمتحكمة رافضين لذلك، في حين أن الأغلبية الشعبية غير السياسية في مصر لا تتنازع هذا الأمر سواء بالمطالبة أو الرفض؛ فهي مغيبة في مطالبها اليومية والحياتية، غير أنه يتم استدعاؤها من كلا الطرفين ضد الآخر، حسب خطاب كل منهما لها.
هذا الخلاف الداخلي حولها؛ لكل فريق مبرره ورؤيته وقراءته وخلفيته، سواء في القبول أو الرفض أو الوقوف وسطا، لا مجال هنا لمناقشتها وبحثها ونقدها، ولكن الجدير بالذكر هنا أن الفريق الرافض للأيديولوجية الإسلامية وجد من يسانده من القوى ذات التأثير الإقليمي والدولي لتوافق مصالحهم جميعا، وهذه الدول الكبرى والمؤثرة اتخذت قرارها بألا تعلو مصر أية أيديولوجية لا تحقق مصالحهم أو تصوراتهم، ويرون في الفكرة الإسلامية خطرا على عقائدهم وأفكارهم ومصالحهم ومصالح حلفائهم في الداخل المصري.
من أهم مصالح القوى الغربية في مصر الحفاظ على أمن إسرائيل والملاحة في قناة السويس، وتدفق النفط، والتحكم في عدم تحول المنطقة العربية إلى منطقة إسلامية موحدة أيديولوجيا، أو تعلوها أنظمة وطنية مستقلة تمتلك قرارها واستقلاها الحقيقي، سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية، فتتحرر من قيود الغرب وتهدد مصالحه في المنطقة والعالم، فتوافقت هذه القوى على خطورة وصول أنظمة وطنية تعبر عن إرادة الشعوب، وتحقق الاستقلال الحقيقي له، فوقفت حائلا بينها وبين التحرر من قبضتها.
الحفاظ على مصالح المكونات الطائفية والأيدولوجية المتوافقة مع القوى الغربية والإقليمية، والمحققة لمصالحها هو من أهم الأسباب التي تدفع القوى الإقليمية والدولية؛ لتتدخل في الشأن المصري وتؤثر عليه في الاتجاه المناسب لهذه المكونات؛ لأنها تحقق التوازن المراد تحقيقها في المشهد المصري من وجهة النظر الغربية، فهذه المكونات تحقق مصالح القوى الدولية والإقليمية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ولاسيما أن هذه المكونات تعد العقبة الأقوى التي تستخدم ضد وصول التيارات الإسلامية للحكم.
إن من أهم ما يشغل المكونات والقوى الإقليمية والدولية الرافضة للأيدولوجية الإسلامية هي الفئة أو الفصيل والمكون المؤسسي الذي يجب أن يحكم مصر فيحقق مصالح هؤلاء ومكانتهم المتميزة، فقد حاول الغرب تصعيد قوى جديدة مواليه له بديلة عن المؤسسة العسكرية بشكل شبه ديمقراطي، أو هكذا بدا الأمر؛ غير أنها أخفقت، ووصل للحكم تيار إسلامي، تعتقد هذه القوى أنه لن يحقق مصالحها أو يحافظ عليها، بل يشكل خطرا داهما عليها، لذلك أعدت لإعادة الحكم للمؤسسة العسكرية مرة أخرى، فهي قادرة على تحقيق مصالح جميع المكونات ذات الاهتمام، وكذا مصالح دول الإقليم والغرب.
تلك هي الإشكالات الحقيقية، والتي ستظل شوكة في الحلق المصري، تقتله أو تخنقه، إذا تحرك الجسد المصري محاولا التحرر التام والكامل، دون أن يتوافق المصريون ـ أنفسهم ـ على تصور حول هذه الإشكالات وكيفية مواجهتها، وهو الأمر الذي يجب أن يتوقف أمامه المصريون؛ لمحاولة تسوية مشكلاتهم بأيديهم، بروح التوافق وبآلية الحوار.
إن العقلية المدبرة والمسيطرة على الوعي الجمعي المصري، والمغيبة له أرادت متعمدة أن تطور هذه الأسباب، لدرجة التغير التام، والعام لها، حتى بدت أسبابا غير الأسباب، وإشكالات غير الإشكالات، فجعلت من أخطاء وإخفاقات التيارات الثورية، وغياب وعي العامة، وطمع الخاصة، أسبابا للصراع، فاستحواذ تيار الإخوان، وقلة خبرتهم وسذاجتهم في الإدارة، وأخطاؤهم في الخطاب، وتسرع وتهور شباب الثوار، وقلة خبرتهم، ثم رفض المؤسسة العسكرية للإخوان وإرادتها الحكم والهيمنة، وغير ذلك مما لاشك في حدوثه بنسب متفاوتة، وخاضع للتحليل والتبرير عند البعض، ومسلمة عند الآخرين راغبة في إخفاء الأسباب الحقيقية؛ لتظل المشكلة المصرية عصية على التسوية، لا شك أن البادي بأنه أسباب ليس من الأسباب الحقيقية للصراع الذي ظهر عقب الربيع المصري، مرورا بمحارقه، ومازال هذا الصراع قائما بسببها، وفي تقديري: أن الأسباب الحقيقية تلك التي قلناها، وهي التي يجب أن تتوجه أنظار المكون المصري لها ويتناولها بالحوار، ويسعى للتوافق حولها على تصور محدد يحسم الخلاف عند محاولة تسوية الأزمة المصرية، سواء عن طريق المصالحة الوطنية أو طريق التسوية السياسية أو الثورة السلمية.
تلك وجهة نظر للأسباب الحقيقية للصراع في الحالة المصرية التي تدلل على أهمية الوقوف عليها؛ لطرحها للنقاش والحوار؛ سعيا لإيجاد توافق حولها، وسنسعى في مقال قادم ـ إن شاء الله ـ لتقديم مساهمة في إطار إيجاد تسوية يمكن التوافق عليها لهذه الإشكالات التي تعد الأسباب الحقيقية لتجذر الصراع، وتجدده كلما لاحت في الأفق بادرة أمل للخروج من نفق الصراع المظلم والمهدد لاستقرار واستقلال الوطن.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست