اخبار العراق الان

عاجل

محمد حسنين هيكل.. الغائب الحاضر

محمد حسنين هيكل.. الغائب الحاضر
محمد حسنين هيكل.. الغائب الحاضر

2016-02-23 00:00:00 - المصدر: راي اليوم


خير الدين حسيب

تمتد علاقتي المستمرة مع الراحل محمد حسنين هيكل فترة زمنية تزيد على نصف قرن (54 سنة)، حيث التقيت به لأول مرة في القاهرة أواخر عام 1962، وكنت في زيارة للقاهرة لدراسة التحول الإشتراكي في مصر، بعد صدور القرارات الإشتراكية وميثاق العمل الوطني، قادماً من سوريا قبلها، بعد دراسة القرارات الإشتراكية التي صدرت فيها أثناء وحدة مصر وسوريا في الجمهورية العربية المتحدة، تمهيداً لما كنتُ أنوي القيام به في الاتجاه نفسه في العراق، وهو ما تم فيما بعد في يوليو/تموز عام 1964.

وكان الإنسجام بيننا كبيراً منذ ذلك اللقاء، ومن خلاله تعرفت على المرحوم الدكتور عزيز صوفي وزير الصناعة، وقائد عملية تصنيع مصر حينئذ والذي أذهلني عند زيارتي له لأول مرة حينئذ في مكتبه، أنه ورغم عظم مسؤولياته لم تكن على مكتبه حتى ورقة واحدة! ومن خلال هيكل أيضاً استطعت رؤية والاطلاع على كل ما كنت أريده، ومنها مركز الأبحاث الإقتصادية في رئاسة الجمهورية الذي كانت دراساته وراء كثير من  تلك التحولات الإشتراكية في مصر، وبخاصة في مجال التجارة الخارجية والداخلية ومشاركة العمال في الإدارة والأرباح.

ومن خلال المرحوم هيكل، مهد لي ولأول مرة مقابلة الرئيس جمال عبد الناصر، وكان لي نقاش معه حول تلك التحولات وما جاء في الميثاق حول مصطلح “الإشتراكية العلمية” وعما إذا كان يعني به المفهوم الماركسي للإشتراكية، حيث نفي ذلك، وقام بعد ذلك في احتفال “يوم العلم” في مصر بتوضيح ما يقصده بالإشتراكية العلمية، وكان أرسل لي قبل ذلك خبراً مع الأخ أديب الجادر بأنه سيوضح ذلك في خطابه في “يوم العلم”.

***

واستمرت علاقتي الحميمة مع هيكل بدون انقطاع، وزادت وثوقاً، إلى الحد الذي كنت قد علمتُ منه، وهو سرّ أُعلن عنه الآن ولأول مرة، عن “حرب اكتوبر 1973″، وقبل وقوعها، حيث قمتُ عندها، ومن أجل التمهيد لمساهمة الجيش العراقي في المعركة، (إضافة إلى سرب طائراته “الهوكر هنتر” البريطانية الطويلة المدى والذي كان موجوداً في القاهرة، والذي ساهم منذ اليوم الأول من حرب اكتوبر في الغارات الجوية على إسرائيل في سيناء وفقد معظم طائراته فيها)، حيث كان قسم كبير منه مشغول في الحرب مع الأكراد في العراق وقمت فور ذلك بالاتصال بالمرحوم الملا مصطفى البرزاني، من خلال وزيره حينئذ المرحوم محمد محمود عبد الرحمن (سامي)، وبدون علم الحكومة العراقية، لإعلان هدنة مع الجيش العراقي في حالة قيام الحرب مع إسرائيل، ولتمكين العراق من المشاركة بجيشه في تلك الحرب، وهو ما تم فعلاً، حيث أرسل العراق قسماً من جيشه إلى سوريا، حين كانت دمشق مهددة بالسقوط، اضطرت الدبابات العراقية في طريقها إلى دمشق أن تسير على الجنازير لعدم توفر ناقلات دبابات لديه، حينئذ، لنقل تلك الدبابات، وما أن وصلت القطعات العراقية دمشق حتى دخلت مباشرة في المعركة وبدون استراحة كما كانت تقضي به التقاليد العسكرية.

***

ورغم أننا كنا ننتهي في معظم لقاءاتنا، وبعد تبادل المعلومات ووجهات النظر، إلى الإقتناع عموماً والإتفاق حول وجهات النظر، إلا أنها لم تكن تخلو أحياناً من خلافات في وجهات نظرينا. وكان منها موضوع موقفه من القيادات الناصرية في أحداث مايو 1971 حيث “كان الحب مفقودا” بينه وبين تلك القيادات، ومسألة قيام وتشكيل حزب ناصري في مصر. فلم أكن راضياً عن موقفه من القضية الأولى، وكان ذلك موضع عتاب استمر بيننا رغم أنه لم يؤثر على استمرار علاقتنا الودية، والذي خفف منه تغير موقفه من السادات و”خريف الغضب”، كما أنه ظل يحتفظ، استثناءً، بتواصل وبعلاقة مودة واحترام مع الناصري محمد فايق.

أما حول الحزب الناصري، ورغم أننا كنا مختلفين ابتداء، لكنني أسارع بالقول بأنه كان على حق فيما كان يراه وكان أكثر معرفة وعمقاً بواقع “التيار الناصري” في مصر منّي. فلم يكن يؤيد قيام “حزب ناصري” في مصر، إذ كان يرى أن الظروف الموضوعية للتيار لن تُمكِّن من قيام حزب ناصري في مصر يستطيع أن يمثل ويستوعب ويحافظ على انجازات عبد الناصر واستكمال المسيرة على ضوئها، وأن الحزب سيكون أصغر من التيار الناصري، وأن كثيرين يمكن أن يكونوا في التيار ولكنهم لا يصلحوا للعمل الحزبي وأن الحزب لن يعكس حجم التيار الناصري الواسع في مصر. وكانت الأيام والأحداث التالية وما حدث للحزب الناصري وما آل إليه شاهد على عمق وصواب نظرته.

***

لقد تعلمتُ واستفدتُ من الأخ هيكل الكثير. لقد كان النافذة الذي يطل العرب من خلالها سياسياً على العالم، وكانت تلك الإطلالة مما ساعد البعض منا، وأنا منهم، أن نعيش في عصرنا وأن نحاول اللحاق به. كان وجود هيكل في القاهرة أحد الدوافع المهمة لزياراتي للقاهرة، وأشعر بغيابه، وبسبب وجود وعدم استطاعتي بناء مثل تلك العلاقة التي بنيتها معه لأكثر من نصف قرن، إنني يتيم تلك الصداقة، والتي كانت أكثر من صداقة. والمثل يقول “من خَلَّف ما مات” وقد خَلَّف لنا هيكل الكثير من الفكر السياسي بعد مماته والذي سيبقيه حيّاً معنا.

محمد حسنين هيكل.. الغائب الحاضر