جنيف الثالثة ليست ثابتة
تبدو نذر الفشل، أكثر وضوحا، من تباشير النجاح، غداة افتتاح النسخة الثالثة من أعمال مؤتمر جنيف الخاص بالأزمة السورية، ولا يلوح في الأفق ما يمكن اعتباره أساسا للحل، رغم التحضيرات والاستعدادات التي سبقت المؤتمر في فيينا والرياض، فضلا عن الاتصالات الثنائية التي لم تنقطع طوال الفترة الماضية بين الأطراف المختلفة.
المعارضة تدخل المفاوضات، هذه المرة، وهي في أضعف حالاتها، فالتشرذم الذي كانت تعاني منه منذ جولة جنيف الأولى، سواء على مستوى التمثيل، أو على مستوى الرؤية السياسية، تفاقم للدرجة التي أصبحت فيها خلافات المعارضة تطغى على الخلافات مع النظام، فالاعتراضات والاشتراطات على من يشارك في المؤتمر، ومن يقصى، أصبحت تأتي في معظمها من جبهة المعارضة أكثر مما تأتي من السلطة، فباتت المعارضة، هي نفسها، من يتحفظ على مشاركة هذه القوة، أو تلك، ويعترض على هذا الفصيل، أو ذاك.
ولعل نجاح بعض الرموز، والقوى، التي كانت صنيعة للنظام أو محسوبة عليه، أو مرسومة على مقاسه، في اختراق جبهة المعارضة والجلوس للتفاوض كأحد أطرافها، يدل على مستوى الخلافات التي تعصف بقوى المعارضة ويقلل فرصها في الوصول إلى رؤية مشتركة في مواجهة ما يطرحه النظام من حلول وتسويات.
المعارضة أيضا، تدخل الجولة الثالثة، وهي أضعف ميدانيا من كل الفترات الماضية من عمر الثورة السورية. فقد فقدت، ميدانيا، الكثير من المناطق التي كانت تسيطر عليها، وباتت مهددة حتى في المناطق التي لا تزال تنتشر فيها، ويبدو أن هذا الوضع الميداني الصعب قد انعكس على خطابها السياسي، فبعد أن كانت تتمنع المعارضة عن قبول أي موقف من شأنه إضعاف مطالبها الأساسية بإقصاء النظام وإبعاده عن أي دور في مستقبل سوريا، باتت تستجدي وقفا “إنسانيا” لوقف إطلاق النار، وهو ما يشي بحجم التراجع الميداني الذي وصلت إليه وحجم الارتباك السياسي الذي تعانيه.
إلى ذلك، فإن المناخ الإقليمي والدولي، لا يبدو مواتيا للتصلب، أو الإصرار على المواقف التقليدية التي عبرت عنها المعارضة في كافة المراحل السابقة، فالحرب التي تشنها دول التحالف على الإرهاب تأخذ من رصيد المعارضة، أكثر مما تضيف إليه، فالقوى التي توصف بالمعارضة المعتدلة أصبحت بشكل أو آخر هدفا من أهداف الحرب على الإرهاب، إما بشكل معلن أو بشكل خفي.
وتواتر الأنباء عن قصف بعض المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المعتدلة يظهر أن هذه الحرب استخدمت كستار لإضعاف المعارضة المعتدلة، وتصفيتها، إن أمكن، أو إضعافها للدرجة التي لا تستطيع معها فرض تسويات، أو حتى المساومة على شروط معقولة للحل.
يضاف إلى ذلك أن حلفاء النظام السوري، وخاصة إيران، يجدون ترحيبا متزايدا في الساحة الدولية للدرجة التي يمكن أن يؤثر ذلك على ميزان التفاوض في جنيف، فالدول الغربية، وخاصة الأوروبية، التي كانت تتبنى شعارات صريحة بضرورة رحيل النظام، كشرط من شروط التفاوض، باتت تحسب حسابا للموقف الإيراني الذي يترجم، الآن، على شكل مصالح اقتصادية وتجارية تعكسها الاتصالات المكثفة بين إيران والعواصم الغربية المختلفة.
علاوة على ذلك، فإن تفاقم قضية اللاجئين السوريين والتغير في المزاج الغربي تجاه هذه المسألة، بات عاملا ضاغطا على المعارضة للقبول بتسويات سياسية تخفف من عبء اللجوء السوري، وتفتح الباب أمام عودة أعداد كبيرة منهم إلى سوريا، وبالتحديد للمناطق التي استعاد النظام السيطرة عليها، والتي يمكن أن يجعل منها هذا النظام، نموذجا، يساعده في ترميم صورته القمعية.
باختصار مؤتمر جنيف، الذي كان في بداية إنطلاقه في عام 2012 ، تعبيرا عن نجاح المعارضة السورية وقدرتها على إجبار النظام على الجلوس على مائدة التفاوض، لن ينطبق عليه المثل الشعبي “الثالثة الثابته”، فهو يتحول اليوم إلى ما يشبه الوسيلة التي يستعيد من خلالها الرئيس بشار الأسد ونظامه شيئا من قوته السياسة المفقودة، فبخلاف أن شرط استبعاد الأسد من أي حل لم يعد مطروحا، فإن تقاسم السلطة بين النظام والمعارضة بات مرهونا بميزان القوى القائم على الأرض والذي يميل بشكل واضح الآن إلى جانب النظام.
ولعل تصريحات الناطق باسم الوفد الحكومي إلى جنيف من أن دمشق لن تقدم للمعارضه، ما فشلت عن تحقيقه في الميدان، يعكس إلى حد بعيد حجم الفرص المتوفرة أمام حل سياسي، تتفاوض عليه معارضة متشرذمة، ونظام قمعي يتمسك بالسلطة، ويتشبث بما بقي له منها.