“عام عسلٍ” إيرانيّ
أيمن الصفدي
احتفل الرئيسان الأميركي والإيراني بدخول الاتّفاق النوويّ بين طهران ومجموعة “الخمسة زائد 1″ حيّز التنفيذ إنجازاً تاريخيّاً. أوباما قدّم بدء “يوم التنفيذ” دليلاً على جدوى الديبلوماسيّة في تحقيق الأهداف. وروحاني رأى إليه “صفحةً ذهبيةً” في تاريخ الدولة الفارسيّة والمنطقة. التقويمان مضلّلان.
أوباما محقٌّ في أنّ الديبلوماسيّة نجحت. لكنّ النجاح في هذه الحالة كان إيرانيّاً. بدهاءٍ ديبلوماسيٍّ أفاد من تعطّش الرئيس الأميركي تسجيل أيّ إنجازٍ في سياسته الخارجيّة، قايضت إيران ما لا تملك بما تحتاج: لم تملك طهران القنبلة النوويّة. لكنّ العقوبات والعزلة الدوليّة كانتا حقيقتين موجعتين لها، ومعيقتين لسياساتها العدوانيّة والتوسّعيّة في المنطقة. استطاعت إيران انتزاع قرارٍ برفع العقوبات وإعادة تأهيل اقتصادها، مقابل التخلّي عن السعي لتطوير سلاحٍ نوويٍّ تعرف هي قبل غيرها أنّ كلفة امتلاكه أكبر بكثيرٍ ممّا تستطيع أن تتحمّل.
تستطيع طهران العيش من دون سلاحٍ نوويّ. لكن ليس من المؤكّد أنّها أرادت فعلاً تطوير القدرة العسكريّة النوويّة، على الأقلّ في المرحلة الحاليّة. عرفت طهران كيف تبني خوف واشنطن من حصولها على القنبلة النوويّة وتوظفه أداة ضغطٍ لفرض شروطها على رئيسٍ أميركيٍّ مسكونٍ بهاجس الخروج من البيت الأبيض بسجلّ فشلٍ كاملٍ في السياسة الخارجية. الاتفاق النوويّ نجاحٌ زائفٌ. لكن من يقنع أوباما بذلك؟
الأخطر أنّ إيران تعرف أنّ الحفاظ على هذا “الإنجاز” أولويةٌ للإدارة الأميركية حتّى تغيرّها العام المقبل. معنى هذا أنّ أمام إيران “عام عسلٍ” تستطيع خلاله فعل الكثير لخدمة أطماعها الإقليميّة، وهي مستكينةٌ إلى أنّ ردّ فعل واشنطن سيكون محكوماً بحماية الاتفاق النوويّ. إيران أذكى من أن تقدم على أيّ فعلٍ يشكّل تهديداً مباشراً لأميركا، وبالتالي إجبارها على تحركٍ يهدّد المكتسبات التي انتزعتها وفق الاتفاق. ساحة تحرّكها ستكون العالم العربي، حيث الكلفة محسوبةٌ، والاهتمام الأميركي في تراجع. وبتصرّف طهران الآن حوالي مائة مليار دولار ستستخدم معظمها في تمويل سياساتها التوسّعيّة وتدخلاتها المدمّرة في شؤون العرب.
ظنّ أوباما ساذجاً أنّ الاتفاق سيقوّي ما يسمّى معسكر “المعتدلين” في إيران. لكنّ كشف ركاكة هذا الظن جاء سريعاً، حين منعت القيادة الثورية في طهران أكثر من تسعين بالمائة من “المعتدلين” من المنافسة في الانتخابات البرلمانيّة التي ستجرى الشهر المقبل.
يمكن أن ينخدع من لا يعرف إيران، أو من يختار أن يدفن رأسه في الرمال، بالتصريحات المعسولة لقادتها “المعتدلين” بعيد بدء تنفيذ الاتفاق. فمن يستمع لروحاني، أو يقرأ ما كتبه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في صحيفة “نيويورك تايمز”، سيظنّ إيران دولةً وديعةً يحكمها نظامٌ ينهل من إرثٍ ديمقراطي يقدّس حقوق الانسان، ويسعى إلى بناء إقليمٍ يسوده السلام والتعاون.
لكنّنا نعرف إيران، ونعيش تبعات أفعالها في سورية والعراق واليمن ولبنان. سيتحدّث “معتدلو” إيران إلى واشنطن بما تريد أن تسمع، وسيضمنون صمت الغرب بالمشاريع الاقتصاديّة التي تسابقت وفوده إلى طهران لضمانها.
بيد أنّ “معتدلي” إيران و”متشدّديها” سيستمرّون بسياساتهم العدوانيّة المستهدفة السطوة في بلاد العرب وعدم استفزاز الغرب. سيمطر المتشدّدون الغرب بالشعارات المعادية، وسيرضيه “معتدلوها” بالفرص الاقتصادية. لكن المتشدّدين والمعتدلين سيظلّون يمطرون الأطفال بالقنابل في سورية ويغذّون الانقسام في العراق ولبنان واليمن.
تلك كانت، وما تزال، سياسة إيران. تحمي حدودها من أيّ نزاعٍ وتطوّر أدوات ضغطها لانتزاع حضورها الدولي عبر إشعال الحروب في بلاد العرب. لا كلفة عليها من موت السوريين واليمنيين والعراقيين، وبالتالي لا حدّ للمدى الذي ستذهب إليه في إغراق هذه الدول في الصراعات من أجل فرض نفسها القوّة الأعظم في الشرق الأوسط.
الاتفاق النووي بداية مرحلةٍ أصعب للعرب. ثمّة إدراكٌ عربيٌّ لذلك. لكنّ ترجمة الوعي بالخطر فعلاً مؤثّراً ما يزال عمليّةً بطيئة. القادم أسوأ في كل بؤر الصراع في المنطقة من سورية إلى اليمن. ولن يمرّ وقتٌ طويلٌ قبل أن تقرّ واشنطن أنّ ما اعتبرته إنجازاً تاريخيّاً ليس إلا كارثةً مؤجّلة، لأنها أهملت ضرورة معالجة السياسات الإيرانيّة بكلّيتها.